top of page
صورة الكاتببلقيس الكركي

ما الّذي فَعلْتَه بامرئ القيس يا هِرمانّوس؟

تاريخ التحديث: ٢٢ مارس ٢٠٢٢

بلقيس الكركي*


(Source gallica.bnf.fr / Bibliothèque nationale de France)

*صورة لصفحة من مخطوط Latin 16673 في المكتبة الوطنيّة بباريس يعود إلى القرن الثّالث عشر ويحوي ترجمة Hermannus Alemannus (هرمان الألمانيّ) لشرح ابن رشد الوسيط لفنّ الشّعر لأرسطو. وفي السّطرين الثّالث والرّابع من العمود الأيسر من الصّفحة اليُمنى ترجمة "ولم أتبطّن كاعباً ذات خَلخالِ"

إلى "Aut non tenuissem puellam ornatam monilibus mecum"، مع الإشارة إلى أنّ المخطوطات اللّاتينيّة في القرون الوسطى تميل إلى حذف أواخر بعض الكلمات ووضع رموزٍ مكانها.

1

حَسَناً يا هِرمانّوس، لن أُطيلَ عليك موَّال اللَّوم والاتّهام والعَتَب؛ إذ لا يُكلِّفُ الله نَفْساً إلّا وُسْعَها، وهل كان في وُسْعِكَ أصلاً أن تُدرِكَ فداحةَ ما فَعَلْت؟ كما أنَّ التقريعَ الحقيقيَّ الطويلَ مِنْ شِيَم العُشّاق، وأنتَ لا تعنيني كثيراً يا هِرمانّوس.

لن أَمُرَّ على كلّ ما فعلْتَه بامرئ القيس وزهير والنّابغة وعنترة وقيس وكُثيّر والكُمَيت وذي الرُّمّة وأبي تمَّام والبحتريّ وأبي فراس والمتنبّي وسواهم. لن أمُرّ إلّا سريعاً على ما فعلْتَه بابن رشد نفسِه، الّذي لولا شرحُه لفنّ الشّعر لأرسطوطاليس، وجهدُك الطَّيِّبُ في ترجمته إلى اللّاتينيَّة في طُليطلةَ الجميلة منتصفَ الثالث عشر لحاجةٍ له عندكم اشتدَّت لاحقاً في البندقيّة ولم تكن عندنا في قَرطاجَنّةَ أو خوارزمَ أو الموصلِ، لما وجدْتَ نفسك أمام كلّ هذه الأبيات الغريبة على قلبك، الأليفةِ القريبةِ حدَّ الضَّجر من القاضي الأَجَلّ.

لن أمُرّ على كلّ ما جاء في بحث ويليام بوجِس (William Boggess) الّذي رتّبَ فيه ترجمتَك لأشعارنا في كتاب أبي الوليد شعراً لاتينيّاً اخترعْتَ له قافيةً أحياناً، ونثراً أخرى، أو استبدلتَ بها شيئاً من بلاغتكم أو حذفتَها لأسبابٍ ذكرتَ بعضَها في مقدّمة ترجمتك الّتي لم تكن تثقُ بها أنت، ومنها كما كتبْتَ غموضُ المفردات وأسبابٌ كثيرة أخرى

(propter vocabulorum obscuritatem et plures alias causas).

أعرفُ كم قسوتَ على نفسك، وكم قسا روجر بيكون (Roger Bacon) عليك. لا بأسَ يا هِرمانّوس، أنت لم تُقصّر في حقّنا، إذ أبقَيتَ لنا جزءاً من شرح الفارابي الكبير على خطابة أرسطو باللاتينيّة الّذي أضَعْنا أصلَه العربيّ. لا بأس، فقد حذف قبلك غُنديسّالينوس وابنُ داوودَ "دَبِيْباً إلاَّ بالهُوَيْنى" من ترجمتهما في طليطلة أيضاً لذلك المقطع الجميل من شفاء ابن سينا حول جسرٍ تحته هاوية لا يجسرُ الإنسان أن يمشيَ عليه "دَبِيباً إلّا بالهُوينى". وقد نبَّهَتْ إلى المحذوف محقّقةٌ بلجيكيّةٌ اسمها سيمون، أمضَتْ عمرها مع الشيخ الرئيس بنسخته الأوروبيّة، وأعادتْ ترجمته إلى الفرنسيّة: "En rampant sinon lentement".

أمّا أنا فأرى ما لا تقبله المنهجيّة العلميّة: أنّ المترجمَين قد عوَّضا عن حذفهما للدّبيب الفصيح بأنْ سَكبا ماءً أعجميّاً عميقاً في الهاوية الفارغة تحت جسرنا (pons super aquam profundam)، مثلما عوّضتَ أنتَ يا هِرمانّوس عن جهلك بِتَوبادِ ابن الملوَّح بأنْ ألّفتَ أبياتاً من عندك مُقفّاةً زائدةً عن الأصلِ تستطردُ فيها شارحاً شَطْرَ قيس: "ومنْ ذا الّذي يبقى على الحَدَثانِ".

هِرمانّوس، سأتوقَّفُ عن الاستطراد.

2

سأحدِّثك فقط عمّا فعلتَه بشَطرٍ مِن بيتٍ لِمَلِكِ كِنْدة. ستفهمُ الفكرةَ في كُلِّيَّتها، أعِدُك، لكنّي لا أعدُك بأنّك ستَفهَمُ الجُزئيّات، لاختلافٍ حادٍّ بيننا لن أحصُرَه في أنّك أعجميّ وأنّي عربيّة. "كَأَنِّيَ لم أركَبْ جواداً لِلَذَّةٍ ... ولم أَتَبَطَّنْ كاعِباً ذاتَ خَلْخالِ". لن أعاتبكَ كثيراً على ترجمتكَ "للذّةٍ" في الشّطر الأوّل بـ"causa solacii"، وما أبعدَ solacium الّتي تعني الراحةَ أو المواساة عندكم عن "اللذّة" عندنا يا هرمانّوس، خاصّة أنَّها متعلّقة بالكرّ في الحرب في هذا البيت، وإنْ قال البعض إنّ المعنى هو الصّيد. سأحدّثك عن جريمة ترجمتِك للشّطر الثاني:

"aut non tenuissem … puellam ornatam monilibus mecum"

حسناً يا عزيزي: جعلْتَ من "أتبطَّن" tenuissem، الّتي لا تعني عندكم أكثرَ مِن التعلّق أو الامتلاك أو الإمساك، باليدِ في أحسن الأحوال وجعلْتَ "كاعباً" puellam، الّتي لا تعني أكثر من فتاة، أو عذراء، أو حبيبةِ قلبٍ في الأدب الرّومانيّ؛ وجعلتها

"مزيّنةً" ornatam، بـ monilibus الّتي لا تعني أكثرَ من عقودٍ أو مجوهرات تزّين العُنُق غالباً؛ وأضفتَ "mecum" الّتي تعني "معي"، كي تُقرِّبَ المسافةَ شِبراً واحداً أرادهُ امرؤ القيس معدوماً يا هِرمانّوس.

هِرمانّوس! لقد ترجمْتَ أبياتاً من القصيدةِ ذاتها وَرَدتْ متفرّقةً في شرح ابن رشد. هل كُنْتَ تجهَلُ وأنت تُترجِمُ "سَمَوتُ إليها بَعْدَ ما نامَ أَهْلُها..."، مُدْرِكاً معنى أهْلِها: "maritus"، ومُختاراً قافيةً أخرى، أنّ القصيدةَ واحدة؟ ألهذا خانَكَ خيالُك فخُنْتَ فجورَ امرئ القيس المهيبَ؟ لن أجادلَك الآن حول حذفِك لــ"سَباكَ اللهُ" قبل "إنَّكَ فاضحي"، لأنّي وعدْتُك ألّا أستطردَ وأن أقتصر على شطر واحد. آخ يا هِرمانّوس: لو أنَّك قطعتَ الطّريقَ من طليطلة جنوباً إلى قرطبة، ولم يكن قد مرَّ على سقوطها لكم حَفْنةُ سنوات، لربّما وجدتَ منّا من عزَّ عليه أن يفارق الزّهراء، فقرأ لك القصيدة من مطلعِها: "ألا عِم صباحاً أيُّها الطّللُ البالي". لكنّني أخشى أن تدمَع عيناه عند المطلع، وأن يَجهَش بعد بيتين: "دِيارٌ لِسَلمى ...، وتَحسَبُ سلمى...، وتَحسَبُ سلمى...، لياليَ سَلمى..." فلا يصِلُ معك إلى البيت: "حلَفتُ لها بالله حِلْفةَ فاجرٍ" كي يُهيّئ لك فهمَ "كاعِباً ذاتَ خلخالِ". كان الجُرح ما يزال طريّاً يا غريب، والطَّللُ نديّاً، لذلك سأتراجع: لا تذهب جنوباً. ليس منكم واحِدٌ أصلاً يستحقُّ أن يرى فجور مشاعري في مسجد قرطبة الكبير، كما لم يَعُد مِنّا واحدٌ -بعد حُبٍّ سقطَ هو الآخر رغمَ الموشّح- أستطيعُ أن أُسِرّ له بأنّ ذلك كان أوّلَ مسجدٍ أدخلُه في حياتي كُلِّها يا هِرمانّوس.

