top of page
صورة الكاتبعمر زكريا

دلّال ڪتبٍ ساذج غيّر مصير الفلسفة

عمر زكريا*


سوق الورّاقين، مقدّمة لا بُدَّ منها...

أصواتٌ مرتفعة تملأ الشارع، حوانيت مصفوفة بجانب بعضها على طوله. منها ما هو واسعٌ يستقبل الزوّار ومنها ما هو أقرب للكشك. تختلط صرخات الدلّالين بإلقاء الشعراء فيما يتصارع العلماء في نقاشاتهم متناسين ومتجاهلين أصوات هؤلاء وأولئك. لا بُدَّ لتلك الحوانيت أن تكون مسقوفة لتحمي الورق والكتب التي فيها. ولا بد لها من أن تكون كذلك لتأوي جمع المتناظرين فيها.

كلُّ ما نعرفه عن سوق الورّاقين هو أنّه مجموعة من الحوانيت التي كانت تصطفُّ بجانب بعضها على امتداد شارعٍ يصل آخره إلى إحدى المدارس أو مسجدٍ جامع تدور فيه الكثير من حلقات العلم. أو أنّها كانت قريبة من إحدى الساحات التي يُملي فيها العُلماء معارفهم على التلامذة حيث كان يُشاهَد هُناك أيضًا ورّاقون يسعون لالتقاط هذا العِلم في كتابٍ ليبيعوه فيما بعد.

لطالما كنّا نسمع في العالم العربي أنَّ سوق الكتاب في انهيار ويؤول إلى السقوط والانتهاء. لكن كيف يحدُثُ هذا بعد المطبعة والطباعة في حين أنَّ النَّسخ لاقى ازدهارًا غير مسبوق؟

يبدو أنَّ سوق الورّاقين كان يتّكل على شكلٍ من أشكال المركزية الثقافية في المدن الكُبرى التي كانت تحتوي على المؤسسات المهمّة في المجال الثقافيّ. بداية بالقصور التي يسكنها الحُـكّام الداعمون للحركة العلمية مرورًا بخزائن الكتب العامّة ودور الترجمة كبيت الحكمة في بغداد ودار الحكمة في القاهرة. في حين أنَّ المركزية الثقافية في العالم العربيّ المُعاصر تدور حول المموّلين الذين يموّلون الجوائز للكتب الأدبية. أمّا محيط الجامعات فأصبح يكتظُّ بالمطاعم والمقاهي.

إنّ الكتب والمراجع التي تحاول دراسة سوق الورّاقين تذهب إلى تعداد النشاطات فيه وذكر أبرز مشاهير الورّاقين ساعيةً إلى المُفاخرة بالماضي المُشرِق للحركة العلمية. قد يكون أقلُّ تلك الدراسات تكلّفًا تلك التي وضعها حبيب الزيّات في مجلّة الشرق عام 1947 بعنوان ’الوراقة والورّاقون في الإسلام‘ لكنّها مع ذلك لا تُفسّر سبب ازدهار الكتاب حينها مُقابل هبوطه لاحقًا، ربما لأنّ النصف الأوّل من القرن العشرين شهد نهضة كبيرة في عالم النشر.

إنَّ مركزية هذه الأسواق تجعل من العالِم الكاتِب يستسهل تخيُّل قارئه المُفترض. فكلُّ ما يبغيه هو أن ينجح كتابه في الوصول إلى سوق الورّاقين في مدينة كبيرة ولن يحتاج جهدًا بعد ذلك لوصول كتابه إلى أسواق الورّاقين الأُخرى في مُدُنٍ أُخرى فيغدو هذا الكاتب من مشاهير عُلماء أو أدباء عصره. وإلّا فكيف تُفسَّر شهرة مجموعة العلماء المجهولي الهوية، المعروفين باسم إخوان الصفا، الذين كانوا يقطنون البصرة حيث وصل صيتهم في أثناء فترة تأليفهم إلى الأندلس؟

الوِراقة والمكتبات في العصر العباسي | رسم تخيُّلي

الورّاق الدمشقي إن زار بغداد فسيلجأ إلى سوق ورّاقيها ليأخذ عنهم أفضل كتبهم ليبيعها في أسواق مدينته. هذه المركزيّة جعلت للكتاب شبكةً تجاريّة تُسهّل على القارئ تَتَبـُّع مصادر المعرفة لينهل منها. في المُقابل فإنَّ تسويق الكتاب في العالم المُعاصر يُعَدُّ من أبرز تحديات الموزّعين رغم أنَّ التقنيات الحديثة مكّنت القارئ من طلب الكتب حتى بيته.

