top of page
صورة الكاتبعمر زكريا

القِمَطۡر: مُقَدّمة في الڪِٺٰابولوجۡٻـٰا

تاريخ التحديث: ٢٩ سبتمبر ٢٠٢١

مادة لـ عمر زڪريا



"القِمَطْرُ والقِمْطَرةُ:ما تُصان فيه الكتب؛ قال ابن السّكّيت: لا يقال بالتشديد؛ ويُنشِد: ليس بعِلْمٍ ما يَعي القِمَطْرُ، ما العِلْمُ إِلا ما وَعاه الصَّدْرُ. والجمع قَمَاطِرُ."
لسان العرب

  • تمهيد

تُصان الكتب بقراءتها، تمامًا كما قال ابن السكّيت، فبقراءة الكتب ينتقل ما فيها إلى عقل القارئ وفؤاده دون أن تُغادر الحروف جسد الورقة التي عليها. هكذا وهكذا فقط يُقدَّر الكِتاب، بقراءته وفهمه وحفظه وشرحه. أمّا وبعد أن وقعت الكلمات المكتوبة على القلوب ذاك الوقع الأثير ظهر القِمَطْر ليحفظ ذلك الجسد من التلف والاتـساخ. القِمَطْر يأمُل أن يحفظ الكتاب لتُعادَ قراءته لا لكي يزيّن المكتبة، وإلّا ضاع جهده بضياع هدفه.

هذا بعضٌ من اللامرئي في الكتب. وبقدر ما تبدو هذه العبارة غريبة، لأنّنا ببساطة يمكننا التعرّف إلى كتابٍ ما إن تقع أعيننا عليه، ولا يوجد ما هو غير مرئيّ فيه، فهو مادّة وكتابة صُنِعَ لكي يُقرأ، صُنِع لكي يُرى. فحتى ما بات يُعرَف بالكتب الصوتية هي كُتُبٌ أُعِدَّت لكي تُقرَأ وقام صاحب حقوقها بتسجيلها.

لكنَّ هذا المتن ليس عن الكتب الصوتية أو حتّى الإلكترونية، فالكتب الصوتية والإلكترونية ما زالت عاجزةً أمام هذا المستمر الصامد الذي ما زال يدويًّا مع كلّ تغيُّر أساليب نسخه وصناعته وطباعته.

لكن ماذا أعني بوصف هذا المتن هُنا بتلك العبارة الغريبة؟ إنَّ هذا المتن هو بداية رحلة في شؤون "الكتاب" التي لاحظتها والتي تقع بين عالميِ الكتابة والقراءة. منها ما هو شخصيٌّ ومنها ما هو بحثيّ، لكن في كلتا الحالتين هو يصبو إلى السير في دروبٍ بين نقاط المطر دون أن يتبلّل بها. قد نتكلّم عن فعل القراءة وحِرفة الكتابة وعن الحروف والنظام الصوتي، لكن ليس بهدف نقدها أو دراستها هي، إنّما بهدف توضيح نظرتنا إلى ذلك الجسم المستطيل الذي لطالما اسثتارني وربما استثارك أنت أيضًا.

العبارة تلك لن تكون غريبةً أيضًا حين نعلم أنّ دراسات الكتاب، بما هو ذلك الشيء الناقل للأفكار، بدأت تأخذُ حيزًا مهمًّا في شؤون المعرفة بسبب ما صارت تطرح التاريخ الفكري للعالم من وجهة نظرٍ مختلفة. إنّ دراسة المفاهيم السائدة لشعبٍ مضى اعتمادًا على الكلمات المكتوبة في وقتها دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف المحيطة بالكتاب والكتابة قد تُعطي انطباعًا مغلوطًا للتاريخ الفكري لذلك القوم.


  • ڪِٺٰابولوجۡٻـٰا

العلوم الإنسانية تتداخل فيما بينها، واهتزَّ عرش التصنيف الصارم الذي تربَّع عليه التقليد الأكاديمي الجاف. لم تعد جميع الدراسات خاضِعَةً لأنظمة معيارية ثابتة تضع المؤلَّف بسهولة في خانة دون أُخرى. ربما هذا الاهتزاز سبق دخوله إلى أروقة كليات الجامعات قبل الدخول إلى أنظمة المكتبات العامة والأكاديمية. لكنّه الآن بدأ يدخل إليها أيضًا متأثرًا بمؤسسات شبيهة كمتاجر بيع الكتب. وهناك الكثير من المكتبات العامّة التي أرادت إدارتها تسهيل وصول القارئ المرتاد إلى الكتب فغيَّرت نظام تصنيفها ليصبح أقرب إلى متاجر بيع الكتب.

كذلك الأمر شأنُ الدراسات التي تقومُ بدراسة الكتاب متناولةً إيّاه بصفته شيئًا؛ بمعنى صفته بأنّه ذلك الوعاء أو الوسيط النّاقل للكلمات والأفكار والعلوم والآداب، بل الصوَر والرّسومات والموسيقى، رغم أنّها دراسات بالعادة تكون في الجامعات ضمن أحد برامج كليّة الآداب، لكن لا يمكنها إلّا أن تكون مرتبطة بالفكر النقدي والتاريخ السياسي والاجتماعي والفكري، إضافةً إلى العلوم الاجتماعية المحيطة بالكتب وتاريخ صدورها وكيفية صناعتها، وهذه الأخيرة تدخلنا إلى عالم علم الآثار (الأركيولوجيا)، حيث يهتم الباحث بدراسة المواد التي استُخدمت في الكتابة والكتاب سواء أكان ذلك الحبر أو الورق وغير ذلك. إنّها دراسات متشابكة وصلت العلوم ببعضها وذهب شأنها إلى تخصّصات التراث الثقافي المعنية بحفظ التراث وإدارة المتاحف.