3

أتَسخَرُ من استطرادي أم من كليشيهاتي وهي تضيف شرخاً آخرَ لأسطوانة الأندلس الـمُرهَقة؟ فلنَعُد إلى الموضوع. كُلُّ ما كُنتَ تحتاجُه هو العودة إلى الجذر وقواعد الاشتقاق لتعرِفَ معنى "أتبطّن" و"كاعب". هل كُنتَ تعرفُ حجم الكارثة وجَبُنت؟ هِرمانّوس! لقد نزعْتَ عن امرئ القيس نفسَه في ترجمتك لهذا الشّطر، كما نزعْتَ الخلخال عن قَدمِ كاعبٍ تبجَّحَ امرؤ القيس بأنَّه تبطَّنها. تبجّح لأنّ بسباسةَ اتّهمتْهُ بالعجز الّذي لم يكن ليقبلَه لنفسه شاعرٌ عربيّ قديم. ألا تعرِفُ شيئاً عن طرفة يا هِرمانّوس: "ولا تجعليني كامرئٍ ليس هَمُّهُ كهَمِّي" أو عن مالكٍ في عزّ الموت: "فقد كنتُ قَبْلَ اليومِ صَعْباً قِياديا"؟ هِرمانّوس، سأُطيل بالي عليك وسأشرحُ لك القِصَّةَ الّتي أصبَح أهلُ العلمِ عندنا وعندكم يسمّونها "السّياق" مراراً وتكراراً بلا خجلٍ أو مَلل.

إنّ امرأ القيس الّذي سمّيْتَه Omrilkaisi في مكان و Imrulkayzi في آخر، قال في القصيدة إّنه تبطّن كاعباً ذات خلخال ردّا على بَسْباسة: "ألا زَعَمَتْ بَسْبابةُ اليومَ أنّني كَبِرتُ/ وأنْ لا يُحْسِنُ اللّهوَ أمثالي..... كذَبْتِ!" بسباسة، "لله درُّها!" لأنّها استفزّت امرأ القيس فكانت القصيدة، كما يقول من أعماقِ قلبه شيخٌ أزهريٌّ في زماني يُدعى أبا قيس الطائيّ، شرحَ القصيدة مؤخّراً في أكثر من عشرين ساعة، وكان خلالها يشرح لطلّابه المصدومين من النّسيب الفاحش بامرأة متزوّجة في القصيدة، أنَّ امرأ القيس كان ينتمي إلى عالم أقلّ عُقَداً من عالمنا، وهو أقلّ عُقَداً من عالمك يا هِرمانّوس. لن أستطرِدَ فأحدّثَك عن تحرّر بني قومك من بعضِ العُقد بعد زمان، ولا عن استرضاء بعض بني قومي لكم ضعفاً وحَسَداً. لن أحدِّثَك عن تحرّرٍ مُستَلَبٍ مُنتَحَل مُستعار أصابنا حين تلعثَمْنا في غناء فجورنا المثقّف الغارقِ في "رَمْلٍ كأوراكِ العذارى". تلك جريمة ارتكبها من حَسِبوا الحضارةَ بادئة من عندكم وما رأوها في بداوة الرّمل بل أغفلوا تيجان حِمْيَرَ وحضرموتَ الّتي منها شاعرنا الملك الضِّلِّيل.حدث هذا يا عزيزي لأنّهم لم يقرؤوا سادسةَ أبي حيّان، ولأنّهم ما عُلِّموا ما قِيل عن إبدال الفرع بالأصل بين الرّمل والوِرك في التّشبيه، ولأنّهم ما أدركوا نجماً هوى على الرّمل ذاته وجادَلَه طويلاً في جدوى الضّلالة والغوى. لقد صَعَّبْتُ الأمرَ عليك كثيراً يا هِرمانّوس فسامحني. سأعودُ إلى ما يُمكنُك فهمُه؛ إلى "سياقك".

لقد كان مارك الطُليطليّ (Mark of Toledo) في مدرسة طليطلة للتّرجمة الّتي تعْرِف يترجم القرآن إلى اللّاتينيّة قبلَكَ بعقود قليلة، وكان الإنجليزيّ روبرت (Robert of Ketton) قبلَه بأقلّ من قرن يترجم القرآن ويتصرّف كثيراً فيه ويصفه بقانون النبيّ المزيّف، بعد أن كان في الأساس قد ترك مسقط رأسه مثلك وارتحل إلى إسبانيا بحثاً عن أسرار العلم العربيّ. لن أستطرد في الأسباب السياسيّة والدينيّة لترجمات القرآن، لأنّ الجدل بيني وبينك اليومَ هو حول شطرٍ من بيتٍ لا أكثر. أَمَا فكّرتَ يا عزيزي في الاطّلاع على ترجمتهما للآية في سورة النبأ: "وكواعِبَ أترابا"، لعلّها تُعينُكَ، أم إنّك اطّلعتَ فعلاً وما وجدت شيئاً؟ حسناً، فلْنقرأ معاً روبرت ومارك. لقد ترجم روبرت الآية هكذا: "Puellas que consocias et consimiles, papillis brevissimis". احتاج كلمتين لـ"أتراب"، وكلمتين لـ"كواعب": papillis brevissimis، أَيْ (صاحبات) نُهود صغيرة جدّاً. لقد حاولَ الاقتراب أكثر منك بكثير، وإن فاتَه المعنى الدّقيق.

أمّا مارك يا هرمانّوس... أَتَدْري ما فعل؟

لقد تَرْجم الآية هكذا: "Et puelle quidem habentes utera tumencia equalis stature". أحقّاً؟ "utera tumencia"؟ هل عَنى فِعلاً البُطونَ أو الأرحامَ الـمُنتفخة؟ لقد بحثتُ كثيراً يا هِرمانّوس، كثيراً عن احتمال أن تكون uterum وجَمعُها utera تعني الصدورَ ولم أجِدْ سوى البطون والأرحام. سألتُ من هم أدرى منّي باللّاتينيّة بلا فائدة. ما الّذي تخيَّلَهُ مارك وهو يقرأ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ﴿31﴾ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ﴿32﴾ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ﴿33﴾ وَكَأْسًا دِهَاقًا ﴿34﴾ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ﴿35﴾ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ﴿36﴾؟ أرجو حقّاً أن يكونَ هنالك معنى لم أجِدْهُ لـutera يا هِرمانّوس كي لا أتسرّعَ فأفترضَ أنّكم أسقطتُم على كواعبنا صورةَ حوّاء كما هي في كثيرٍ من لَوحاتِ العصور الوسطى وعصر النّهضة: صغيرة النّهدين، منتفخة البطن، وكأنّ امرأ القيس لم يقُلْ "مُهَفهَفةٌ بيضاءُ غيرُ مُفاضَةٍ"، قاصداً بطناً ضامراً غيرَ مُسترخٍ.

وأرجو ألّا تكونَ قد وجدتَ نفسَك بين احتمالين فاخترْتَ شطبَ نهودِ روبرت الصغيرة وبطونِ مارك المنتفخة وترجمةَ "كاعب" بـpuella فقط لكي تَسْلَمَ، هذا إذا كان قد خطر ببالك أصلاً أن تُفتِّشَ عن كاعب الكِنْديِّ في السَّماء. ستَجِدُها في الجنّة، وهو في الجحيم، جحيمِ أبي العلاء، وأنا وعدتُكَ ألّا أستطردَ وأن أبقى في سياقِك بعيداً عن زمانٍ خرج فيه الشيخُ الأكبر من مُرسِيةَ ليفسِّرَ لنا "كواعبَ أترابا": "من صُوَرِ آثار الأسماء في جنّة الأفعال".

4

لم يَستطعْ أيٌّ من بني قومِك بعدَكُم كما يتبدّى لي حتّى الآنَ ترجمةَ "كاعب" كما أرادَها امرؤ القيس وكما هي في جَنّةِ المتّقين. حتّى آربري – العظيمُ عادةً عندي - لم يقترب في ترجمته للآية: "And maidens with swelling breasts" إلّا قليلاً إذ جَعل الصّدورَ منتفخةً. لا تُعجبني "swelling" يا عزيزي ولا تطابقُ "كاعباً" في رأسي وإن كانت بصيغة اسم الفاعل. يبدو يا هِرمانّوس أنّ بني قوَمِك كلَّهم تعلّموا منك ومن روبرت ومارك أكثر ممّا تعلّموا من معاجِمنا. لقَد مرَرتُ على بعض ترجماتهم للآية فما وجدْتُ بعدُ من اقترب من ابنِ منظور، الّذي لم يكُنْ قد فرغَ من اللّسانِ بعدُ حين كُنت تترجم ابنَ رشد.

وَجدتُ بالإنجليزيّة نساءً مُمتلئات (voluptuous women) وأَبْكاراً شابّات (young maidens) ورشيقاتٍ أو لَبِقات (graceful) صُدورُهنّ ممتلئة (full-breasted) وعذارى فقط (maidens) بلا وَصْفٍ، أَيْ كما فعلْتَ أنت؛

وبالفرنسيّة وجدتُ جميلاتٍ نهودُهنّ مستديرة (et des (belle) aux seins arrondis) وفتياتٍ صغيرات (des jeunes filles) وزوجاتٍ شابّات (des épouses jeunes).

