top of page
صورة الكاتببلقيس الكركي

مَا الّذي بينَكَ وبينَ المُتنبّي يا تُوماس؟

تاريخ التحديث: ٢٢ مارس ٢٠٢٢

بلقيس الكركي*


صفحة من خُطبة Thomas Erpenius (Thomas van Erpe) الثّانية عن اللّغة العربيّة عام 1620، وفيها الأسطرُ الّتي تخصُّ أبا الطّيّب المتنبّي.

1. مَطْلَع

تُوماس،

هل كُنتَ واقِفاً أم جالِساً حين ألقيتَ أمام طُلّابك خُطبَتَك الثّانيةَ عن اللّغةِ العربيّةِ في لَيدِن عامَ 1620، خاصّةً أنّها أطولُ من سابِقَتِها عام 1613؟

لو كُنْتُ مكانَكَ، لما كُنْتُ جَلَسْت. ليس وُقوفاً على طَلَلٍ أو قَبرٍ أو على تُرْبٍ ضاعَ فيه خاتَمٌ كان لنا، بل لِما جاءَ في العَهْدِ القديم: "قُمِ ا‏حتراماً للأشْيَـبِ، وأكرِمْ وجهَ الشَّيخِ وا‏تَّقِ إلهَكَ. أنا الرّبُّ."

كنتَ يا توماس تخطُبُ في طلبَتِكَ عن العربيّة؛ عن اللّغةِ الّتي بِها نهى النبيُّ صَحْبَهُ عن القيامِ له كيلا يُعَظِّموهُ كما تُعظِّمُ الأعاجِمُ بعضَها ورؤساءها. ورغمَ ذلك، وَردَ أنّه صلّى الله عليه وسلّم قام لفاطمة.

تخطُبُ باللّاتينيّة يا توماس، عن لُغةٍ ليتَها كانت تستطيعُ الكلامَ عن نفسِها، بِنَفْسِها، من دُونِنا. لو كانت، لما سَرَّها كلامُك عنها بغَيرِها. لو كنتُ مكانَك، وكِدتُ، لما كُنْتُ جَلَسْت. أما كُنتُم على الأقلِّ تقومون للنِّساء إجلالاً وتحضُّراً؟ أم إنَّ بعضَ لوحاتِ ابنِ بلدكَ پيتر دو هوخ صادقٌ فِعلاً؟ لو كُنتُ مكانَ الرّجال في تلك اللّوحة، وكانَتْ واقِفَةً وبِيَدها كأس، لَما جَلَسْتُ كما فعلوا، ولو كنتُ مكانَهم حين جَلَسَتْ نِصفَ ثَمِلَةٍ في لوحةٍ أخرى لَكُنتُ بالتّأكيدِ وَقَفْت. هي منّا، امرأة، رغمَ ابتذال الفِكرة وتَكرارها - ليس الابتذالُ ضِدَّ الحقيقةِ للأسف يا توماس. هي مِنّا، وتَشهدُ على ذلك في البَدءِ التّاءُ المربوطة، وترتاحُ بينَنا في أوّلِ الـمَشِيب، وإلاّ لما كَتَمَتْ اعتراضَها ضَجَراً منكَ أو صبراً عليك. هي منّا وتَعَبِنا منذُ حافّة الأربَعين، وإن كان يُزعِجُها أحياناً سَرْدُ شهرزادَ الطّويل. هي مِنّا بعدَ أن «رأيْنا بعينِها»، عينِ ليلى وكلٌّ يدَّعي وَصْلاً بليلى، ولهذا يا عزيزي لا يعْنِيها كثيراً إذا مدحْتَها أو تغزَّلْتَ مهما ظَنَنْتْ، على أنَّها بالمناسبة ما تزالُ تَطرَبُ للهِجاء والرِّثاء لسببٍ يَخُصُّ حياتَها وإحساسَها يا توماس.

تخطُبُ عن العربيّة، باللّاتينيّة، بشَغَفٍ لا يخفى، وبإعجابٍ يَصِلُ حدَّ التَّقديس لفلاسفتِنا وعلمائنا ومؤرِّخينا وأدبائنا وشعرائنا بلغَ أوجَهُ في خُطبتك عندما ذكرْتَ المُتنبّي. لكنّكَ يا توماس ابنُ زمانِكَ ومكانِك، فاستفزَّكَ النَّبيُّ والإسلام، وأنّا بهما كُنّا مهما كَفَرْنا، ووصفْتَه بالكَذِب والزَّيْف، بكلماتٍ كُنتَ تستطيعُ أفضلَ مِنها وإنْ ما صَدَّقْتَ. لقد فاتَتْكَ الفكرةُ البدَهيَّةُ يا توماس: أنَّ ابنَ سينا وسواهُ مِنّا ومِنكُم ما كان ليكونَ هُوَ دونَ محمَّد، ودونَ دِينٍ أنطَقَ السَّماءَ وما بناها بالعربيَّةِ الفُصحى الّتي تُحِبُّ وأهوى يا توماس.