ولكن ما اسم هذا العلم أو الفرع من الدراسات؟ في الجامعات الغربية لا يستخدمون مصطلحًا علميًّا موحّدًا فبعضهم من يسمّيه ما ترجمته "تاريخ الكتاب" وآخرون يسمونه "دراسات الكتاب". لكنّ اسمًا مشتقًّا من اليونانية يتم تداوله أحيانًا وهو ما تعريبه "بِبليولوجيا" وهو مشتق من كلمتيّ "بِبليو" اليونانية أي كتاب و"لوجيا" أي فرع دراسة. فنعود لتسمية دراسة الكتاب. لكنَّ كلمة "بِبليو" اليونانيّة هي جذر كلمة Bible بالإنكليزيّة أو Biblia بالإسبانيّة وهو المصطلح الذي يشير إلى الكتاب المقدّس لدى المسيحيين وحامل اسم "الكتاب المقدّس".

نصل بالتالي إلى أنَّ مصطلح بِبليولوجيا في الأكاديميا يعني أيضًا "دراسات الكتاب المقدّس"، وفي معظم استخداماته هو يُستعمل في هذا المعنى أكثر ممّا يُستعمل في الأوّل. والمثير للانتباه هنا أنّ عبارة "دراسات الكتاب" في اللّغة العربية حيث كلمة كتاب معرّفة بأل التعريف إذ تشير في غالب الأحيان أيضًا إلى دراسات الكتاب المقدّس نفسه. فما المخرج من هذا؟

يمكننا الاستعانة بأمثلة أُخرى من العلوم التي عُرّب اسمها فمثلًا إن كانت السوسيولوجيا هي علم الاجتماع والسيكولوجيا هي علم النفس فهل يصح أن نأخذ البِبليولوجيا لنترجمها إلى "علم الكتاب"؟

قد يبدو هذا الحل منطقيًّا في الوهلة الأولى. لكن يتبيّن فيما بعد عند مجرّد محاولة البحث عن استخدامات هذا التركيب المكوّن من مضافٍ ومضافٍ إليه أنّه قد حُجِزَ في اللّغة العربيّة مسبّقًا.

إنّ كلمة كتاب معرّفة بأل التعريف قد تقاسَمَها المسلمون والمسيحيون على حدّ سواء. وكما الحال مع عبارة دراسات الكتاب، فإنّ علم الكتاب هو علم القرآن أو علم فقه القرآن.

ها قد عدنا مجدَّدًا للتعابير المشحونة بمعانٍ لها دلالاتها الثقافية...

أقترح تسمية "كتابولوجيا" التي أُحبُّ وقعها. وهي جمعٌ بين كلمة "كتاب" العربية غير المعرّفة مع لفظ "لوجيا"، مانحًا "للكتاب الوعاء" أو "الكتاب الوسيط" مساحته للدراسة في هذا المجال. واختيار هذا التركيب العربي-اليونانيّ ليس اعتباطيًّا أو تقليدًا أعمى للحضارات اللاتينية التي قامت بإدخال لفظ لوجيا على كلمات موجودة لديها لتصنيف فروعٍ جديدة في العلوم كما حصل مع مصطلح سوسيولوجيا؛ فلفظ "سوسيو" له اشتقاق لاتيني و"لوجيا" كما أسلفنا من اشتقاق يونانيّ. وبعد ذلك حُوِّر المصطلح في اللّغات الأُخرى ليتناسب مع لفظها فأصبح مثلًا بالإنكليزية Sociology بعد أن أخذتها عن التحوير الفرنسيّ لها Sociologie.

ومصطلح كتابولوجيا ليس تقليدًا أعمى كذلك لتحويرات تراكيب هي يونانية بالكامل كمصطلح سيكولوجيا حيث "سيكو" اشتقاقها يوناني خلافًا لسوسيو.

إنّما يقوم هذا الاقتراح على اعتماد الادّعاء التاريخي بالامتداد البشري الفكري الذي بدأت به الشرائع والأفكار التي انطلقت من الحضارات في بلاد الرافدين وبلاد الشام وأرض الكنانة. وانتهت بعد ذلك في الرّابط الفلسفي الذي جاء أثناء حركة الترجمة في العصور الإسلامية الذهبية.

الاستناد الأوّل الذي سأعتمد عليه، بسبب ارتباط الحديث عن الكتاب، هو الأبجدية. كلمة أبجدية نفسها متكونة من الأحرف الأربعة الأولى في اللّغة العربية حسب الترتيب القديم لها أ ب ج د أو أبجد. هذا الترتيب قد ورثناه سابقًا عن حضارات بلاد الشام الأولى وتحديدًا الحضارات الكنعانية صاحبة أوائل الحروف الأبجدية.

يعود فضل نشر الحرف إلى شعوب البحر المتوسّط إلى مجموعات التجّار الملاحين المعروفين باسم الفينيقيين، إلّا أنّ بداية الأبجدية تُنسب إلى قبائل كنعانيّة أُخرى عاشت على حدود سيناء، مُستغلّة إبداعها في وضع نظام للأصوات المنفصلة ومستلهمة أنظمة الكتابة التي كانت قد ظهرت سابقًا في الشرق من حضارة الرافدين والغرب من الهيروغليفية المصرية.