استعَنتُ بأصدقاء يا هِرمانّوس فوجدتُ بالإيطاليّة فتياتٍ مُمتلئات الصّدور (fanciulle dai seni pieni) ونساءً جميلات جدّاً (donne bellissime)؛ وبالإسبانيّة حوريّاتٍ شبابُهنّ أبديّ (y hyríes de eterna juventud) مع هامِشٍ يُوضّح أنّ صدورَهنّ مشدودة (de firmes senos)، ومُنتفخةٌ في مكان آخر (de turgidos senos)؛ وبالألمانيّة عذارى (jungfrauen) وخلّابات (prächtige)، وفتياتٍ صدورهنّ منتفخة (und Mädchen mit schwellenden Brüsten). لم أَجد كواعِبَ بَعدُ يا هِرمانّوس. لم أجِد واحِدةً نَهَد ثديُها كي تكونَ كاعِباً.

وجَدْتُ في البريد هديّة من شيرين يا هِرمانّوس، شيرين الّتي تعوّض بالهدايا الغريبة عن هوامشَ وعواطفَ لم تقُلها بينما تصغي للمتون نِصفَ شاردة. لي منها: ضوءٌ على شكل قمر تسنِدُه يدٌ صغيرة، ورزنامةٌ فيها صور بلادنا الّتي يحبّها السيّاح، وعِقدٌ يحملُ نحلةً، ولَقَبٌ إنجليزيّ، ومسبحةُ الصّليب الأعزُّ على قلبها. فتحتُها فوجَدْتُ آندريه، André du Ryer، وهو يقرّر منتصفَ السّابع عشر أن يشطبَ "كواعبَ أترابا" مِن ترجمتِه الفرنسيّة للقرآن. يقفزُ بسلاسةٍ من ترجمة ثرثارة

لـ"حدائقَ وأَعْنابا" (des jardins d’une terre tres fertile, enrichis de raisin & de grenades)،

إلى "وكأساً دِهاقا" (ils boiront dans des tasses pleines d’une boisson delicieuse). لقد دفنَ آندريه الكواعبَ في الحدائقِ يا هِرمانّوس، ثمّ شَرِبَ كأساً مِن "مشروبٍ لذيذٍ" كما يَصِفُهُ احتفاءً بأخلاقه العالية. لن أكذِبَ عليك يا هرمانّوس. هنالك مِنّا مَنْ "ردَّ على شُبهةِ" ذكرِ الكواعب في القرآن فقالَ بضرورةِ التجوُّز من المعنى الحرفيّ لجذر الكلمة إلى المعنى العامّ: العذارى أو صغيرات السنّ، مِنْ باب الأخلاق العالية أيضاً. وهنالك مَنْ قرّر كما فعلْتُم أن يُضيفَ إلى المعنى الأصليّ تكوّراً وامتلاءً واستدارةً، والحقُّ أنّه مثلكم لم يبتعد كثيراً، إلّا وَفْقَ امرأةٍ بقيَ صدرُها ممتلئاً وما عادتْ كاعِباً. هِرمانّوس، هل كان مستحيلاً أن تجدوا كلمةً واحدة، في ترجمةٍ واحدة على الأقلّ، تقترِبُ من الأصلِ في "كَعَبَ": نتأَ، بَرَزَ، ارْتَفَعَ، نَهَدَ، أَشْرَفَ؟ وطالما أَنَّك كُنتَ تترجم الشّعرَ لا القرآن، وامرأَ القيس على وجه التّحديد، وبيتاً في قصيدةٍ كان يلهو فيها "بآنسةٍ كأَّنها خطُّ تمثالِ"، ألم ترَ أنّ "puella" كلمةٌ قاصِرةٌ عن رَسْمِ التّمثال، خائنةٌ لحضارةٍ وضعَ كبارُ علمائِها وفقهائِها شاعرَهم الكنديَّ فوق رؤوسهم رغمَ الفُحش إجلالاً لبراعتهِ في الوصفِ والتشبيه؟ لقد علّمنا شيوخُنا في البلاغة أنّ التفسيرَ ليس كالـمُفَسَّرِ يا هِرمانّوس، وتفسيرُكَ قاصرٌ قبل أن يكونَ مترجَماً، وعلّمونا أيضاً أنّ الشِّعرَ لا يُستطاعُ أن يُترجَم، وإلّا ضاعَ الـمُعجِزُ الّذي فيه، وتلك قِصّة يطولُ شرحُها يا عزيزي خُلاصَتُها أنّ الشِّعرَ هو مَهْرِيُّنا الأَبْلَق، لكنَّ عليك أَنْ تَعْرِفَ أوخيّد في روايةِ التِّبر لإبراهيم الكوني لتفهمَ ما أَقْصد. ما رأيُكَ أنْ نجرّبَ "حيلة الشّيخِ الحكيم" في الرواية؟ تقول الحِيلة: "علماءُ الشّريعةِ القادمونَ من فاس حُكماء. الصّحراءُ كُلُّها تعرفُ ذلك." لا، أنا لن أزورَ فاسَ مع أجنبيّ، ولا مع رجل، فسامِحني يا هِرمانّوس واستمِع جيّداً لهذا المقطعِ من الرّواية: "أنتَ لا تَفهمُ أنَّ الحياةَ كلَّها مصائِدُ. إذا لم تَنْتبه لمواقعِ رِجْلِكَ وقعْتَ في الفخّ. يا لطيف! ولكنْ معك حقّ. أنا أيضاً ساهمتُ في غَفْلَتِك لأنّي شاركتُ في تربِيَتك ... ولكن قُل لي بالله: كيفَ أنيرُ عَقْلك إذا كنتُ أنا نفسي مثلك أحتاجُ إلى مَنْ يُعينني على تنوير عقلي؟ الغشاوة قَدَرُنا، والمصائدُ هي التي تُعلّمُ الحيلة. آه. الغفلة. الغفلة."

5

هِرمانّوس: لقد سبقَ امرؤ القيس الكاعِبَ بـ"أَتَبطَّن"، التي قرّرْتَ أنّها محضُ تعلُّقٍ أو إمساك (tenuissem/tenere)، وقد ترجمَ فرانشيسكو غابرييلي (Francesco Gabrieli) الأبياتَ الواردة في شرح ابن رشد إلى الإيطاليّة في أوائل القرن العشرين. اختارَ لشطر امرئ القيس: "né messami sotto una bella dal seno ricolmo"، مُترجِماً "لم أتبطّن" بـ"ولم أَضَعْ تحتي"، وكاعباً بـ"جميلة صدرُها ممتلئ". رُبّما لم يجد ببساطةٍ كلمةً تختصرُ "أتبطّن"، لكنّه حاول، وذكر صدرَها، لأنّ الزمنَ بينكما علّمَهُ شيئاً عن شاعرنا وعمّا كُنّاه. أو رُبّما تعلّمَ شيئاً من البارون دو سلان (William McGuckin de Slane)، المترجمِ الإيرلنديّ الفرنسيّ الّذي بالإضافة إلى عمله مترجِماً في الجيش الفرنسيّ، ترجم ديوان امرئ القيس إلى اللّاتينيّة للمرّة الأولى عام 1837. لقد ترجمَ البارون الشطرَ هكذا: "nec unquam subegissem puellam periscelide ornatam"، أي "ولم أكنْ قد جلبْتُ تحتي أبداً فتاةً مزيّنةً بخلخال". لقد أشبَهَك فيما فعلتَه بـ"كاعب"، لكنّه حاولَ أكثر في "أتبطّن": subegissem، التي تحمِلُ إضافةً إلى جلْبِ الشيءِ تحتَه معنى الحرثِ والإخضاع، ووردَتْ في الأدب اللّاتينيّ بمعنى "أضطجِع مع". ربّما كان فرانشيسكو يعرف ترجمتَه مثلما يعرف ترجمتَك، ورأى تقصيرك يا هِرمانّوس. لقد حاولا، ولن ألومَهُما على احتمال غيابِ كلمةٍ واحدة في اللّاتينيّة أو الإيطاليّة تعني تَبَطَّنَها: أي باشَرَ بطنُه بطنَها. اعذرني إِنْ وُجِدَت فعلاً على جهلي؛ أنا كذلك لِي وُسْعٌ تحاصرني حدودُه وإن توهَّمتُ العكس. وأنا أتوهَّمُ كثيراً؛ كثيراً يا هرمانّوس.

لقد حاول البارون وغابرييلي أكثرَ ممّا حاوله الأستاذ توتي (Charles Greville Tuetey)، الذي ترجم ديوان امرئ القيس إلى الإنجليزيّة في السّبعينات من القرن العشرين، وترجَم الشطر هكذا: "…nor stretched between full breasts and rings"، أي "ولم أتمدّد (أو أتمطّط) بين نهودٍ ممتلئةٍ وأطواق (أو خواتم؟)"! وقد انتقد مصطفى بدوي ترجمة الدّيوان هذه كثيراً عندما نُشِرت، ومعه كلّ الحقّ.