الأديب أو العالِم لم يكن يعتمد على مبيعات كُتبه في أسواق الورّاقين لكي يعتاش منه، إلّا إن كان هو نفسه ورّاقًا كياقوت الحموي. لقد كانت مهنة الأديب أو العالم بالعادة هي التدريس وأحيانًا، إن كان محظوظًا، قد يُنادِم أحد الأُمراء أو الخُلفاء أو يَقوم بمهمّة تهذيب أبنائهم وتدريسهم. وهناك نموذج آخر ظهر لاحقًا في العصر العباسي وهو الفيلسوف الطبيب أو العالِم الطبيب الذي يتفرّغ للطب كموظّف في بيمارستان (مستشفى) خلال النّهار ويؤلّف مساءً. أمّا بيع الكُتُب فقد كان مربحًا للورّاقين فقط.

علاقة عُلماء وأدباء العصر العباسيّ والعصور التي تلته بسوق الورّاقين كان أكثر من مكان تبضّعهم فقط بل كان مكان تجمّعهم ومركزًا لعقد المناظرات واللّقاءات والدروس العامّة. بعضُ الحوانيت عُرِفَت بكونها واسعةً من الداخل لهذه الأغراض. وبالطبع كان أيضًا مرجعهم للوصول إلى الكُتُب وأدوات الكتابة.

الوِراقة كان اسمًا يُطلَق على أربع حرفٍ مختلفة، كان بعض الورّاقين يجمع أكثر من واحدة منها في وقت واحد وأحيانًا جميعها، وفي بعض الحالات واحدة منها فقط. والحِرَف هي، صناعة الكاغد (الورق) وبيعه، ونسخ الكتب وبيعها، وتجليد الكتب، وصناعة وبيع أدوات الكتابة الأُخرى كالأقلام بأنواعه والأحبار بأنواعها. هذه الظاهرة قد تُفسّر لمَ ما زلنا في اللّغة العربيّة المحكية إلى الآن نُطلِق اسم «مكتبة» على المكتبات العامّة، ومتاجر بيع الكُتُب، ومتاجر بيع القرطاسيّة، ومراكز الطباعة ونسخ الورق، رغم أنّها جميعًا أربع مُنشآت مختلفة ومن الواضح أنّنا لغويًا نملك من المفردات ما نستطيع به تفريقها عن بعضها ومع ذلك فهي جميعًا «مكتبات». ولا يخفى أن نجد متجرًا لبيع القرطاسيّة لديه آلات للطباعة والنسخ وربما رفٌّ واحد من الكتب المطبوعة معروضة للبيع.

جانب آخر من علاقة العُلماء والأُدباء بسوق الورّاقين هو أنّهم كانوا هم يدفعون للورّاقين لقاء نسخ كتبهم وبيعها إلّا في حالتين، الأولى أن يتبنّاهم أحد الأغنياء أو الأُمراء فيدفع عنهم أجرة الناسخ. الحالة الثانيّة هي كما مر، أن يكون ذلك الأديب مشهورًا فيبادر النُّساخ لنسخ كتبهم ودروسهم فيربحوا منها، لكن لم يكن هناك شيءٌ شبيه بالنشر المُعاصر من نِسَب المبيعات للكاتب وما شابه لأنَّ مؤسَّسة دار النشر هي مؤسسة ظهرت في مرحلة ما بعد المطبعة. لذا فمن الخطأ أن يُقال إنّ الناسخ كان يحلُّ محلَّ دار النشر في ذلك الزمان، هو على الأدق يحلُّ محلَّ المطبعة حيث إنَّ الكاتب ينشر ذاتيًّا إلا إن قام، كما سبق وأن قُلنا، أحدٌ بتبنيه.

النُّساخ أيضًا كانوا ينسخون الكتب حسب الطلب من القُرّاء، فكثيرًا ما نقرأ عن أُناسٍ أرادوا نسخة من كتاب ما ليكون ملكهم فيستعيروه من أحد ويوظّفوا نُسّاخًا ليلبوا هذه الرغبة. كما كان بعض النُّساخ موظّفين لدى كُتّابٍ ينسخون كتبهم أو كُتُبًا لهم، كأبي القاسم عبد الوهّاب بن عيسى الذي عَمِل ورّاقًا لدى الجاحظ، أو كعلّان الشعوبي الذي عمل موظّفًا نسّاخًا في بيت الحكمة.

إلّا أنّنا لنكون منصفين في الوصف فهناك أحدُ مظاهر الوِراقة كان يُشبه شيئًا من مشهد النشر الحديث. بعضُ دور النشر تُصدر طبعات خاصّة بالكلاسيكيات بل إنّ هُناك دور نشر متخصّصة بها. بالطبع لتعريف ما كتاب الأدب الكلاسيكيّ؟ هو وحده سؤال بحثٍ منفرد، أمّا وجه الشبه فيكمن في أنَّ بعض الورّاقين فضّلوا إغناء أنفسهم بالبيع المضمون عبر التخصّص بهذا الشكل؛ فقيل إنَّ ابن شهاب العكبري كان يشتري ورقًا بخمسة دراهم وينسخ عليه ديوان المتنبي بثلاث ليالٍ ويبيعه بمئة وخمسين إلى مئتي درهم. هذه الظاهرة في العالم العربي المُعاصر تذهب نحو الأدب الكلاسيكيّ المترجم، فهذا أقلُّ همًّا من التعامل مع الكُتّاب أو ورثتهم. ففي عالم سوق النشر المُعاصر، وخارج نظريات النقد الأدبي، فإنَّ الأدب الكلاسكيّ هو الأدب الذي أصبحت حقوق طبعه مَشاعًا.