تخطُبُ باللّاتينيّة يا توماس، عن لُغةٍ ليتَها كانت تستطيعُ الكلامَ عن نفسِها، بِنَفْسِها، من دُونِنا.

تُترْجِم سورةَ يوسف إلى اللّاتينيّة، وتُدَرِّسُها في هولندا، ثمَّ تعترضُ في خطبتكَ غاضِباً على «مملكة» محمّد وما فَعَلَتْه بِكم قبل أنْ تُعظِّمَ المتنبّي. توماس، لو كنتُ مكانَك، لما كُنْتُ جَلَسْت. كان النبيُّ يخطُبُ يومَ الجمعةِ عَربيّاً قَحّاً قائماً، وكان المتنبّي يُلقي الشّعرَ جالِساً لا واقِفاً في حضْرةِ سيفِ الدّولة لأنَّهُ أفصَحُ مِنه. لو كُنتَ تعرِفُنا حقّا، حقّا يا توماس، لما كُنتَ جَلَسْت.

كانتْ طَويلةً خُطبتُك، فما ضرَّ لو كُنتَ جَلَسْتَ، إلّا عندَ مواطنَ جعلَتْني أقومُ عِندما قرأتُها للمرّةِ الأولى، مترجَمَةً إلى الإنجليزيّةِ قبل سنوات، وبأصْلِها اللّاتينيّ بَعدَما تَعَلَّمْت. قُمْتُ، ووقفْتُ، وارتبَكتُ، عندَ السُّطورِ ذاتِها في اللُّغَتَين، ليسَ لأنّني أبتَهِجُ بغريبٍ يمتدِحُ الحَميمَ، أو بأبيضَ يُغْريه فينا السَّواد، أو برجلٍ يرى من المرأة ما يُريد. في شَعري يا توماس شَيبٌ ما زِلتُ أحياناً أغطِّيه، دليلٌ خفيفٌ على أنَّي ما عُدتُ أستغْرِبُ أو أَميلُ بسُهُولةٍ شابَّةٍ، لكنَّه ما اشتعَلَ بَعْد، ولهذا وقفتُ وما اسْطَعْتُ الجلوسَ عِندما تضوَّعَ المِسْكُ من سُطورٍ قصيرةٍ أربعة لَكْ، ووددتُ أن أسألَ قليلاً عَنْكَ وعمّا خَطَبْت. أنا أعرِفُ خَطْبي مَعَهُ جيّداً، وبقيَ أن أعرِفَ ما الّذي بينَك وبينَ المتنبّي يا توماس.

2. النَّسِيب: النَّبيّ

توماس،

أعرِفُ أشياء عن زمانِك متفرّقةً في أوراقٍ قرأتُها قَصْداً أو عَرَضاً. أعرفُ كيف بدأ الصِّراعُ بين «حقيقةٍ إغريقيّة»: veritas Graeca خانَها حسبَ بعضِكم بعضُ فلاسفتِنا، و«حقيقة عربيّة»: veritas Arabica دافعَ بعضُكم عنها اعتراضاً على ترجماتِ العصر الوسيط لأعمال ابن سينا وابن رشد، وكيفَ عزَّ على غرورِكم استيعابُ أنَّهُما كانا مُسْلِمَين. أعرِفُ أنّكُم فَصَلْتُم بينَ العربيّةِ والإسلام، منذُ أن لم يفعلْ شاعرُكم العظيمُ دانتي بعلمائنا النّاطقين بالعربيّة ما فعلَهُ بنَبِيِّنا في جحيمِه ولا مؤرِّخوكم الّذين أصرُّوا على ثُنائيّة مستحيلة. وأنتَ يا تُوماس ابنُ أواخِرِ تلك «النّهضة»، ابنُ كراسي العربيّة الأكاديميّةِ في جامعاتِكم الّتي نصِفُها بصِفَتَين: «العريقة» و«المرموقة»، مدهوشِينَ ساذَجِين، كأنَّ فاطمةَ الفِهريّةَ القُرَشِيّةَ ما بَنَت القَرَوِيِّين بفاس. تمادَيْتُ؟ لا بُدَّ، غَصْباً عنّي، بسببِ عُروقي، لكنّكَ أيضاً تمادَيتَ في الإجلالِ حين كتبتَ عنّا وعن أبي الطَّيِّب وعن كُتُبٍ كانت تُنسَخُ بخطِّ اليَدِ على ورقٍ من الحريرِ بفاس. يا للحَسْرة: أنا وأنتَ لم نَزُرْ فاسَ بعدُ يا توماس.