أنا كذلك لا أطيق ترجمة تشارلز بَترورث (Charles Butterworth)

للشّطر: "… nor become engrossed in a buxom lass with ankle bracelets"، أي "ولم أغدُ منهمكاً في فتاةٍ عامرة الصّدر (ذات) خلاخيل". ورد هذا في ترجمة بَترورث لشرح ابن رشد للإنجليزيّة، الّتي انتقدها ديميتري غوتاس (Dimitri Gutas) لما فيها من أخطاء أهمّها "تصحيح" المترجِم أخطاءَ ابن رشد لجعله غصباً فاهماً قصدَ أرسطو. ورغم ذلك، اتّخَذ أُمبِرتو إيكو هذه الترجمة مرجعاً لفهم شرح ابن رشد (ومقارنته مترجَماً للإنجليزيّة بترجمتك اللّاتينيّة يا هِرمانّوس!) لأنّه لا يعرف العربيّة. هل هذا هو بديلكم حقّاً عن رينان وبورخيس؛ عن أسطوانة "ابن رشد لم يفهم أرسطو"؟ لقد قامت نهضتكم على "لَومِنا" على أخطائنا في ترجمة الإغريق وطَردِنا من مدوّنتكم الفكريّة، ولكنّنا لم نردَّ بالمثل يا هِرمانّوس، ليسَ من باب الأخلاق العالية، بل من باب العاطفة المشوّهة الّتي يشتهي صاحبُها المهزوم أن يُضرب، مراراً، على خدّه الأيسر بعد الأيمن.

6

تمرُّ قرون يا هِرمانّوس، وما زلتم تُتأتِؤون. لقد أعادَ پيير لارشير (Pierre Larcher)، مؤخّراً الحياةَ إلى القصيدة والبيت بالفرنسيّة، بعد أن أحيا "ترجمةَ" الشاعر الفرنسيّ آرمان روبان (Armand Robin) للقصيدة ذاتها منتصفَ القرن العشرين في كتابه Poésie non Traduite (شعر غير مترجم). كان روبان قد وصف القصيدةَ بـ"المعلّقة الأولى"، بعدَ شُهرةِ المعلّقة والاهتمام بها وترجمتِها دون "أَلا عِمْ صباحاً". كم يبدو پيير منتشياً بوَصْفِ روبان هذا باحثاً عن أصله عند البارون، ويبدو من هذا الانتشاء أنّ عبارة شيخِنا الجهبذ عبدالله الطيّب عن "ألا عِمْ صباحاً" لم تمرَّ به: "وعندي أنّ هذه القصيدة أجودُ كثيراً من "قِفا نبك"، وفيها روحُ الـملكِ تشتملُها من أوَّلها لآخرِها، وغَزَلُها على ما فيه من رقّة، بيّنٌ فيه عنصرُ العمق والتّأمّل". على أنّ شيخنا يستدركُ في هامش: "هي جيّدة ولكنّ المعلقةَ أجودُ بعد التّأمّل والله أعلم"! هل تعرف يا هِرمانّوس ما معنى أن نُقدِّم أيّ شيءٍ على "قِفا نبك" ولو للَحَظات قبل الاستدراك؟ هل بدأتَ تفهمُ ما هي مشكلتي البسيطة مع ترجمتك؟ حسناً، لن أَستطردَ وسأعود لأصحابِك.

يقول پيير لارشير في كتابه "Le Brigand et L’Amant" (الصُّعلوك والعاشق؛ أي تأبّط شرّاً وامرؤ القيس) إنّ روبان اعتمد في ترجمتِه للقصيدة على الترجمة اللّاتينيّة للبارون دو سلان. على أنّ روبان لا يكتفي مثل البارون بترجمة كاعب لـ "puella"، بل يترجم الشّطر

هكذا: "jamais, jamais il n’a sanglé de fille aux seins juste formés, portant anneaux d’or aux chevilles!"، ("أبداً، أبداً لم يَحزِم فتاةً نهداها مُحكَما التّكوين، مرتديةً أطواقاً من الذّهبِ في كاحليها!").

لقد استخدم روبان ضميرَ الغائب، مضيفاً الذّهبَ للخَلخال، لأسبابٍ أدبيّةٍ يشفعُ لها عنوانُ كتابه "شعر غير مترجم". لقد أحسَن قليلاً في "formés" لوصف صدرها لأنّ أصل الفعل التّشكّل، وحاول فعلاً في "sangler" لـ"أتبطّن"، التي تعني حَزمَ أو شدَّ أو رَبطَ أو طوّقَ لأنّ معنى sangle الحِزام أو الطّوق، متابعاً محاولة البارون في "subegissem" جيّداً. على أنّ لارشير يجدُ مشكلةً في استخدام روبان لهذا الفعل هكذا، متّكئاً على تفسيرٍ للأعلم الشنتمريّ لـ"أتبطّن": "أخذَهُ من البِطانة أي جعلتُ بطني عليها فكأنّها بِطانة لي"، مقترحاً أنّ ترجمة روبان "sangler une fille" (أحزِمُ أو أشدُّ فتاةً) كان يجدرُ بها أن تكون "se sangler d’elle"، أي أحزِمُ أو أشدُّ نفسي بها. تُعجبني ترجمة روبان لـ"أتبطّن"، وتبدو أكثر إخلاصاً لغضبِ امرئ القيس من بسباسة في القصيدة ورغبتِه الحادّة في التبجّح بفحولته. وقد ردّ لارشير على رسالتي بعد أن ضاعَ كتابُه في المرّة الأولى في البريد واصفاً "أتبطّن" بـ"الاستعارة الحسّيّة جدّاً" و"الاستثنائيّة"، وأختلفُ معه في اعتبارها استعارةً أصلاً وفي مسألة البِطانة.

لارشير يقدّم ترجمةً جديدةً للشّطر هكذا: "Ni entrepris de fille au seins formés portant chevillère"، مختاراً الفعل "entreprendre" لـ"أتبطّن"، الّذي قد يعني الإغواء كما يعني المباشرة، ومعناه الحرفيّ جدّاً "الأخذ تحت" أو "الأخذ بين"، مبقياً على ترجمة روبان "formés" لوصف نهدَي الفتاة وهي توحي بالنّضوج مع إبقاء أصل التّشكّل، شاطباً "juste" الّتي هي من خيال الشّاعر روبان. وقد استمعتُ إلى مُقابلة إذاعيّة مع لارشير وأنا أكتبُ هذه السطور يا هِرمانّوس، بدا فيها مُحبَّاً حقّاً لقصيدة امرئ القيس، وإنْ ضحِكْتُ وهو يقرأُ مطلعَها بجهدٍ كبيرٍ في مخارج الحروف. ما زِلتمْ تُتأتِؤون يا عزيزي فيما يخصُّنا، لفظاً ومعنى، ونحن ما بَرِحْنا نمتدحُ فيكم شرفَ المحاولة.

7

هذا ما فعلْتَه يا هرمانوس أنتَ ورفاقُك. سأعودُ إليكَ وحدَك كي لا أُحمِّلَك وزرَ سواك: لماذا فَعَلْتَه؟ هل كان قُصوراً عن إيجادِ كلِمتين مناسبتين باللّاتينيّة، أم عُزوفاً عن الشَّرح كيلا تُفْسِدَ إيقاعاً يُفضي إلى قافيةٍ لم تكنْ مُجبراً عليها وما فضَّلها يوماً كبارُ شعراءِ روما قبل قرونِكَ الوسطى؟ هل كُنتَ تعرفُ الإشاعة الّتي تقول إنّ القافيةَ التي ألِفتَها في شعركم هي من غيمةٍ تسلَّلتْ من شعرنا؟ لكنّكَ ترجمتَ أبياتاً أخرى نثراً، وأُخرى أطلْتَها من أجل الشَّرح، فلماذا إذن؟ أخجلاً وخوفاً على أخلاق أوروبا من كلمتين عربيّتين؟

أم هل استعَنْتَ - وَفقَ روجر بيكون - على فهم البيتِ ببعض العرب منّا؛ ببعض الـ"saraceni" كما تقولون

ومعكم بيكون: ("quia sarascenos tenuit secum in Hispania…")، لكنّهم عجزوا عن شرحه لك كما كنتُ لأفعَل أنا؟ هل كان حظُّكَ سيّئاً فعلاً كما يقول بوجِس، لأنّ ما طُبِع في نهاية القرن الخامس عشر من ترجمتك كان معتمِداً على مخطوطة قديمة ليست أَفْضَلَ ما حُفِظ، وربّما لم تنقّحها أنتَ تماماً، ونشرَها الطبيبُ الڤيرونيّ Lancillotus de Zerlis وربّما اعترى تحريرَه لها بعضُ الحَرْفِ عمّا أردتَ يا هِرمانّوس؟ عليَّ كي أُجيبَ بترتيبٍ أكاديميّ محترَم من غَير شطحٍ أن أنضمَّ إلى كتيبةٍ صغيرة من مستشرقين يكتبون عنك وعن ما ترجمت، وأنا قد تعبتُ من الكتابة عن أشياءَ عربيّة بغير العربيّة، رغمَ أنّ بني قومي يقدّرونني حين أفعلُ ذلك أكثرَ ممّا يقدّرونني في هذه اللّحظة، بل يقدّرون مستشرقةً أكثرَ منّي لأنّها ليست عربيّة ويصفّقون لها مطوّلاً وهي في مخاضِ إخراج حروفنا من مخارجها. على أيّ حال، ومن أجل العدالة، سأخبرُك عن جهود بعض المستشرقين المهمّة فيما يخصّنا أنا وأنت. أعرفُ أنّك ما مللتَ منّي بعدُ يا هِرمانّوس.