حوانيت الوِراقة كانت ممتلكاتٍ خاصّة. أمّا المدارس ودور العلم فإمّا أنّها كانت حلقات في المساجد، وهي بذلك أقرب للوَقْف، وإمّا مؤسّسات تابعة للدولة تقوم على مهامَّ واضحة كالترجمة وتصنيف الكتب وتجليدها وتهذيبها. ولذلك لم يكن الورّاقون يستكتبون العُلماء والأُدباء كما تفعل دور النّشر الآن حيث تستكتب، أو تتبنّى من يكتب أصلًا، وتُعطيه أو تُعطيها نسبة على المبيعات. الكِتابة المُستقلّة المُعاصرة هي محاولة أكثر تعقيدًا، مِن قِبَل غير المرتبطين بمؤسّسة جامعية أو تعليمية، بالاستقلال عبر النشر مع مؤسسات خاصّة متخصّصة بذلك. هذه المؤسسات المعاصرة هي شركات خاصّة لها دمغتها حيث تضعه على الكتاب وتحتفظ بحقوق إعادة طباعته. ممّا يعني أنَّ الناشر المُعاصر أهميّته تكمن بأهميّة العناوين التي يصدرها، خاصّةً التي تشتهر منها، بالإضافة إلى نوعيّة إخراج الكتب لديه.

الورّاقون كانوا يشتهرون بأمورٍ أُخرى، ولكن ليس من بين مشاهير الورّاقين من اشتُهر بالكتب التي نسخها وباعها. ربما مردُّ ذلك يرجع إلى أنَّ حقوق النشر لم تكن بذي شأنٍ وقتها، فبكل بساطة يمكن أن يشتري ناسخٌ دمشقي كتابًا من ناسخٍ بغدادي فيعيد نسخه وبيعه في دمشق، وهذا عملٌ لا يخرج عن أيّ قانون.

ترتَّب على ذلك أنَّ أشهر النسّاخين المعروفين عُرفوا بفنّهم فكانوا إمّا خطّاطين بارعين كابن مقلة أو ابن البواب، أو عُرِفوا بمهارتهم في التجليد. وهُناك من عُرِفَ بسرعة إتمامه للكُتُب أو لكثرة أخطائه أو قلّتها. البعضُ عُرِفوا بسبب ملازمتهم النسخ لأحدٍ ما، كما مرَّ سابقًا. الغريب أنَّ الورّاقين في السوق كانوا يقرأون الكتب بصوت مرتفع أمام الناس بهدف مراجعتها قبل أخذ الرخصة من الكاتب بأنَّ الصيغة أصبحت نهائية وجاهزة للنسخ، بل منهم مَن كان يقرأ للترويج، إلّا أنَّ أيًّا منهم عُرِف برخامة صوته أو جمال إلقائه. علمًا أنَّ هذا السوق عَرف مهنة «المستملي» وهو الذي كان يُعيد إملاء ما يقوله العالِم على جمهور الطلبة والنُّساخ بصوت مرتفع إن كان الجمهور كبيرًا. لكنَّ هؤلاء لم يكونوا ورّاقين بل كانوا يعملون لدى العُلماء للصياح فحسب، ومن مشاهيرهم هارون المكحلة بن سُفيان بن راشد الذي كان يُعرَف بهارون الديك «لأنَّ صوته كان كالرعد».

شكلٌ آخر من مشاهير الورّاقين وهم الذين استغلّوا مهنتهم والوسط الذين هم فيه للتأليف، حيث كانوا إمّا كُتّابًا أو شعراء أو إخباريين أو محدّثين. أيّ أنَّ لا أحد منهم اشتُهِرَ لأنّه باع كتابًا معيّنًا. ربما اشتهر منهم مَن أصبح غنيًّا من هذه الحرفة تمامًا كما حصل مع ابن شاكر الكتبي، والذي ألّف أيضًا في التاريخ، رغم أنّه اشتُهر بسبب ماله وليس بسبب عناوينه التي باعها. في المُقابل هُناك مَن عُرِف بكرهه لهذه الحرفة بسبب فقره كأبي حاتم النيسابوريّ الذي وصف الوِراقة بهذين البيتين:

إنَّ الوِراقة حرفة مذمومة محرومة عيشي بها الزمن

إن عشتُ، عشتُ وليس لي أُكُل وإن متُّ، متُّ وليس لي كفن

ولكنّنا أيضًا عرفنا عنه ذلك لأنّه كتب الشعر. ومن مشاهير الورّاقين الكارهين لها كان أبو حيّان التوحيدي الذي وصف الوِراقة بحرفة الشؤم. كان التوحيدي طَموحًا يسعى لأن يكون مشهوراً بين العُلماء أو نديماً لوزيرٍ ما، واتخذ الوِراقة مدخلًا له لعالم العلم والأدب. تمامًا كالمثقّف المعاصر الذي يحلم بالعمل في مكتبة أو دار للنشر لحبّه للكتب فيكتشف بعد ذلك أنَّ العمل بهذه المهن لا علاقة له بما أحبّه في الكتب. كان التوحيدي يشعر بأنّه علق في هذه الحرفة. تلك الكراهية المُميتة لعلاقة الكاتب بالورقة والقلم. لا استغراب بأنَّ مشاهير الورّاقين كانوا مؤلّفين وليسوا باعة فحسب. فمن يكتشف الجانب المظلم والرتيب والممل من علاقة الإنسان مع القلم والورق وخطّ الحروف ويُقدِم رغم ذلك على التأليف بعد يومٍ طويل من النّسخ فهو جبّارٌ يستحقُّ الشهرة على ذلك. التوحيدي لم يقدر رغم ما حاول على تقبُّل حبسه، فأحرق بعض أعماله وأغرق بعضها الآخر، لكنّه ندم على لحظة الضعف هذه بعد فوات الأوان.

بعد عصور الانحطاط عادت صيغة الناشر- الكاتب وظهرت مع عصر النهضة العربية، فهي على ما كان يبدو الصيغة المنطقيّة للنشر أو الكتابة، أي أن تكونا مجتمعتين. لكنَّ هذا النموذج أخذ يضمحلُّ مع تغيُّر قواعد السوق. الناشر المُعاصر يروّج لنفسه على أنّه ناشر لأحد مشاهير الكُتّاب أو صاحب حقوق أحد الكُتُب المهمّة؛ عناوين الكُتُب المنشورة وأسماء الكُتّاب هي وصفة الصيت الجيّد لدور النشر. وكذلك الأمر لدى باعة الكتب المعاصرين، فالمعروف منهم هو البائع الذي يُجيد بيع الكتب بكثرة أو أنّه باع عنوانًا ما واشتُهر ببيعه أو امتلاكه في متجره.

صحيح أنَّ الاختلاف بين مشهد زمن الوراقة وسوق الكتب المعاصر يبدو فاصلًا بشكلٍ حاد من هذه الناحية. لكنَّ هناك ورّاقًا بُخاريًّا واحدًا فقط، اسمه ليس معروفًا لكنَّ ذكره أصبح مشهورًا لأنّه، وعلى عكس جميع مشاهير الورّاقين، ذاع صيته لأنّه باع كتابًا عنوانه معروف. لم يكن هو مؤلّفه، وكما قيلت القصة لم يكن صاحبه حتّى، بل كان دلّالًا عليه فقط، وباعه بسعرٍ بخسٍ جدًّا. لكنَّ هذه الصفقة كانت سببًا في نقلة غير مسبوقة للفلسفة الإسلاميّة...


ورّاق ابن سينا

هناك متعةٌ في قراءة الكتب عن الفلسفة الإسلاميّة، متعةٌ تفوق قراءة الفلسفة الإسلامية نفسها. ربما مرجع ذلك يعود إلى ما قاله ناصيف نصّار في ’طريق الاستقلال الفلسفي‘ في أنَّ: "المرحلة التاريخية الجديدة التي يعيشها العالم العربي تطرح على الوعي الفلسفي أسئلة جديدة مختلفة عن تلك التي طُرِحَت في العصور الوسطى." إنَّ تصريح نصّار يأتي في صيغة نقده التبعية في الفلسفة العربية المعاصرة من تياريّ الأصالة والحداثة فهو يقول بأنّهم: " أهل اقتباس أكثر ممّا هم أهل ابتكار".

لكنَّ هذا النقد لا يصاحبه أيُّ ادعاء بوجوب ترك الفلسفة العربية الوسيطة بالكامل لحساب أُخرى معاصرة أكثر مواكبة للإنسان العربي المُعاصر إنّما: "السؤال الفلسفي الأساسي الذي تطرحه المرحلة التاريخية الجديدة التي يعيشها العالم العربي اليوم هو السؤال عن الإنسان، وليس السؤال عن المعرفة (الذي يربط الوعي الفلسفي بتاريخ الفلسفة، القديمة والحديثة، ربطًا آسرًا). وليس معنى ذلك أنَّ السؤال عن المعرفة أصبح بدون فائدة أو مبرر، أو أنَّ السؤال عن الإنسان جديدٌ تمامًا في تاريخ الثقافة العربية. وإنّما معناه أنَّ السؤال عن الإنسان لم يكن سؤالًا مركزيًّا في فلسفة القرون الوسطى العربية الإسلامية، بالقياس مثلًا إلى مشكلة العقل والوحي، وأصبح في هذا العصر هو السؤال المركزي".