بعيدًا عن التفاصيل الأركيولوجيّة والتاريخيّة للأحرف وعودةً إلى اللغة العربية فإنّ التشابه الأول يظهر بينها وبين اللّغات القديمة الأولى في أسماء الحروف الأربعة الأولى من الأبجديتين الآرامية والفينيقية: ألف أو أولف، بيث أو بيت، گمل (جمل، تُلفظ كالجيم المصرية أو القاف العراقية)، ودالث أو داليث.

مع نشر الفينيقيين للحرف على شواطئ البحر المتوسّط استقى الإغريق من جيرانهم على الشواطئ الشرقية أبجدية لا تبتعد كثيرًا عن جذرها واستمرّت حتى عصرنا الحديث. فإلى الآن، رغم التحوّلات الكبيرة في اللّغة اليونانية، فإنّ الحروف الأربعة الأولى هي أَلفا، بيتا، غامّا، ديلتا. وملفتٌ تشابه نطق اسم الحرف الأول من الأبجدية بين العربية واليونانية؛ ألِف وأَلفا.

امتداد الفكر والثقافة من الهلال الخصيب ومصر إلى شمال أفريقيا وجنوب أوروبا، تحديدًا إلى اليونان ومنها إلى روما فالشعوب اللاتينية انعكس في زمن لاحق.

لم تكد الدولة العباسية في بغداد تفرغ من تأكيد ثبوت نفوذها حتى بدأ بيت الحكمة بحركة الترجمة للكتب اليونانية عبر السريانية، تلك الترجمة التي كانت عمودًا استند إليه فلاسفة العرب والمسلمين وعُلماؤهم لبناء المعرفة الإنسانية، امتدَّ بطريقٍ وصل حتى الإبداع في الفلك والطب والرياضيات وعلميِ العمران والتاريخ.

حركة الترجمة هذه انعكست مجدَّدًا في مدرسة طليطلة في إسبانيا بعد حروب استرداد الأندلس. حيث تُرجمت العلوم العربية إلى اللاتينية. ومع سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين التقى اليونانيون الهاربون منها بفلسفتهم مع الترجمةَ اللاتينية لشروحها العربية، في منطقة بين الأرضين، في إيطاليا منبع اللاتينية، لتولد حركة النهضة الأوروبية.

إنّ السياسة والحضارة ونمو الهوية المرتبطة بالمكان جعلت شعوب البحر المتوسّط منفصلة عن بعضها. جعلت المعرفة تحمل جنسيّةً، وجعلتها حكرًا لشعبٍ دون آخر.

ففي مضمار الهُويّة، تقول الأسطورة الرومانية ’الإنياذة‘ سليلة إلياذة هوميروس الإغريقية، إنّ روما أسّسها أبناء آينياس، قريب العائلة المالكة في طروادة، الهارب منها بعد المعركة الملحمية الشهيرة. أمّا فرنسا فحسب غوستاف لوبون في كتابه ’فلسفة التاريخ‘ فهو يؤكّد أنّ المؤرخين الفرنسيين حتى القرن السادس عشر اعتقدوا أنّ مؤسّسها هو حفيد الملك بريام، ملك طروادة، فرانك بن هيكتور ومن هناك أتى اسمها التاريخي "فرانك" (كلمة فرنجة والإفرنج هي تعريب لكلمة فرانك). وقد أطلقوا على عاصمتهم اسم "باريس" تيّمنًا باسم بطل ملحمة الإلياذة نفسه باريس بن بريام شقيق هيكتور الأصغر الذي خطف الأميرة هيلين وكان سببًا لوقوع الحرب.

إنَّ محاولة الربط الحثيثة التي قام بها الأوروبيون لإعطاء نسبهم أصلًا راقيًا أتت على نتيجتها. فبعد زمنٍ طويلٍ من الصراعات الدينية والسياسية والاقتصادية وامتلاك الأراضي وترسيم الحدود أصبحت اليونان الآن مع الاتحاد الأوروبي، ولا تتماهى مع شعوب شرق المتوسّط وجنوبه. نتيجةٌ لها تاريخ طويلٌ من التنافس تخلّله صراعٌ عثمانيّ روسي على منبع الأرثوذكسية بين السلطنة، العملاق المسلم، والقيصرية حامية الطائفة. وبين هذا وذاك دخل الغرب ــ أوروبيون على الخط ليمارسوا دورهم الاستعماري في المنطقة حيث انتهى الناطقون باللّغة العربية معلقين في نهاية المطاف بين الحداثة الأوروبية والأصالة العربية كأنّهما نقيضان تمامًا. في حين يتماهى اليونانيون مع الحداثة الأوروبية التي تبنّت سردية أصالتها التي تعود إلى الحضارة الإغريقيّة.

يبدو هذا التاريخ كلّه، الذي كان له إمكانية تشكّله بشكلٍ مختلف، مبرّرًا لكلمة... كتابولوجيا. إنّ تبريرًا طويلًا، شبه غير مفهوم، كالذي مرَّ هو ما سيحتاجه هذا المصطلح المركّب ليواجه أرباب الاستقلال العربي الدّاعين إلى النقاء التام. النقاء الذي يفرض على الناطقين بلغة الضاد استلهام المصطلحات من نظام التفعيلة العربيّ. ولكن لأنَّ التعريب أدخل كلمتي سوسيولوجيا وسيكولوجيا إلى القاموس العربي، اخترعتُ تبريرًا، ولكن ليس لتبرير المصطلح. إنّما لتبرير تلك الرغبة الأنانية الخالصة بإدخال اصطلاح ذي صبغة عالمية فيه لفظ عربي. فكتابولوجيا ليست bookology بالإنكليزية أو librología بالإسبانية ولا حتى هي ترجمة لبِبليولوجيا. إنّما هي kitabology وkitabología.