لقد كتب تشارلز بُرْنِتّ (Charles Burnett) أكثر من بحث حول ترجمتك. الأهمُّ عندي زَعْمُه أنّ پِتراركا (الإنسانويَّ النهضويَّ) الشهيرَ بحقده على العرب عِرقاً وفلسفةً وطِبّاً وشِعراً، وجدَ ذريعتَه في ذمّ الشعر العربيّ عندك أنتَ يا هِرمانّوس؛ في ترجمتك ذاتِها لشرح ابن رشد وفيما أضفْتَه إليه، وإذن في نصّ ابن رشد نفسه قبل ما عدّلْتَه وبعده. بلى، لقد وصفَ ابنُ رشد "الأفعال" التي يُخيِّلها امرؤ القيس في "سمَوتُ إليها" بغير العفيفة، ووصفَ قولَه بالفجور، لكنّه اقتبسَه، مراراً، كي تصل فكرة أرسطو كما فَهِمها. وبلى، لقد نقلَ عن أبي نصر الفارابي قولَه إنّ أغلب أشعار العرب هي في "النَّهَم والكَريه (أو الكُدْية)"، وإنَّ النّسيبَ حثٌّ على الفسوق. لكنّكَ كما يوضّح تشارلز حدّدْتَ الفسوقَ بالجِماع، بل أضفْتَ شرحاً من عندك وسطَ ترجمتك هذه الأسطرَ إلى اللّاتينيّة موهماً أنّه لابن رشد، تقول فيه إنَّ الشعراء العرب يقنِّعون الحثَّ على الجِماع ويجمِّلونه باسمِ الحبّ (amoris nomine)! أيّ قناعٍ هذا يا هِرمانّوس؟ هل كنتُم عاجزينَ إلى هذه الدّرجة عن استيعاب الممكن البشريّ الجميل بعيداً عن سذاجة الثّنائيّات؟ هل عَمِيتُم عن "الإنسانيّة" و"النهضة" في امتزاج "قفا نَبكِ" بـ"هَصَرتُ بِفَودَي رأسِها فتمايَلتْ" بـ"وإنْ تَكُ قَد ساءَتْكِ منّي خليقَةٌ... فسُلّي ثيابي من ثيابِك تَنسُلِ"؟ أم إنَّ الفاجرَ عِندكُم لا يبكي ولا يعشقُ ولا يخشى النّوى يا هِرمانّوس؟ لن أقسوَ عليك، مهما شوّهتَ ابن رشد، فأنتَ قد تكون، أخلاقيّاً، قريباً جدّاً من القاضي الأجلّ وإنْ من الجِهة المسيحيّة - فقد سمعتُ أنّك راهبٌ أو أسقفٌ - وتُفضِّل الشّعرَ أقلَّ فُسوقاً، فتحمّسْتَ وأضفْتَ ما أضفْت.

لكن يا عزيزي، لو افترضنا أنّك فهمتَ شطر امرئ القيس، كان بإمكانك أن تحاوِلَ نقله كما هو وإن اعترضْتَ على فُجورِه، تماماً كما فعل الأندلسيّ. لقد "قنَّعْتَ" و"أخفيْتَ" مقصِدَ امرئ القيس ومقصِدَ ابنِ رشد، ولإخفائكم مقاصدَنا قصّةٌ طويلة جدّاً - جدّاً يا صديقي. لقد وصلَ بكم الأمرُ أنّ صفحةَ موسوعةٍ شهيرة اسمها ويكيبيديا تتحدَّث عن جِنس أدبيّ اسمه باللاتينيّة "Ubi Sunt" (أين هم؟) باعتباره بادئاً في الكتاب المقدّس وممتدّاً إلى الأدب اللاتينيّ والفارسيّ والإنجليزيّ والفرنسيّ والإسبانيّ والألمانيّ، تمتنعُ عن ذكر كلمةٍ واحدة عن تخصُّصِنا العربيّ الدّقيق في الوقوف على الأطلال. لم أَعُدْ أستغْرِب يا هِرمانّوس، لكنّي سأكذبُ إن قلتُ إنّي ما عُدتُ أغضب، منكم ومنّا، أكثرَ ممّا أطيق. ومع ذلك ما يزالُ بي رغم كلّ شيء، كلّ شيء، وَجْدُ تلك الأعرابيّةِ في النَّوى مطحوناً بوَجْدِ تلك الحمامةِ الّتي تغنَّتْ بلحنٍ أعجميّ، وأشتهي أن أدرِك المستحيل؛ ذلكَ "الغناءَ الرّوميَّ" الذي سمعه الأعشى وهو يُسقى الخمرَ في اليمن عندما زار أساقفة نجران، وذلك العودَ الذي وَصَف مهما كان أصلُ اللّحنِ الّذي عزف: "إذا قلتُ: غَنِّي الشَّربَ، قامَتْ بمِزهَرٍ ... يكادُ إذا دارتْ له الكفُّ ينطِقُ". نسيتُ أن أخبرك يا هرمانّوس أنّني أستطيعُ الآن وبسعادةٍ طفوليّة غامرة أن أتغنَّى بإنيادة ڤيرغيليوس باللّاتينيّة، ببحركِم السداسيّ الجميل، البسيطِ حدّ الطفولةِ مهما قيل عن شبهه بالطّويل والبسيط، ويَهيجُ هوايَ الّذي بين الضلوع عندما تقولُ لكم مَلِكةُ قَرطاج بكلِّ عُنفوانها إنّ "المدينة التي أَبْنيها، هِيَ لَكُم، فاسحَبُوا سُفُنَكم"، وإنَّها لن تُفرِّقَ إطلاقاً بين صُوريٍّ وطرواديّ:

Urbem quam statuo, vestra est; subducite naves;

Tros Tyriusque mihi nullo discrimine agetur.

8

تحدّثتُ عنك مع تشارلز. لا جوابَ عنده الآن للسؤال: لماذا فعلتَ هكذا في البيت؟ قال لي إنّ puella (فتاة، عذراء) قريبةٌ من التصوّر الأوروبيّ في زمانك عن جنّة المسلمين، وهو ما قد يفسِّر عنده خيارك. لم أذكرْ له "كواعبَ أترابا" ولم أتابع الحوار، فقد جُرّ انتباهي في رسالته إلى وصفه لعبارتك "tenuissem puellam" بالـ"تعبير الحياديّ" (neutral expression)، ووصفِه لعبارة امرئ القيس الأصل "أتبطّن كاعباً" بـ"colourful" (حيويّة، زاهية) و"risqué" (فاضحة، إباحيّة). فكّرت في الوقت الّذي مرّ: هل تغيَّرتُم أخيراً أم في الظّاهر فقط؟ لقد مرّتْ قرون منذ أن عبّر پتراركا عن احتقارِه الشعرَ العربيّ (الّذي عرفه من ترجمتك للشّرح الوسيط كما يقول تشارلز) لأنَّهُ كما يقول لم يجد شيئاً أكثر ضعفاً وغوايةً وعاراً منه. استوقفتني إحدى النعوت اللاتينيّة التي استخدمها لشعرنا: "enervatius"؛ أي بلا لُبّ وبلا عَصَب، وقد تعني أيضاً أنّه مخنّث. لن أتوقَّف عند الاحتمال الأخير، لوضوح الحجّة ضدّه كالشَّمس. أنا عادة لا أجادِلُ المهستِرين يا هِرمانّوس لأنّني أُشْفِق عليهم، ولن أمرَّ بتفاصيل دورنا الهائل في نهضتكم يا صديقي وبأسباب الحقد لأنّ موضوعَنا كما اتّفقنا شطرٌ واحد فقط من بيتٍ في قصيدة عربيّة مذهلة. أنتَ لستَ مُهَستِراً يا هرمانّوس، كما أنّ قصائد پتراركا في لاورا لطيفة. لقد حاول تشيرولّي وغابرييلي تبريرَ موقف پتراركا من الشّعر العربيّ متسائلَين عن درجة معرفته فيه أصلاً مؤكّدَيْنِ على ضرورة فهم العنصر الإنسانويّ الأوروبيّ الّذي كان يدافع عن نفسه أمام التّراث العربيّ الفلسفيّ والعلميّ الّذي حاول الاندماج في العقيدة المسيحيّة الملهمةِ للشاعر إلى آخره إلى آخره إلى آخره يا هِرمانّوس. ليس هذا ما يهمّني اليوم بل التساؤل: ماذا لو أنّه بدل الحقد استوقَفَ صاحِباً عند الكنيسةِ التي لمحَ عندها لاورا لأوّل مرّة واستحضر امرأ القيس - في آڤينيون بدل سِقطِ اللِّوى - باكياً "من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ"؟ أيّ عَصَبٍ ذاك الذي لم يرَه پِتراركا في شعرنا؟ لو أنّه عرف القصيدةَ موضوعَ حديثنا حقّاً، ووصل البيتَ: "يُضِيءُ الفراشَ وجهُها لضجيعِها... كمصباحِ زيتٍ في قناديل ذُبّالِ"، لـمَسَّ العصبَ في الزيت والمصباح والقنديل والفراش ووجهِها وكافِ التّشبيه يا هرمانّوس.

لقد أحَبَّ پِتراركا شعراء روما القديمة وخطباءها يا هِرمانّوس، مثلَنا جميعاً، واهتمّ بهم من أجل "العنصر الإنسانويّ" القائم على استدعاء الكلاسيكيّات غير العربيّة، بل كان يعرف قصائد أوڤيديوس التي يعدُّها النّاس "إيروسيّة". لم تعجبه يا هِرمانّوس، بل لم يُطِقها، كما لم يُطق شعرنا، ولذلك أحترمه قليلاً على هذه العدالة.