هذه الدعوة الاستقلالية للفلسفة تأخذ أصحاب الاختصاص إلى إعادة النظر في الفلسفة العربية نفسها ولكن ليس في تاريخها، المدوَّن منه على الأقل. وإذا كان الفلاسفة يعتنون بالنصوص، فإنَّ الشخصيات التاريخية الفلسفية هي المسبب الحقيقي لمتعة القراءة عن الفلسفة أكثر من قراءتها نفسها.

إنَّ المتعة في قراءة نصّ عن الفلسفة الإسلامية لا يتفوّق على النص الفلسفي نفسه لمجرّد ما قاله نصّار فحسب عن ابتعاد السؤال المركزيّ المُعاصر عن ذاك الوسيط. إنّما يعود أيضًا إلى ما تُصوّره الكتب التاريخية والنقدية التي تعالج الفلاسفة العرب بأنّهم قد خلقوا تيارًا فلسفيًّا يمكننا الإشارة إليه والقول بأنّها فلسفة عربية نتباهى بها أمام فلسفات العالم.

يبدأ غالبًا هذا التيار المزعوم، كما يصوّر مثلًا كمال اليازجي في ’معالم الفكر العربي في العصر الوسيط‘، من الشرق مع أبي يعقوب الكِندي وينتهي في الغرب مع ابن رشد. وكما فعل اليازجي، طرح الكثيرون من مؤلفي الكتب العامة عن التاريخ الفكري العربي ستة أسماء للفلسفة العربية الإسلامية يزيد عليها المتخصّصون في الفلسفة العربية بضعة أسماء لا تتجاوز أن تكون إضافة أو تابعة للتيار الأكبر المصنوع بهم. والأسماء الستة هي: الكِندي، والفارابي، وابن سينا من الشرق ثمَّ ابن باجة، وابن طُفيل، وابن رشد من الغرب. حيث، حسب اليازجي، يخفت نجم الفلسفة في الشرق مع موت ابن سينا ويسطع مجدّدًا في الغرب مع ابن باجة. ولا ينسى المختصون ذكر حلقة الوصل التي انتقدت الفلسفة الأرسطيّة من كتب الشرقيين حتى يهاجمه الغربيون الثلاثة رافعين راية الفلسفة في وجه ادعاءاته... حلقة الوصل تلك هي طبعًا أبو حامد الغزالي، عميد المتكلّمين.

يختم معظم مؤرّخو الفكر العربي تلك الحقبة بذكر ابن خلدون وتفصيل آرائه دون ضمّه إلى الأسماء الستة، لأنّه لم يكن يصنّف نفسه فيلسوفًا، بل مؤسس علم الاجتماع (علم العمران) فقط، وصاحب القفزات الثورية في تطوير علم التاريخ (التأريخ). قلّة فقط سعوا إلى نبش الملامح الفلسفية في فكره منهم ناصيف نصّار نفسه في ’الفكر الواقعي عند ابن خلدون‘.

السؤال التاريخيّ الذي طالما كان مؤرّقًا لي: هل يُعقل أنّ هذه الحضارة في عصرها الذهبي لم تأتِ إلا على ستّة فلاسفة؟ الجواب البديهي هو: بالطبع لا، فقوائم الذين عملوا في الفلسفة طويلة جدًّا. لكن أين نصوصهم وسيرهم وأحداثهم وشهرتهم؟ لماذا هذه الأسماء الستة فقط هي التي برزت؟ هل ستّة فلاسفة يخلقون تيارًا كاملًا في عصرٍ ذهبي لإمبراطورية كانت شديدة الاتساع؟

الجواب على هذه الأسئلة قد يكمن إمّا في التأريخ الحديث للفكر العربي الوسيط أو التاريخ العربي الوسيط نفسه. وليس أيّ تاريخ ذاك الذي يجيب على تلك الأسئلة إنّه تاريخ النشر والكتابة. وإلّا فكيف نُقَيّم صعود وهبوط «تيّارٍ فلسفيّ»؟

بعد انكباب ابن سينا على قراءة كتب المنطق والطب والفلسفة، حسب سيرته الذاتية التي أوردها ابن أبي أُصيبعة في ترجمته ’عيون الأنباء في طبقات الأطباء‘، يذكر استصعابه لكتاب أرسطو ’ما بعد الطبيعة‘. يبرّر المؤرّخ يوسف زيدان في إحدى هوامشه في تحقيق له لترجمة ابن أبي أُصيبعة في كتاب ’حي بن يقظان‘ بأنّ هناك خلطًا كان في كتاب ’ما بعد الطبيعة‘ فقد دخل على النّص الأصلي الكثير من نصوص الأفلاطونيين الجدد، الأمرُ الذي جعل الكتاب يحمل الكثير من التناقضات. وعدم فهم ابن سينا له ليس له علاقة بقدرته الاستيعابية على فهم الفلسفة. إلّا أنّ مشكلة ابن سينا مع هذا الكتاب حُلَّت حسبما سرد لنا بكلماته هكذا:

"ثمَّ عدلت إلى الإلهي (الميتافيزيقيا)، وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليّ غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرّة، وصار لي محفوظًا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به. وآيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه.