ولماذا هذا الإصرار الأناني؟ السرُّ يكمن في كلمة كتاب العربية نفسها.


  • الڪِتاب اسمًا

الحديث عن الكتاب يبدأ بالحديث عن اسمه المتداول؛ لماذا كتاب؟ الارتباط الواضح بين اسمه وفعل كَتَبَ وليس قَرَأَ ملفت. حتى أسماؤه الأُخرى يمكن أن تكون: مخطوط من خطَّ، مسطور من سطَّرَ، مؤلَّف من ألَّفَ... وهكذا. كأنَّ الكتاب مرتبط بصانعه ولا علاقة له بمستخدمه؛ القارئ.

في لغاتٍ أجنبية أُخرى مثلًا لا يرتبط اسم الكتاب بالفعلين الأكثر ارتباطًا به أي القراءة والكتابة. ففي الإنكليزية كلمة book ليست مشتقةً من فعلي to read أوto write. وفي الإسبانية فالكتاب libro أيضًا ليس مشتقًّا من فعل الكتابة escribir أو من فعل القراءة leer.

يزداد الأمر غرابةً حتى بمقابلة كلمة كتاب بمترادفاتها المذكورة سابقًا باللّغة العربية أيضًا، فإن قارنّاها بكل من مسطور ومخطوط ومؤلَّف نجد أنَّ اسمه ليس من نفس التفعيلة التي تَولَّدنَ منها صَرْفيًّا أو اشتقاقيًّا، فالكلمات الثلاثة المذكورة هي أسماء مفعول في حين أنّ اسم المفعول لكَتَبَ هو مكتوب وليس كتاب. المكتوب هو ما نتج عن الكاتب أو الكاتبة، إنّه المضمون الذي خطّه أو خطته، سطّره أو سطّرته، ألَّفه أو ألّفته.

كما أنَّ مكتوب في بعض اللهجات أصبحت مرادفة لرسالة. فأن يكتب أحدٌ ما مكتوبًا لأحد يعني أنّه يكتب رسالة له. ولا يطلق أحد اسم مكتوب على تلك الكتلة التي نطلق عليها اسم كتاب رغم أنّها مكتوبة.

إذن الكتاب هو ليس الشيء الذي تمّت كتابته ولكن ما هو؟ ماذا يعني كتاب؟

كلمة "الكتاب" مصدر. ومصدر الفعل في اللّغة العربية هو الحدث الذي تمَّ بلا زمنٍ مرتبطٍ به. ومصدر فعل كَتَبَ هو الكتابة. فعندما يكتب كاتبٌ ما، ينتج عن فعله حدثُ الكتابة، وهي تلك الرموز الدّالة على الأصوات والمفاهيم. لكنَّ هذا الحدث لا يحدث وحده، فهناك حدثٌ آخر مرتبط بحدوث فعل "كَتَبَ" لم يكن يفترق عنه من قبل وهو الكتاب. المصدر المذكّر للكتابة محذوفةٌ منها التاء المربوطة.

الكتاب حدثٌ يقع، وليس اسمًا لجمادٍ فقط.

أثناء حديثٍ هاتفي بيني وبين زميلةٍ لي قفزت ابنتها، التي كانت في الرابعة من عمرها، إلى السماعة صارخةً بأنّها تودُّ أن تُحضر لي هدية، وأخَذَت تعدُّ من الأشياء ما كانت تراه أمامها حتى همست لها أمّها بأنّني أحبُّ الكتب، فما كان من الطفلة إلّا أن عاودت الصراخ في الهاتف قائلة لي: "سأحضر لكَ كتابًا حتى تكتبَ عليه."

لا أحد يُحضر لأحدٍ كتابًا لكي يكتب عليه، الكتاب يُشترى ويُباع بهدف القراءة. لكنَّ عفوية طفلةٍ صغيرة لم تتأثّر بعد مصطلحاتها بالمفاهيم المرتبطة بالسلعة أو بالترجمة استطاعت أن تثبت لي ما احتجت معجمًا لفهمه. إنَّ علاقتنا بالكتاب في مراحل ما بعد المطبعة حصرته بالقراءة فقط، فحتى لو كان بعض القرّاء يضعون الملاحظات على جسد الكتاب، فهذه الملاحظات لا تعدو أن تكون شخصية لمن يملك تلك النسخة تحديدًا. أمّا الكتاب حقًّا فاسمه كان حاضرًا قبل المطبعة بقرون. فهو لا يصير كتابًا حتى يكون مكتوبًا، وبشكلٍ مباشر جدًا، من قِبَلِ كاتبه ومن ثمَّ النُّسّاخ بأقلامهم وحبرهم. فعندما يهمُّ الكاتب بتمرير ريشته على الورق صانعًا رموزًا ومفاهيمًا فهو فعليًّا يكون مُحدِثًا لحدثين متزامنين؛ الكتابة والكتاب. أي المضمون وحامله معًا.