لقد أدركَ هذا الكاثوليكيّ العفيف عبقريّةَ أوڤيد: "Ille mihi quidem magni vir ingenii videtur" (يبدو لي فعلاً رجلاً ذا عبقريّة كبيرة)، لكنّه يضيف: "sed lascivi et lubrici et prorsus mulierosi animi fuisse" (لكنّ روحَه كانت بالمجمَل داعرة فاسقة محبّة للنساء). لقد فهم كثيرٌ من المترجمين "mulierosus" في جملة پِتراركا على أنّها تعني– بدل حبّ النساء- أنّ روحه "أنثويّة" (effeminate,womanish, feminile)، ورغم أنّ المعاجم اللّاتينيّة لا تقول ذلك إطلاقاً وهناك من صحَّحَتْ مؤخّراً الترجمةَ الإيطاليّة القديمة "feminile" التي كانت أساسَ الخطأ، لكنّ تقاطُعَ هذا الخطأ مع الاحتمال الضعيف بأنّ وصفه لشعرنا بـ"enervatius" قد يعني التّخنيث كذلك، يبدو لي مدهشاً جدّاً. لقد كتبتُ مرّةً عن الأنوثة الضروريّة لفحولة الشّعراء، ولم ينتبه إليّ أحدٌ كالعادة يا هرمانّوس.على أيّ حال، لم يمتلك پِتراركا ما يجعلُه يساوي امرأ القيس بأوڤيد، أي أن يدرِكَ عبقريّة شاعرنا قبل أن يكره فجورَه لأسباب دينيّة، بسبب الحاجز اللّغويّ والحقد الحضاريّ. لقد أعنْتَه يا هِرمانّوس على هذا الظُّلم، قليلاً فقط، لأنّك كنتَ طريقَهُ إلينا، وربّما أعانه أبو الوليد أيضاً وإن كانَ لا يدري ما الّذي ستفعلونه بملاحظاته الأرسطيّة على شعرنا يا هِرمانّوس.

قبل أن أسهوَ عن استطرادٍ مهمّ: هل تعرف قصيدة أوڤيد التي مطلعها "Aestus Erat" (كان الجوّ قائظاً) يا صديقي؟ كم تشبه معلّقتنا جدّاً، جدّاً يا هرِمانّوس، حدّ أنّ كورينّا عند شاعركم تكادُ تكون بيضَة الخِدر عند شاعرنا. هل تذكرُ كيف وصف أوڤيد ثوبَها الداخليّ "الرقيق" (rara)، الذي يغطيّها منحلّاً عنه الحزام: "Ecce, Corinna venit, tunica velata recincta".... والّذي هو عندنا: "فَجِئتُ وَقَد نَضَّت لِنَومٍ ثِيابَه... لَدى السِّترِ إِلّا لِبسَةَ الـمُتَفَضِّلِ"؟ وبينما مزّق أوڤيد ثوبَها (deripui tunicam)، كان امرؤ القيس يصبرُ ويتمتّع "مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَـلِ". كورينّا صامتةٌ عندكم، وعندنا تقولُ "وَما إِن أَرى عَنكَ الغِوايَةَ تَنجَلي"، وتصدُقُ، ويشيخُ شاعرنا ماجناً مجروحاً. أيّ القصيدتين أقلّ عَصَباً يا هِرمانّوس؟ تلك الّتي يغيبُ أم يحضرُ فيها صوت امرأة؟ أعرف، أعرف أنّ أوڤيد كتب "البطلات" (Heroides) وهي قصائدُ/رسائل على لسان النّساء ومنهنّ پينيلوپي وهيلين وديدو وميديا وسافو، ولي فيها رأي لم يكتملْ بعد، وأعرف أنّ المهزومَ مثلي (حضاريّاً لا جندريّاً هنا) هو الّذي يقارن باحثاً عن فوقيّة أو أسبقيّة، لكن اصبر عليّ قليلاً. هل تذكر ما قاله أوڤيد عن شكلِ نهديّ كورينّا (forma papillarum)؟ قال إنّه "apta premi"؛ أي مناسبٌ للّمس أو الضّغط أو التّربيت. لقد كانت كورينّا كاعِباً كما يبدو، جدّاً يا هِرمانّوس. لقد كتبَ المترجِمُ العربيّ عن نهديها: "كم هما شامخان"، رغم أنّ سطور القصيدة لا تقول ذلك تماماً. ربّما خجِل ممّا في القصيدة اللّاتينيّة مثلما خجلت أنتَ ممّا في القصيدة العربيّة يا هرمانّوس.

9

نعم يا صديقي، لقد وُصِف شعر امرئ القيس بالفُحش والمجون. على أنَّ المعلّقة وأختَها موضوعَ حديثنا هما على البحر الطّويل الّذي يسمّيه شيخُنا عبدالله الطّيّب "بحر الجلالة"، وقد استثناه من وصفه لبحور أخرى بـ"شهوةٍ تحوّلت ألفاظاً ولَبِسَتْ هذا النّغم"، كالبسيط المنهوك والمتقارب المجزوء. ليس الطويلُ "فاجِراً" أو "شديدَ الدعارة" عندنا، بل جليلاً يا هِرمانّوس. لقد اعتُبِرت "ألا عِم صباحاً" دليلاً على تعشّقِ امرئ القيس امرأةَ أبيه، لكنّنا نكفِّر عن ذنوبنا كلّها بالجلال والبحور والقوافي والجمال، حدّ أنّ الطّيّب تحمّس فقرّر أنّ امرأ القيس "أعفّ وأنبل" من د.ه. لورنس. لا أرى المقارنة في مكانها أصلاً، رغم أنّي أُحبُّ من الرواية الشهيرة ما جاء في الرّسالة الأخيرة: "كلماتٌ كثيرة، لأنّني لا أستطيع لمسَكِ". لو كان لا بدّ من مقارنة حقيقيّة حول فُحشٍ شعريّ جميل، فلتكُنْ مع قصيدة ييتس: "ليدا والبجعة" (ودَعْكَ من E.E. Cummings ومن W.H. Auden لأسباب يطولُ شرحُها).

يا إلهي كم أحبُّ قصيدة ييتس هذه يا هِرمانّوس، يا إلهي، وكم يصدمني مطلعُها في كلّ مرّة وكم هي عبقريّةٌ رغم أُلفة الأسطورة، إذ فيها تَسقُط حُصونُ طروادة (The broken wall…) في اللّحظة التي تتشكّلُ فيها هيلين في رحم ليدا عندما يغتصِبُها الإله زيوس متنكّراً في صورة بجعة. استطردتُ، أعرفُ، بل أوشكتُ أن أذهبَ بك من هذا العُنفِ البديع إلى سبايا أبي الطيّب الروميّات وهنّ "ينتحِبنَ بعَرقَةٍ... كأنّ جيوبَ الثّاكِلاتِ ذيولُ"، وأصلَ معك من طروادة إلى حلب حيثُ بلاط سيف الدولة. كُنتُ لأستدرِكَ في طريقنا إلى الشّهباء وأخبرَك أنّني لستُ قاسيةً يا هِرمانّوس، وأنّ ليدا والكاعِبَ والسّبايا روميّاتٍ وعربيّات كلّهنّ منّي، ورُبّما لو تركتُ نفسي تشعُر بهنّ حقّاً لَخنُتُ عَيناً ما بَرِحَتْ ترى الجمال حُرّاً حتّى من نفِسها. أنا من زَمَنٍ تَربّى عاطفيّاً مُذ سَمِعَ غصباً عنه صُراخَ الضّحايا يا هِرمانّوس، ولم يعُد بإمكان سيّد فيه أن يَجلِدَ عَبداً وينجوَ لأنّه أبدع في النّظمِ والاستعارة.