وإذا أنا في يومٍ من الأيام، حضرتُ وقت العصر في الورّاقين، وبيد دلّالٍ مجلَّـدٌ ينادي عليه، فعرضه عليّ، فرددته ردَّ متبرّمٍ معتقدٍ أنَّ لا فائدة من هذا العلم. فقال لي: اشترِ منّي هذا، فإنّه رخيص، أبيعكه بثلاثة دراهم، وصاحبه محتاج إلى ثمنه.

واشتريته، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. ورجعت إلى بيتي، وأسرعت قراءته، فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب، بسبب أنّه كان لي محفوظًا على ظهر قلب. وفرحت بذلك، وتصدَّقت في ثاني يومه بشيءٍ كثير على الفقراء، شكرًا لله تعالى."

رسم لابن سينا يُصوّر في دقائق الحقائق لناصر الدين الرّمل




إذن... فقد قرأ ابن سينا هذا الكتاب أربعين مرّةً ولم يخطر على باله أن ينزل إلى سوق الورّاقين ولو مرّة واحدة ليسأل عن كتابٍ للفارابي.

يبدو أنّ الفارابي لم يكن معروفًا ما يكفي لابن سينا ليذهب فيبحث عن كتبه ويقرأها. أم لعلّه كان على علمٍ به ولم يهتم، وآخر احتمال ربما أنّه عَلِمَ به واهتم لكنّه لم يخطر له أن يجده في سوق الورّاقين في بُخارى.

دلّالُ كُتُبٍ أقنع أبا عليّ حسين بن عبد الله بن سينا بدفع ثلاثة دراهم لقاء التيّار الفلسفي الذي سيحصل في مخيّلة التاريخ. بالصدفة البحتة تعرّف ابن سينا على الفارابي، وبعد ذلك انطلق التيار.

مؤلفات ابن سينا المعروفة في الفلسفة هي ’الإشارات والتنبيهات‘، وكتاب ’الشفاء‘ وهي أوسع كتبه في هذا الشأن، وأخيرًا ’النجاة في المنطق والإلهيات‘ والذي هو على ما يبدو أقرب لأن يكون مختصرًا لكتاب الشفاء. وفي هذه المؤلّفات بدأ يبرز اسم الفارابي مؤثّرًا أساسيًّا في فكر ابن سينا وفلسفته. إلا أنّ الحامل الحقيقي لفكر الأخير كان قربه (أي قرب الفكر) من العقائد الباطنية الإسماعيلية التي أخذت تنهل من فكر ابن سينا بوصفه أحد مراجعها، يفسّر البعض هذا التقارب بنشأة ابن سينا وأساتذته. لكن خارج هذا الإطار فعلى ما يبدو أنّ «التيار الفلسفي» رغم ادعائية استقلاله في تأريخ تلك المرحلة قد أصبح تيارًا، من دون أي قصد مباشر من ابن سينا، بل بعد تبنّي فرقةٍ دينيةٍ له.

في كتاب ’ابن رشد سيرة ونصوص‘ يبيّن محمّد عابد الجابري الأسباب التي دعت الغزالي لكتابة مؤلّفه الشهير ’تهافت الفلاسفة‘ حيث يبدو أنَّ الإمام كان أُستاذًا في المدارس النظاميّة التي أسّسها الوزير نظام المُلك، الصدر الأعظم للدولة السلجوقية التي استطاعت بسنوات قليلة كسب عداوة قوتين إسماعليتين؛ الدولة الفاطمية في مصر، والنزاريين في قلعة آلموت (الفرقة التي أسّسها حسن الصباح وكانت مسؤولة عن اغتيال نظام المُلك فيما بعد).

لدكّ أسُس الدعوة الإسماعلية أَوعَزَ نظامُ المُلك إلى الأستاذ اللامع لديه بنقض الفلسفة، فهاجم الفلسفة الأرسطية وأرسطو وابن سينا وذكر الفارابي ذِكـرًا فقط ولم يتطرّق للكِندي أبدًا. ويؤكّد الجابري شارحًا لردود ابن رشد أنَّ الغزالي لم يكن وقتها يفقه شيئًا من الفلسفة ولم يطالع منها إلّا كتاب ’النجاة‘ المختصر لابن سينا.

استيقاظ الفلسفة في الأندلس كان على صوت هجوم الغزالي على الأرسطية من خلال تلك المختصرات. الأمرُ الذي حمل لواءه فلاسفة الأندلس من بينهم ابن رشد الذي لم يكتفِ بالرد على الغزالي فحسب. بل طال هجومه شروح الفارابي وابن سينا اللذين أخطآ بفهم أرسطو، بحسب ابن رشد، ممّا سمح بجعل الفلسفة تهبط إلى محاورات المتكلّمين.