بعد المطبعة لم يعد الحدثان، كتابة وكتاب، يحدثان معًا. لقد فصلت المطبعة الكاتب وكتابته عن كتابه. لم يعد الكاتب يكتب كتابًا بل أصبح يكتب مسوّدةً ستُطبع فيما بعد، والكتاب لا يحدث مع الكتابة.

إنَّ ارتباط مفهوم مصطلح "كتاب" بتلك السلعة التي لا علاقة لها بالكاتب والفعل الذي يمارسه بشكله المباشر، بالإضافة لفهم الكلمة من خلال ترجمتها حرفيًّا إلى book أو libro يجعلنا ننساق إلى الجمود الذي نظنّه واقعًا في اللّغة. وأعني بذلك الجمود الذي نظنّه يُعيقنا لأنّنا لا نُجدّد مصطلحاتنا باللغة العربية بالسرعة التي هي الآن في بعض اللغات الغربية، وعندما نأتي للقيام بذلك نجدنا ننساق إمّا لاستعمال أساليبهم في الاصطلاح أو ترجمة مفاهيم هي أقرب لثقافةٍ مستوردة لا أصل لها في العالم العربي. ممّا يُبنى عليه اعتقادُ أنَّ اللُّغة العربية تعيقنا.

ما يُعيقنا فعلًا هو عدم تبنينا للاستقلال الفكري للإنسان العربي المعاصر. وإن أردنا العودة إلى الكتاب فإنَّ تشييء الحدث وتسليعه يُفقده خاصيّةً مفهومية هي أعمق من مجرّد مصطلح. فتشييء ما لم يكن مجرّد جماد فقط في المفهوم العربي الوسيط، عبر تبنّي أشكال السوق الغربي، دون حتى تبنيها إلا شكليًّا، حوّل هذا الحدث الذي كان أساسيًّا في العصور الوسيطة إلى "أشياء" كماليّة نشتريها أو نُمارس قراءتها فقط عندما نُريد أو نستطيع.

قد يبدو هذا الكلام مناهضًا للمطبعة لأنّها دخلت إلينا من الغرب وأدخلت معها مفهومنا الحديث للكتاب، لكن لا، هذا ليس بيانًا ضد المطابع. فاختراعها غيّر شكل القراءة والكتابة إلى الأبد، بل أدّت خصخصتها إلى رفع مستوى التعليم في العالم. إنّه سؤالٌ عن علاقة الكاتب والكاتبة بحدثٍ هما مسؤولان عن حدوثه لكنّهما غريبان عنه تمامًا. الكاتبة التي تتحوّل كتابتها إلى كتابٍ تحت إشراف دار النشر ونادرًا ما تكون لها علاقة بالحدث الأخير (الكتاب نفسه)، رغم أنّها المسؤولة عن حدوثه، يطرح سؤالَ اغتراب الكاتب والكاتبة عن الكتاب. ناهيك عن حالة صناعة النشر نفسها.

غالبًا هذه هي نتيجة استيراد الآلة أو المؤسسة وثقافتها معًا. استوردت الثقافة العربية المطبعة ومؤسسة دار النشر والمؤسسات التعليمية والثقافية فأصبح الكتاب سلعة هي ذاتها book ولم يعد حدثًا يتشكّل بالتزامن مع فعل الكتابة، أو على الأقل تحت إشراف من قام بذلك.

إنّ فصل الحدثين عن بعضهما ليس سلبيًّا. فإن كان تطوّر البشرية يفرض فصل هذين الحدثين فليكن. لكنَّ النقد يجب أن يكون لاذعًا عندما ينفصل أحد الحدثين عن محدثه الأصلي. فعلى الكاتب أن يرتبط مع كتابه عبر حوارٍ مع الناشر، لا أن يقوم الناشر باحتكار إخراج الكتاب حتى عن كاتبه بحجّة التزام الناشر بهويّة منشوارته البصرية وتحت ذريعة حقوق الملكية.

لكن مع ذلك، هل تجيز لنا هذه الاستقلالية بين أحد الحدثين ومحدثه تغييرَ اسم تلك النسخة المطبوعة الحاملة لكلّ تلك الرموز ذات المعاني؟ وربما مستعينين بحدثٍ مرتبطٍ به أكثر يمكن استنباطه، كالقول مثلًا من الفعل قَرَأَ؟ فنحذف التاء المربوطة من مصدر الفعل فنجعل قراءة تصبح قِراء. هل نقرأُ نحنُ قراءً وليس كتابًا؟ أهي قُرُء وليست كُتُب؟

من دون شك يذهب النقد الحديث إلى القول بسلطة القارئ وتبديتها على سلطة الكاتب لكنّ هذا لا ينطبق على كلا الحدثين؛ الكتابة والكتاب. فسلطة الكاتب في هذا السياق ستكون في الكتابة التي أنتجها، في مضمون ما يريد إرساله عبر رموزه، وليس في الحيّز الذي امتلأت بها وصنعته على إثر ذلك.

سلطة القارئ في هذا السياق أيضًا تقع على المضمون، صحيحٌ أنّ القراءة تحدث أثناء استقبال الرموز عبر الوسيط "الكتاب" لكنَّ الكتاب نفسه لم يحدث لأنّه قُرِئ، بل لأنّه كُتِب. الكتاب حدثٌ سيبقى حادثًا سواء قُرِئ أم لا. لكن ما لم يكن هناك كتابة لن يكون هناك كتاب، والعكس كذلك.