10

هِرمانّوس لا تقلق لأنّا وصلنا حلب، فأنا لن أعاتبكَ هنا على جريمة ترجمتك لـ"إذا كان ما تنويه فعلاً مضارِعاً..."، لأنّني وعدتُك. ولا تقلق، لن أحدّثكَ عن "وسوى الرّوم خلفَ ظهركَ رومٌ" أو أعودَ بك إلى "أنّا لاحقانِ بقيصرا" مروراً بـ"غُلِبَت الرّوم" لأنّي وعدتُ نفسي. سأُنبّهك فقط إلى أنّ النقاش حول "ولم أتبطّن كاعباً" والشطر ِالذي قبله والبيتِ الذي قبله لم يكن حولَ أيّ شيء، أيّ شيء ممّا استفزّ بني قومِك في الملك الضّلّيل، بل حول مسألةٍ متعلّقة بملاءمة الصّدر للعجز أعاد ذكرَها ابنُ رشد مع البَيتَين باصطلاحات أرسطيّة وترجمتَها أنتَ، أنتَ يا هِرمانّوس! لكنّ هذا سيتعبك كثيراً، وسأضطرُّ أن أشرح لك "السياقَ" وأخطاءَك في ترجمة بيتَي المتنبّي (وقفتَ وما في الموتِ..) وسأخبرك عن مقالة سابقة ذكرتُ فيها خطأً بديعاً متعلّقاً بترجمتك إذ فُهِمَ من إحدى نُسخِها الكثيرة أنّ أرسطو يقتبس المتنبيّ وأنا لا أريدُ أن أتحدّث معك الآن عن أبي الطيّب وعن كلامٍ قيل عنه باللّاتينيّة بَعدكَ وأتعَبَني لأنّني ببساطة لن أتوقّف ولو تمادَيتُ رغم أنّ صديقي اللّطيف عبد الفتّاح كيليطو يقول إنّ الاستطراد هو منذ الجاحظ فنّ في التّفكير لكنّني ببساطة لست الجاحظ ولا أساوي نقطةً على حرفٍ في كلمة فكّرَ فيها وبها ومرادفاتِها الجميلُ أبو حيّان. أنا ثرثارة يا هِرمانّوس، ثرثارةٌ ووحيدة. هل لك أن تتخيّلَ فداحةَ ذلك؟ لقد أوشكتُ قبل اكتشاف خطئكَ على كَسرِ الوحشة بمزاجٍ مهزوم، وكانَ منكم ويدّعي مثل غيره منّا قبل الخبز والملح أنّه يسمعني ويراني، واكتشفتُ أنّي كبِرتُ على ابتذال البدايات بقدر ما كبرتُ على سذاجة شعراء صدّعوا رؤوسنا بـ"أوّل الحبّ"، ربّما لأنّ فحولتهم تتوقّف هناك فتعجزُ عن فهم ڤيرجينيا وإقناعها بالبقاء. ڤيرجينيا: كِدتُ أصرخُ في ذلك المسرح الصّغير في كيمبردج قبل عامين حين أدركتُ أنّهم عبثوا بمشهدي المفضَّل من "أورلاندو"، لكنّني صفّقت بكلّ أعصابي وجوارحي في النّهاية ثمّ ثرثرتُ طويلاً، كثيراً يا هِرمانّوس في الطريق إلى حانتي المفضّلة على ضفّة الكام؛ الحانة التي شَهِدَتْني يوماً ما عشرينيّةً تستعرضُ عضلاتِها الفكريّةَ واللّغويّة لكي تُحَبَّ، ولم أكنْ سعيدةً رغم نجاحاتٍ تافهة مثلما كنتُ ذات نهارٍ ربيعيّ على الضفّة الأخرى من النّهر حين دعاني لأرقصَ الڤالس معه من غير موسيقا أو مناسبة شابٌّ ألمانيّ من بلادك يا هِرمانّوس وقَبِلْت. قل لي يا عزيزي: ماذا سأفعل بعدَ الكأسِ الأخيرة وقهوةِ الصّباح بواحدٍ يعرف طروادةَ عن ظهر قلبٍ ولا تهزُّه كلماتٌ ثلاث لامرئ القيس: "فلـمّا بَدَتْ حَوْران.."؟

ولكن في المقابل ماذا سأفعل بمَنْ هزّتْهُ وعشِقَ البلادَ وفكرةَ بغداد إذا لم تكن لديه خِبرة بجزئيّات "التّربية العاطفيّة" وبما قاله ابن سينا عن ذلك "البهاء" الكامن في مجاورة النفس الحيوانيّة وانفعالاتها للنّفس الناطقة؛ المجاورة الّتي تجعل الأفاعيل "أشرفَ وألطف" مثلَ رقصٍ من غير موسيقا؟ سأعطَشُ في واحته العربيّة وستتغشّاني كعادتي "حُمّى الرّمال" وسيجادِلُني في نَفْسِي ولن تتطابقَ الرّوايات. إنّ الحقيقةَ أبداً هكذا يا هِرمانّوس: طروادة مهزومة بسبب خشبٍ على شكلِ حصانٍ محشوٍّ بجنود الغرور. "لا تَثِقوا بالحصان!" ("equo ne credite")، هكذا صرخ لاوكوون في الإنيادةِ كما تعرفُ جيّداً يا هِرمانّوس، وأنا لستُ بريئةً أبداً من تلك الثّقة. من أنتَ أصلاً لأحدّثك عن حرمانٍ يتجدّد وأنا في عِزّه أُدرّسُ "طوقَ الحمامة" وأمرُّ على "في مديح الحبّ"؟ هذا من بابِ من "أجرى كلامَه على عكسِ الأمور" يا هِرمانّوس، والعبارةُ هذه وَردتْ في "نفح الطِّيب من غُصن الأندلسِ الرّطيب" عن إسحاق الموصليّ الّذي "أحزنَ في موضعِ السُّرور" حين جاء إلى قصرٍ مُشيّد فخاطبه بما تُخاطَب به الطُّلول البالية: "يا دارُ غيّرَكِ البِلى ومحاكِ"، مُتابِعاً إرثَ امرئ القيس الّذي فَتح باب القَلبِ والعَكس في "ألا عِم صباحاً أيُّها الطَّللُ البالي"، إذ حيّا الطَّللَ ودعا له بالسَّلامة "كالمبتهِج برؤية محيّاه" بدل البكاء. يذكُرُ المقّريّ هذا ليَصِلَ منه إلى رحيل شاعرٍ أندلسيّ عن غرناطة "وأعلامُ نجدٍ تلوح وحمائمهُ تشدو على الأيكِ وتنوح":

ولـمّا وقفْنا للوداعِ وقد بَدتْ ... قِبابٌ بِنَجْدٍ قد عَلَتْ ذلك الوادي

نظرتُ فألفيتُ السّبيكةَ فِضّةً ... لحُسنِ بياضِ الزَّهر في ذلك النّادي

والسّبيكةُ موضعٌ خارج غرناطة لا أعرِفُ ماذا تسمّونه يا هِرمانّوس. المهمّ أنّني بخير، لأنّني كُلّما تركتُ عِشقاً فضّيّاً في غرناطة ألفَيتُ رَمل نجدٍ ذهباً في داخلي، لامِعاً شاسعاً وحُرّاً وحيداً، وشعرتُ بالاستعارةِ أقوى من الحقيقة، فأنا لم أزُرْ نجْداً في حياتي يا هِرمانّوس رغم الجِوار كما أَنّني لا أريدُ أن أزورَها وحدي لأنّني سأشعرُ حتماً بالغُربَةِ في البنيان والزّمان. هِرمانّوس، أنا حقّاً بخير، وإنْ كانت الخَيبةُ جارحةً باردةً مثل هواء عمّان الآن، وأعرف أنّ ذلك لا يعنيك. أنا بخير، وإن بدَوتُ كثيراً مثل دجاجة ميشيل ويلبك المحبطة الجائعة في إحدى رواياته الّتي يقدِّم فيها كعادته حقيقةَ زمانِنا – هو وأنا رغم اختلافٍ بسيط- عاريةً قبيحةً فاجرة. في البدء تبذُلُ الدّجاجة جهوداً محمومةً كي تتجاوزَ السّياج السِّلكيَّ للوصول إلى طعامها، لكنَّها بالتَّدريج تستبدل بهذا السلوكِ آخرَ ليس له هدفٌ واضح، مثلَ طيورِ الحمام الّتي تنقُرُ الأرضَ حتَّى لو لم يكن هناك ما يَصْلُحُ للأكل، وهي لا تنغمسُ بهذا النَّقر العشوائيِّ فقط، بل تبدأُ بتقليم أجنحتِها. وبعد أن يشرح ويلبك أنّ هذا السلوكَ الشائعَ في حالات الإحباط والصِّراع معروفٌ باسم "نشاط الاستبدال" (activité de substitution)، يكتب: "أوَّلَ عام 1986، بعدَ أن بلغَ الثّلاثينَ بقليل، بدأ برونو بالكتابة". ("Début 1986, peu après avoir atteint l’âge de trente ans, Bruno commença à écrire"). هِرمانّوس، أعرفُ أنّ رسالتي هذه قد تبدو لك نقَراً مُحبَطاً بلا هدف، لكنّني فعلاً سعيدة وأنا أكتبُ لك، فخطؤكَ مذ مرَّ بي قد جعلني دجاجةً مسرورةً بلهاء وإن هالها علوُّ السِّياج. هِرمانّوس، اضحك عليّ أو معي. اضحك فأنا أحبُّ الضَّحك وأعشقُ الحياة، بل أرقصُ وأمشي وأحكي وأركض أكثرَ مِمّا أقرأ أو أكتب، وأعرفُ كيف أُدراي العجزَ وأقلّمُ أجنحتي مثلَ ذاك الحمام. لي مزاجُ ابن الجَهْمِ يا هِرمانّوس، لا في القصيدة الشَّهيرة، بل في أخرى تتمرّد على الجُرحِ في مَنزِلٍ بباب الكَرخ: "منازِلُ لو أنّ امرأَ القيسِ حَلَّها ... لأقصَرَ عَنْ ذِكرِ الدَّخولِ فَحَومَلِ". سقى الله بابَ الكرخِ يا عليّ. يكفي بوحاً على أيِّ حال، وتعالَ معي يا هِرمانّوس. سآخذُك إلى حيثُ كنّا قبل قليل، إلى الذّنب والجمال والغُفران. أوشكتُ على الانتهاءِ من هذا الموّال يا صديقي فاصبر وتعال معي إلى أَروعِ جحيمٍ في تاريخ الحضارات – جحيمِ أبي العلاء.