إن كانت الإسماعلية والرد عليها هي ما جعلت فكر ابن سينا تيّارًا، وكان ابن سينا هو من استكمل نشاط الفارابي الذي سبق أن اعتمد على الكِندي الذي كان موظّفًا معروفًا في بيت الحكمة، فهذا يُفسّر هذه السلسلة في الشقّ الشرقيّ من هذا التيّار.

لكن ما الذي يربط الأسماء الأندلسيّة الثلاثة وكيف تحوّلت إلى الشق الغربيّ من هذا التيّار؟ والسؤال الأهم ربما، كيف أصبحوا أصلًا تيّارًا إن علمنا ألّا طائفة دينية إسلاميّة تبنّت فكرهم كما حصل مع الفلسفة السيناويّة؟

والد ابن رشد ساهم بإخراج ابن باجة من السجن بعد اتهامه بتعاطي الفلسفة، التهمة غير المقبولة في نهاية عصر الدولة المرابطيّة. في حين أنّ ابن طُفيل كان عجوزًا عندما عرَّف الخليفة الموحّدي أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الكومي على ابن رشد طبيبًا بدلًا منه. ولأنّ ابن طُفيل قد عرف وكان مُتأثّرًا بابن باجة فقد استطاع نفخ هذا التأثير في ابن رشد الشاب. ولكن هل كان هؤلاء الثلاثة خالقين تيّارًا فكريًّا حقيقيًّا أم فقط عملوا في مجالٍ لا يعمل به إلّا النخبة ولا يتعدّى كتابة بعض الكتب واستنساخها؟

صورة مقال فرح أنطون عن ابن رشد في مجلة الجامعة 1902


العلم في العصور الإسلامية الوسيطة كان متاحًا للجميع. لم تكن المعرفة حكرًا على طبقة معيّنة أو مكتوبًا بلغة غير متداولة، على عكس أوروبا العصور الوسطى حيث المعرفة كانت في اللاتينية وحكرًا على رجال الدين والنبلاء، مَن كان منهم مهتـمًّا. كان من الممكن أن تتحوّل التيارات الفكرية في الإمبراطوريات العربية إلى تيارات شعبوية وطوائف ومذاهب، وكان يمكنها أيضًا أن تصبح مذاهب الملوك والأمراء كما حصل مع الأشعرية والمعتزلية والإسماعيلية والاثني عشرية والتصوّف. لكنَّ الفلسفة لم تتحوّل إلى ذلك، فحتى الفلاسفة المنسوبون إلى إحدى تلك الطوائف بقوا محصورين في نخبويتهم كإخوان الصفا. الفلسفة الإسلامية لم تكن شعبويّة يومًا ولا مذهبًا للحُكّام، رغم رغبة بعض الخلفاء بالمعرفة. لم يكن من الممكن لها أن تصبح مذهب الحُكم أو طائفة واسعة الانتشار. وحتى مذهب ابن سينا، فهو كان مؤثّرًا في بعض الباطنيين لكنّه لم يؤسّس مذهبًا. هذا ليس تقليلًا من شأن الفلسفة إنّما تخفيف حدّية أن يُقال إنّها كانت تيارًا كاملًا مستقلًا. فعلى العكس كانت تُهمةً، وقِلّةٌ هم الذين نجوا من تَبِعاتها. كما أنَّ المعروفين اليوم في الفلسفة لم يكونوا كذلك حينها. فابن خلدون مثلًا اعتبر في مقدمته أنَّ ابن سينا أهمُّ مَن اشتغل في الفلسفة وابن رشد ليس سوى شارحٍ لأرسطو. يفسّر نصّار ذلك في كتابه ’الفكر الواقعي عند ابن خلدون‘ بأنَّ كُتُب ابن رشد لم تصل جميعها لمتناول ابن خلدون. أين كانت تلك الكتب إذن؟ ولماذا هذا المنسيّ القرطبيّ ابن رشد أصبح عميد فلاسفة العرب، ألأنّه نقد حجج الغزالي بمهارة؟