بالطبع هذا النقاش يفقد معناه عندما نعرف أنّ مصدر الفعل الثلاثي المزيد بألف: "فاعَلَ" يكون مصدره القياسي على وزن "فِعال" أو "مُفاعلة". وعليه فإنَّ قِراء، كما مُقارأة، هي مصدر فعل "قارَأَ" ومعناها مشاركة القراءة مع أحد. أليس من اللافت أنّ فعل كاتَبَ، صاحب معنى راسَلَ أو اتفق على عهد، له مصدر على وزن واحد، مُكاتبة؟ هذا طبعًا إن استثنينا أحد معاني كلمة كِتاب وهي الرسالة أو البيان الرسمي. الكتاب الرسمي هي مُكاتبة تحدث بين شخصين لكن هذا الكتاب تحديدًا ليس أكثر من رسالة.

تقلُّ الأفعال في هذا الوزن التي تحمل مصدرًا من المصدرين. كفعلي (شارَكَ، مُشاركة) و(لاعَبَ، مُلاعبة) الخارجين عن القاعدة، إلّا أنّ "شِراك" و"لِعاب" ليسا مصدرين لأفعال ثلاثية أُخرى.

قاعدة هذا الوزن بسيطة، فالأفعال التي تكون معتلّة اللام يُقلب حرف العلّة فيها إلى همزة في مصدر الوزن فِعال (آخى، إخاء) ولكنَّ الوزن الآخر للمصدر لا يسقط (مؤاخاة). بينما تكون من هذه الأفعال التي فاؤها ياء هي التي يغلب عليها أن تكون ذات مصدر واحد (يانَعَ، مُيَانَعة). فلماذا أراد اللّغويون أن يكون المصدر "كِتاب" للفعل الثلاثي كَتَبَ وليس للمزيد كاتَبَ وفاؤه ليست ياءً؟

قد يكون السبب أنَّ الأفعال الثلاثية غير المزيدة التي تفيد الامتناع مصدرها هي الأخرى تكون على وزن فِعال (جَمَحَ، جِماح) و(أبى، إباء). فهل يكون فعل كَتَبَ ذا معنيين ليصدر عنهما مصدرين؟ فيكون الأوّل الكتابة (المصدر فِعالة يدل على حرفة) والثاني الكِتاب ليدل على الامتناع؟ لكن الامتناع عن ماذا؟ وكيف؟

قد يترجّح القول بأنَّ الاسم اشتُّقَّ سماعيًّا لا قياسيًّا. لكن هنا، لا جواب، بل رغبةٌ بأن تقوم الكتابولوجيا العربية بحلّ هذا السؤال يومًا...

متناسين قواعد تفعيلات اللّغة العربية نستكمل التساؤلات مركّزين على المعنى لا على القاعدة وعلى غِرار تحليل الاقتراح "قِراء" نعود: ماذا عن الفعل طَبَعَ؟ هل نحذف أيضًا التاء المربوطة من المصدر طباعة ليكون ذلك الوعاء اسمه طِباع؟ قد يُفسّر هذا التحليل وجود نسخةٍ ما من كتابٍ ما بيدِ قارئٍ ما. لكنَّ الطباعة بحدّ ذاتها ليست مُحدِثةً للكتاب بل مكرّرة له. إنّ الطباعة استبدلت النسخ اليدوي. فالنسخة المطبوعة هي بديل النسخة المنسوخة يدويًّا لكنّها ليست سوى وسيط لتكرار الحدث الأوّل؛ الكتاب.

كلمة كتاب ليست محصورةً في اللّغة الفصحى فقط بل هي المتداولة في اللهجات العاميّة وهي مرتبطةٌ بشكلٍ حصري بصيغة واحدة أو صيغتين الآن. بالجسم المستطيل ذي الصفحات الورقية الكثيرة، وفي حال كانت صفحاته قليلة أصبح كُتيّبًا. وربما أيضًا مرتبط بشبيهه الذي يماثله على الشاشة، مستطيلٌ يتصفحه القارئ طوليًّا أو عرضيًّا بلا ورق.

***


الحدث الملموس يحدث في مكان واسم المكان الذي تحدثُ فيه الكتابة هو المكتب. لكن أين يحدث الكتاب؟ ربما ببساطة بريئة كما حذف اللّغويون التاء المربوطة الموجودة في المصدر، كما هو سائد، فقد أضافوها لاسم المكان، الذي يسود فيه غياب التاء. فأصبح الكتاب يحدث في المكتبة.

ولكن، أيكون التزاوج مقصودًا؟ ربما لم تكن بساطة نقل التاء المربوطة إلى اسم المكان هو ما حصل. ربما فكّر أحدهم بأن تكون الكتابة المؤنَّثة تحدث في المكتب المذكَّر والكتاب المذكَّر يحدث في المكتبة المؤنَّثة حتى يستمرّا بالتوالد. حتى نستمرَّ بالقراءة.

ولأنّ القراءة عملية أعقد وأكبر من أن تُحصر في مكان، لم يكن اسم المكان من القراءة مُستعملًا في سياق الحياة العامّة بل في السياق الديني الإسلامي فقط. يمكننا استنباط كلمة "مَقرأ" لغويًّا وهو اسم المكان الذي ارتبط بالزاوية في المسجد أو الضريح التي يُقرأ فيها القرآن (إلا أنّ الصيغة المؤنّثة من الكلمة "مَقرأة" هي السائدة. ومِقرأ، بكسر الميم، اسمُ أداة وهو مستعملٌ للشيء الذي يوضع عليه الكتاب أثناء القراءة).