11

هناك امرؤ القيس، "تحترقُ عظامُه في السّعيرِ" بينما الأعشى، إمامُ الخمر، في الجنّة. تعالَ معي إلى الجنّة سريعاً لأخبِرَك عن الـمُدهِش الّذي حَدث. لقد رأى الأعشى بينما كانت الزبانيةُ تسحبهُ إلى سقر رجلاً "في عَرَصاتِ القيامة يتلألأُ وجهه تلألُؤَ القمر". كان النبيَّ محمّداً، وصرخَ الأعشى يطلبُ الشَّفاعة، فأحال محمّدٌ الأمرَ إلى عليّ ليسألَ الأعشى عن حُرمتِه بينما يُجَرُّ إلى الدَّرَك الأسفل من النّار. قرأ لعليّ الأبياتَ الّتي أوّلُها: "ألا أيّهذا السَّائلي أينَ يمّمْتَ... فإنَّ لها في أهلِ يَثرِبَ مَوعِدا". يُخْبِرُ عليُّ محمّداً عن حادثةِ مجيء الأعشى إليه في الدَّار السابقة وكيف "صدّتهُ قريشٌ وحبُّه للخمر"، فيشفَعُ له النبيُّ ويُدخِلُه الجنّةَ على أن لا يشربَ فيها خمراً بل يكتفي بأنْ تقرَّ عينُه بالعَسلِ وماءِ الحيوان. هِرمانّوس، هل ما زلتم تتحّدثون عن عظمة دانتي أليغييري؟ لا، لن أجادِلكَ في ذلك الآن، لأنَّني كتبتُ مع زميل ثرثار أيضاً مقالةً أطولَ من هذه لم تُنشر بعدُ، فيها أنّ شاعرَكم عذَّب نبيَّنا في جحيمِه على الطَّريقة الفرويديَّة لكي يخفيَ حقيقةَ ما أعجَبَهُ فسَرقَه من قِصَّة المعراج، بل من القُرآن بترجمةِ مارك الطليطليّ وَفقَ إنسانة ذكيَّة اسمُها كارلا، وأنَّه كان قلِقاً وهو يَفعلُ ذلك - جدّاً يا هِرمانّوس.

لم يَجِدْ أبو العلاء حُرمَةً تشفَعُ لامرئ القيس كما شُفِع للأعشى. كان بالتّأكيد يعرف الحديثَ ضعيفَ الإسنادِ عن شاعرنا: "ذاك رجلٌ مذكورٌ في الدّنيا منسيٌّ في الآخرة، شريفٌ في الدنيا خاملٌ في الآخرة، يجيء يوم القيامةِ بيده لواءُ الشُّعراء في النّار". كان يعرف أيضاً خَبَراً مزعوماً عن وَفدٍ خرجَ من جُهينةَ يريدون النبيّ وأخبروه: "لولا بيتان قالهما امرؤ القيس لهلكنا!"، إذ دلّهما البيتان على عين الماء، فيقول النبيّ: "أما إنّي لو أدركتُه لنفعتُه، وكأنّي أنظرُ إلى صفرتِه وبياضِ إبطيه وحموشةِ ساقيه، في يده لواءُ الشُّعراءِ يتدهدى بهم في النّار". اختار أبو العلاءِ أن يتبَعَ النبيَّ في الجزء الأخير من قوله فيُبقي على امرئ القيس في النّار، رغمَ أنّ "لو أدركتُه لنفعتُه" حُرمةٌ ما بعدها حُرمة يا هِرمانّوس. لا بأس، فهو قد حمَّلَهُ لواءَ الشُّعراء إلى النار لكنّه لم يجعلْهُ أبداً منسيّاً ولا خاملاً في الآخرة، بل تركَه يحكي، ويحكي. ينادِيه ابنُ القارح: "يا أبا هند"، ويسألُه عن رأيه في زيادة رواةِ البغداديّين واواً قبلَ "كأنّ" في ثلاثة أبيات من "قِفا نبكِ". يغضبُ صاحب اللِّواء ويصفُهم بانعدام الغريزةِ في وزن القريض، ويستمرُّ في الإجابة عن أسئلة متعلِّقة بزحافٍ أو بتحريك ِكلمة في شعره، نَصْباً وخفضاً ورفعاً، غاضباً ممّا يقوله النحْويّون. ثم يا هِرمانّوس يُستفَزُّ شاعرُنا حقّاً. هِرمانّوس، ركّز معي جيدّاً، فجُلُّ ما حاولتُه في رسالتي هذه إليكَ تختصِرُه السُّطور القادمة. يسألُ ابنُ القارح امرأ القيسِ عن تسميطٍ منسوبٍ إليه:

يا صَحْبَنا عَرِّجُوا ... تَقِفْ بِكُمْ أُسُجُ

مَهْرِيَّةٌ دُلُجُ ... في سَيْرِها مُعُجُ

طالَتْ بها الرِّحَلُ

فعرَّجوا كلُّهُمْ ... والهَمُّ يَشْغَلُهُمْ

والعِيْسُ تَحْمِلُهُمْ ... لَيْسَتْ تُعَلِّلُهمْ

وعاجَتِ الرُّمُلُ

يا قَوْم إنَّ الهوى ... إذا أَصاب الفَتَى

في القَلْبِ ثمَّ ارتقى ... فهدَّ بعضَ القُوَى

فقد هَوى الرَّجُلُ

يُجيبُ شاعِرُنا – واسْمَع الجوابَ جيّداً يا هِرمانّوس:

"لا واللهِ ما سَمِعتُ هذا قَطّ، وإنّه لَقَرِيٌّ لم أسْلُكْه، وإنّ الكَذِبَ لكَثِير. وأحسَبْ هذا لبعض شُعَراء الإسلام، ولقد ظلمني وأساء إليّ! أَبَعْدَ كَلِمَتي التي أَوَّلُها:

أَلا انْعِمْ صباحاً أَيُّها الطَّلَلُ البالي ... وَهَلْ يَنْعَمَنْ مَنْ كانَ في العُصُرِ الخالي

وقولي:

خَليليَّ مُرّا بي على أُمِّ جُنْدُبِ ... لأَقْضِيَ حاجاتِ الفُؤَادِ المعذَّبِ

يُقالُ لي مِثْلُ هذا؟ والرَّجَز أَضْعَفُ من الشِّعر، وهذا الوَزنُ من أَضْعَفِ الرَّجَز."

هل سَمِعتَهُ يا هِرمانّوس؟ أبعْدَ "ألا عِمْ صباحاً" يُقال له مثلُ هذا؟ أبعدَها يُترجَم شطرٌ منها هكذا؟

اسمعه جيّداً: "وإنّه لَقَرِيٌّ لم أسْلُكْه، وإنّ الكذب لكثير".

اسمعه بالعربيّة مرّةً أخرى يا هرمانّوس: "أبَعْدَ كَلِمَتي الّتي أوّلُها ... يُقال لي مثلُ هذا"؟ لقد تُرجِمَت "الغفران" مؤخّراً إلى الإنجليزيّة، والعبارةُ هذه هكذا:

"After my poem that begins (…) is it conceivable that such things are attributed to me?".

لن أُعلّقَ على التَّرجمة يا هِرمانّوس وسأُخفي ابتسامةً هازئة. لكن اسمعْ ما قاله امرؤ القيس عن "كَلِمَته"، بالعربيّة فقط، علّكَ تفهَمُني وتفهمُ عَتْبي وذنبَك. اسمعهُ بالعربيّة فقط وهو يشكو ما حلَّ بأشيائه وأطلاله: "أَتَتْ حِجَجٌ بعدي عَلَيها فَأَصبَحَتْ... كَخَطِّ زَبورٍ في مَصاحِفِ رُهبانِ". أما تأثّرتَ بعدُ يا صديقي؟ من لا يتأثّرُ لن يَفهَمَ، ولن يستطيعَ الترجمةَ أبداً يا هِرمانّوس.

هِرمانّوس، لقد حاولتَ على الأقلّ ترجمةَ أشعارنا الواردةِ في شرح ابن رشد، ولم تَشْطُبها كما فعل التُّرجُمان اليهوديّ (Todros Todrosi) في النسخةِ العبريّة في القرن الرابع عشر، وتَبِعَه المترجِمان Jacob Mantinus و Abraham de Balmes في ترجمتيهما إلى اللّاتينيّة في السّادس عشر. لم تشطُبها، وربّما سيكشِفُ الوقتُ والجُهدُ ما هو منّا فيكم حقّاً، بسَببِك. هِرمانّوس، لن أقول شكراً، كما لن أطُالِبَك باعتذار. الموضوعُ برُمَّته بيني وبينَك لا يستحقُّ ذلك، فهو لا يتجاوز كلمتين عربيّتَين - واثنتين لاتينيّتَين - من شطرٍ من بيت من قصيدة، وأنا من بالغتُ وجعلتُ من الحبَّة قُبَّة. لا تصدِّقني يا هِرمانّوس، فذلك ما أقوله عندما أنهَزِمُ حقّاً قبل الوداع، وأنا لم أنهَزم أمامَك يا هِرمانّوس، أليس كذلك؟ لا، لا تُجِبْني. أنا لم أعُدْ أحتاجُ أن يُخبِرَني أحدٌ عَنّي إلّا أحياناً مُنتقاةً ليسَتْ هذه منها بالتّأكيد. لقد كَبِرتُ على الحاجة هذه يا هِرمانّوس. كبِرتُ كما زعمَتْ بَسْباسة. لكنَّني ما زِلْتُ أُحْسِنُ اللّهوَ، لهواً كهذا، جدّاً يا هِرمانّوس.

___________________

* بلقيس الكركي: كاتبة وأكاديميّة من الأردن

Comentários


bottom of page