بعد حروب الاسترداد الإسبانية أسَّس ألفونسو العاشر المعروف بألفونسو الحكيم مدرسة الترجمة في طليطلة (توليدو) حيث بدأ بترجمة المصنّفات العربية والعبرية إلى اللاتينية. وهكذا فإنّ كتب النخبة العربية انتقلت إلى النخبة اللاتينية. وتَتَبـُّع هذه الترجمات من قِبَل المؤرخين يساعد على فهم التيارات الفلسفية التي حدثت في المدارس الأوروبيّة. وقد قام كثيرٌ من العرب في العصر الحديث بدراسة الكتب التي أرّخت تلك المرحلة. ففي عام ألفٍ وتسعمئة واثنين كتب الصحافي فرح أنطون مقالًا مطوّلًا بعنوان ’تاريخ ابن رشد وفلسفته‘ في افتتاحيّة الجزء الثامن من مجلّته ’الجامعة‘ بعد أن قرأ كتاب المؤرّخ الفرنسيّ إرنيست رينان ’ابن رشد والرشدية‘. وفي مقاله أكّد أنطون أنّ كتب ابن رشد حتى تاريخه كانت مفقودة بالكامل بل حتى أنَّ "شركة الطبع العربية في القاهرة لإحياء المؤلفات القديمة الجليلة أعرضت عن مؤلّفات هذا الفيلسوف كل الإعراض..." مقال فرح أنطون تحوّل إلى كتابٍ بعنوان ’ابن رشد وفلسفته‘ والذي هو فعليًّا ليس إلا ترجمةً مختصرةً لكتاب رينان، وهذا الأخير بقي حتى الآن أحد أهمّ المراجع في العالم العربي عن تاريخ الرشديّة بوصفها تيّارًا فلسفيًّا أوروبيًّا.

إنّه رينان الذي قال: "...وهكذا فإنّني أرى أنّ ابن باجّة وابن طفيل لم يُستَشْهَد بهما إلا نقلًا عن ابن رشد، ولا يلوح لي أنّ الكِندي والفارابي وابن جبيرول وقسطا بن لوقا وابن ميمون قُرئوا في غير القرن الثالث عشر. وقد قام ابن سينا وابن رشد، على الخصوص، مقام جميع من سواهما في القرن الرابع عشر، ثمّ بقي ابن رشد وحده، في القرن الخامس عشر عنوان فلسفة العرب."

غلاف كتاب ابن رشد وفلسفته لفرح أنطون

اختفت النسخ العربية لكتب ابن رشد. والنسخ المترجمة لم تعد إلى رفوف العالم العربي إلّا منتصف القرن العشرين. التيارات لا تخلقها الكتب. الكتب تخلق وهم التيّار فحسب. إن كَتَبَ الكُتّاب عن تيّارٍ ما فسيصبح هناك مجموعة من القُرّاء تقول به حتى لو لم يحدث. والذي حدث فعلًا أنّ تيّارًا رشديًّا حدث في أروقة المعاهد الأوروبية جُوبِه بتيّار غزاليّ، وهكذا فقد تشكّل لدى الوعي العام ثنائيّة الغزالي- ابن رشد رغم أنّ الثاني وُلِدَ بعد سنوات طويلة من وفاة الأوّل. وهذه الثنائية التي كانت محصورة في الأروقة انكسرت عندما ذهب الأوروبيّون إلى أرسطو بلا وساطة الشُّرّاح العرب. ومن هناك استمرّت الفلسفة في تصاعد غربيّ لم يهتمَّ العرب به حتى عصر النهضة العربية الذي أراد أن يواكب الحداثة، وعِوضًا عن الابتكار أعادوا استيراد الفلسفة العربية ليدخلوا إلى المضمار ويشاركوا بها. لكنْ، أيُّ الفلاسفة العرب لدينا حتى نفاخر بالفلسفة العربية الإسلامية؟ لنعد إلى مقولة رينان ولنحذف منها اليهودييّن ابن جبيرول وابن ميمون والمسيحي قسطا بن لوقا وتبقى الأسماء المسلمة وحدها، يبقى الأسماء الستة الأبرز. صدفة؟

أصبح من وراء هذا الشكل من التأريخ تيّارٌ فلسفيٌّ بدأ مع الكِندي وانتهى مع ابن رشد رغم أنّ الأول ليس أوّل الفلاسفة العرب والثاني ليس آخرهم. أصبح الفلاسفة تيّارًا واحدًا رغم كلّ التناقضات الفلسفية فيما بينهم. ورغم الاضطراب الذي دخل إلى فلسفة ابن سينا عندما هاجمته المدارس النظامية بعدما تبنّته الطوائف الإسماعيلية، تمامًا كما حدث في الرشديّة الأوروبية. رشديّة ابتعدت عن ابن رشد كسيناويّةٍ ابتعدت عن ابن سينا. لا أستطيع القول بأنَّ هذا نقصٌ بحدّ ذاته، إنّما هكذا هي دورة حياة الفلسفة، وربما ما كان لها أن تحدث أصلًا لولا ذلك الورّاق الذي دفع بابن سينا أن يشتري ذاك المخطوط بتلك الدراهم الثلاثة.

 

*عمر زكريا: كاتبٌ يكتب بشكلٍ دائم مع مجلّة رمان وصدرت له رواية مؤخرًا مع منشورات ضفاف بعنوان "القرطبي: يستيقظ في الاسكندرية" كما أنّه مؤدٍ صوتي في الأفلام الوثائقية ولديه منصة خاصة للقصص القصيرة حيث يختار قصة لأدائها مرة في الأسبوع.

Comments


bottom of page