وبهذا إن لم نمانع أن تكون لأجساد كتبنا مكتبات، فهل نرضى أن نموضع القراءة في بقعة محصورة على الأرض؟


  • الڪِتابة فعلًا

الكتابة، حسب ألبيرتو مانغيل (مانغويل هو اللّفظ الإنكليزي لهذا الاسم الإسباني) في ’تاريخ القراءة‘، لم تبدأ إلّا عندما كان للإنسان استعدادٌ فيسيولوجيٌّ للقراءة. لا معنى لتلك الرموز الأولى التي نُقِشت على الصخور وألواح الصلصال ما لم يكن هناك متلقّ قابل بأن يستوعبها عبر النظر إليها.

يجمع اللّغويون ومؤرّخو الكتاب والكتابة أنّ الكتابة نشأت لهدف عمليّ. كتسجيل المُعاملات والممتلكات، لقد نشأت الكتابة إذن امتدادًا للذاكرة البشرية بعد أن أصبح للإنسان ما هو بحاجة إلى تذكّره ويفوق في تنوّعه وتعيقده مقدرته على ذلك. أو ربما حدث بعد تجارب النسيان الأولى وسوء التفاهم التي أدت إلى المشاكل الجسيمة.

الكتابة بدأت برموزٍ تدلُّ على المفاهيم. نقشُ نعجةٍ هو دلالة على كلّ النعاج، وإن كانت بجانب النقشِ خطوطٌ بعددٍ مُعيّن فهذا يعني أنَّ الخطوط تدلُّ على عدد النعاج. استعدادٌ فيسيولوجي لربط الرموز بالمفاهيم والواقع، النعجة المنقوشة لا تشبه نعجة حقيقية لا بالحجم أو بالشكل، لكنّها مع ذلك تدلُّ الناظر إليها. والخطوط، يعني وجودها قدرة الإنسان على الإحصاء. وإن كان الهدف من الكتابة إحصاء الممتلكات وتثبيت المُعاملات فهذا يعني أنَّ الكتابة نشأت بمرحلة مُتأخّرة من التطوّر الفيسيولوجي للبشر.

إذن الإنسان الكاتب الأوّل كان وعيه لا يعي نفسه وحسب بل يعي وعي إنسانٍ آخر. وكان قد طوّر القدرة على الكلام والإحصاء ولديه مفهوم الملكيّة، وهو في مراحله الأولى من تطوير أساليب التعاون مع الإنسان الآخر حيث يتبادل معه الممتلكات والجهد مقابل ممتلكات أو خدمة أُخرى يتم تثبيتها على امتدادٍ للذاكرة خارجٍ عنهما يمكن الوثوق به والرجوع إليه.

نقش الرموز الدّالة على المفاهيم كانت الشكل الأوّل للكتابة، وببساطة المفاهيم ومحدوديّـتها يبقى هذا النموذج عمليًّا. لكنَّ الكائن البشريّ لم يتوقّف عن مفاجأة نفسه برغبته بإحصاء مفاهيم جديدة لأشياء جديدة بعضها غير ملموسٍ أصلًا. كان لا بُدَّ من تطوير الكتابة، حيث حصلت القفزة الأولى في عالم المعرفة؛ اختراع الحرف.

لن ندخل في جدال تأريخ مخترعي الحروف وناشريها، بل لمحة تأمُّلية شخصية بحتة على اختراعها.

مخترعو الحروف، أيًّا كانوا، هم عمليًّا مجموعة قرّروا اختراع رموزٍ تدلُّ على الأصوات حيث بتركيبها معًا نحصل على المفردة الموجودة أصلًا في كلامنا الشفويّ والتي تدلُّ على مفهومٍ متفقٍ عليه ضمن مجموعة من المتكلّمين المُتعاملين معًا. بأيّ منهجية عملوا؟ أتخيّلهم وهم يجوبون الأسواق والساحات العامّة يُحصون الأصوات بهدف إعطاء كلّ صوتٍ منهم رمزًا، يجتمعون مساءً يُحاولون تقرير ما إذا كان هُناك صوتٌ لم يسمعوه، يعودون في اليوم التالي باحثين عن الأصوات التي لم تخطر لهم وهكذا حتى قالوا إنّ هذه الأصوات العشرين (مثلًا) هي مُجمَل ما يتشكَّلُ منه كلامنا.

الكتابة التصويرية الأولى استخدمت البصر في تحديد المفهوم ثمَّ قامت بإعادة نقشه بهدف إعادة إنتاجه كرمز يفهمه الجميع. أمّا الكتابة الحروفيّة أو الأبجديّة فقد عكست العمليّة. بعد إحصاء الأصوات وترميزها ثمَّ تركيبها مع بعض أصبح مجموع الرموز التاليّة: "ب ي ت" تُشَكّل شكل المُفردة الجديد الذي لا يمتُّ بصلة شكليًّا بالبيت الحقيقي.

كلمة بيت إذن تسبق كيفيّة كتابتها، وما قام به مخترعو الحروف هو تثبيت أنَّ الرمز "ب" مثلًا هو ذلك الصوت الذي نقوم بإصداره من الحنجرة أثناء إطباق شفتينا وبلا غُنّةٍ تخرج من الأنف، وهكذا إلى آخر الحروف. وبعد قرارهم (لن ندخل بإشكاليّة سلطة صاحب ضمير هم) تثبيت جميع الأصوات هكذا جمعوا الرموز المُتَّفق عليها معًا وأجمعوا بأنَّ الكلمة التي تحمل ترميز "بيت" هي ذلك المكان الذي نسكنه، ويُلفظ بَيت.

هل سمعت صوت الكلمة في رأسك؟

المثير في الكتابة الأبجدية أنّها ليست رموزًا نفكّـكها لاستنتاج ما المقصود منها، كنقش لعدد خطوطٍ مُعيّن نقوم بعدّها لاستنتاج العدد، أو نرى رسم رجُل فنتخيّل رجل. إنَّ الكتابة الحروفيّة تفكّك الأصوات ونسمعها في رؤوسنا، لأنَّ الحروف هي رموزٌ للأصوات، فما حدث أثناء قراءة الفقرة الماضية أنّك قرأت عبارة: ترميز "بيت" هي ذلك المكان الذي نسكنه، ويُلفظ بَيت. بأنّك لم تستطع ولم تستطعي النّظر إلى كلمة بيت التي بين مزدوجين دون أن تسمعاها في رأسيكما فلم تقدرا على رؤية الرمز مجرّدًا من لفظه.

بالطبع يمكننا إعادة هذه التجربة عبر محاولة النّظر إلى أبجدياتٍ ليست معروفة لدينا كالروسيّة أو اليونانيّة أو رموز لغات الشرق الأقصى من دون أن يكون لدينا فكرةٌ مسبّقةٌ عمّا تمثله من أصوات، وبعد ذلك نقوم بالعمليّة اللازمة لربط الرمز بصوت فيصبح معروفًا لدينا ومن ثمَّ رؤيتها ضمن كلمات لها مفهومٌ مُعيَّن.

من التجارب المثيرة أيضًا النظر إلى أبجديات معروفة وأصواتها مختلفة، فرمز "ع" موجود في الفارسيّة لكنّ صوته يختلف عن العربية فيلفظ كالهمزة. ورمز "Z" موجودٌ في الإسبانية الأوروبيّة والجنوب أميركـيّة ولفظه يختلف عن الفرنسيّة والإنكليزيّة "ز" ففي الأوروبيّة صوته "ث" والجنوب أميركـيّة "س".

إحصاء الأصوات البشرية في ما بات يُعرَف بالأبجديّة لم يكن كافيًّا للإنسان، بل بدأ يُحصي أصواتًا أُخرى شكّلت لاحقًا النوتات والسلالم الموسيقيّة، وضع لها رموزًا يمكن قراءتها وأخذ يدوّنها. لم يكتفِ الإنسان بالكتابة الامتداد للذاكرة المتعلّقة بالشؤون العملية فقط، بل دخل إلى مجال التأليف. والتأليف هو الكتابة التي أراد فيها التعبير والخروج من أُحاديّة الحياة الواحدة. وبعد بقاء النصوص طويلًا بعد ناصّيها لم يعد يكتب لنفسه فحسب بل للآخر أيضًا، بدأ يتشكّل للإنسان الكاتب جنونُ الخلودِ الذي سيبقيه حيًّا لدى قُرّاء وجدوا مجالًا لدخول عوالم أُخرى محفوظة في كُتُب الآخرين.

الأصوات لم تكن الوحيدة التي أدخلها الإنسان حيّز الترميز فكذلك فعل بالأرقام حيث أنشأ لها نظامًا يتكـرَّر كلَّ عدّة أعداد متتالية. في النظام العشري مثلًا هناك عشرة رموزٍ تتكرّر كلَّ عشرةِ أرقام، تبدأ بأعقدها، الرقم صفر، الذي يُعبّر عن اللاشيء. وكذلك الأمر في النظام الستيني البابلي الذي تتكرّر رموزه كلَّ ستين عددًا، هذا النظام الذي انقرض إلّا في منحىً واحد من حياتنا؛ الساعة، التي تتغيّر فيها الوحدة كلَّ ستين وحدة أصغر (الدقيقة ستون ثانية والساعة ستون دقيقة)، رغم أنَّ الرموز التي عليها هي من النظام العشري. رموزٌ لا تضطرّنا للعدّ كلّ مرّة.

الكِتاب الحدث، بات يهدف عبر كتابة نصوص الرياضيات والموسيقى والأدب إلى الخروج من الواقع وتجريده وإعادة فهمه وصياغته، رغم أنَّ الكتابة تحصر هذا الواقع نفسه أصلًا بالترميز الذي يسعى لإحصاء الأصوات والمعاني. وبالرغم من محصوريّة الكتابة لا يفتأ الكُتّاب بالاستمرار بهذا الفعل، لأنَّ الكِتاب صورة موازيّة لكاتبه أيضًا، يُعيد صياغة نفسه فيه عبر أصواتٍ مختلفة ومنسّقة قد لا ينطقها بالترتيب ذاته أبدًا، أي لا واقع لها سوى بالجسد الذي نشأ فيها وهو الكِتاب... تمامًا كما حدث الآن وهُنا.

________________________


عمر زكريا: كاتبٌ يكتب بشكلٍ دائم مع مجلّة رمان وصدرت له رواية مؤخرًا مع منشورات ضفاف بعنوان "القرطبي: يستيقظ في الاسكندرية" كما أنّه مؤدٍ صوتي في الأفلام الوثائقية ولديه منصة خاصة للقصص القصيرة حيث يختار قصة لأدائها مرة في الأسبوع.

Comments


bottom of page