توماس،

قال لي بفَجاجةٍ مَن قابَلَني ذاتَ مرّةٍ في سفارةٍ أجنبيّةٍ ليمتَحِنَ كفاءتي واستِحْقاقي لزَمالةٍ في إحدى جامعاتِكم «العريقة المرموقة» مُستعرِضاً ثقافةً يراها في نَفْسِه، إنّه يفهَمُ وجودَ حُرّيّةٍ في بلادِنا وتراثِنا وأَكْمَلَ واثِقاً: إنَّ هذه الحرّيّةَ عربيّةٌ غيرُ إسلاميّة. كان الطَّقسُ يومَها حارّاً رغمَ الرّبيعِ والزّحامُ خانقِاً في عمّان، ووَصَلْتُ متأخِّرةً مُكَدَّرةً أصلاً، ولم أستَطِعْ إخفاءَ امْتِعاضي من جَهْلِه المُتَعالي لكنَّني اخترعْتُ - على طريقَتِكم - برودةً أكثرَ تعالِياً، واستَرْسلتُ بين النَّظَّامِ وأبي نُواس، بينَ «قيظِ الشُّموس» و«صباباتِ الكُؤوس»، حتّى مُنِحْتُ الزَّمالة. لماذا أحاوِلُ أصلاً؟ «فما لكِ مِن سُكرَينِ من بُدِّ» يا بلقيس.

توماس،

أنا لا أستطيعُ أن أتكدَّرَ معكَ أو أبرُدَ مثلما فَعَلْتُ معه. أوّلاً لأنّ علاقَتي بكَ علاقةُ حِبْرٍ على وَرَق، وثانياً لأنّهُ لم يَكُنْ يعرفُ شيئاً ممّا كُنتَ تَعْرِفُه وتَشْعُرُه وتُحِسُّ به أنتَ قبلَ أربعمئة سنة. على أنَّ «عربيّة غير إسلاميّة» تُشبهكَ يا توماس، أنتَ الّذي في خُطبتكَ بدأتَ بشرحِ تاريخِ العَرَب قبلَ الإسلام، بحماسٍ واحتِرام، إلى أنْ تَوتَّرْتَ حِينَ نَزَلَ الوَحي. لماذا أنتَ متوَتِّرٌ يا توماس؟

كُنْتَ تخطبُ بطرافةٍ جميلةٍ وتَطَرُّفٍ لا يخفى. قلتَ إنّا كُنّا أحراراً حقّاً قبل الإسلام، أُمّةً من نَجد وتُهامة والحِجاز والعَروض واليَمن لم تُخضِعْها أبداً - كما تقول مُعجَباً - أيُّ شعوبٍ أُخرى. كانت لديهم، نحنُ، دُوَلٌ حُرّةٌ كما تقول: liberas habuerunt respublicas، مُستقلّةٌ بلا انقِطاع، وحُكَّامُها منها، الّذين لم يَخْجَل «حتّى الرُّومان أنفسهم» من التّحالُفِ معهم: quibuscum ipsum etiam Populum Romanum societatem inire non puduit. كان عليك بعدَها، أنْ تشرَح قُرَيشاً لطُلّابك، وقُلتَ إنّها مِن بين «الدُّوَلِ الإسماعيليّة» الأخرى: inter caeteras autem Ismaelitarum respublicas كانت هِيَ الأَشْرَف: nobilissima fuit Coraisitarum، وعاصِمَتُها: metropolis، مكّة، المدينةُ التِّجاريَّة: emporium، الّتي لها كما تقولُ مَسَاحةُ «أمستردامنا»: Amsterdami nostri. مكّة وأمستردام في جُملَةٍ واحِدَة يا توماس؟ هي طَرِيفةٌ مُضْحِكةٌ في زماني، لأسْبابٍ سيطولُ شَرْحُها لك. تذكَّرْتُ رائحةَ أمستردام بوضوح، أنا الّتي لا تعرِفُ مكّةَ رغمَ كلِّ شيءٍ وبسببِ كُلِّ شيء، والحشّاشِينَ وعاهِرَةً قُربَ كنيسةٍ غمزَتْ لي بعينِها من خلفِ الزُّجاجِ بينما أنتقلُ لفكرتِكَ التّالية، المَهِيبَةِ حدَّ مَحْوِ كُلِّ خاطِرٍ ورَغْبَةٍ ورائحة: أنّ في مكّةَ سنة 580 ميلاديّة، وُلِد محّمد أبو القاسم، Muhammed Abulcasimus، لأبَوَينِ غيرِ مغمورَينِ إطلاقاً: parentibus haudquaquam obscuris.

أبولكاسيموس يا توماس؟

بالمُناسَبة، هل كُنْتَ تستَطِيعُ لفظَ حرفِ القاف؟ ماذا عن العَين؟ أمْ كُنتَ تُخفي عجزَكَ في صوتٍ خَفِيضٍ كما كان يفعلُ كثيرٌ – مغرورٌ رَغمَ ذلك - مِمّنْ عَرَفْتُ؟ جَرِّب معي يا توماس وسأصْبِرُ وسأحبِسُ ضِحْكَتي: «أَرَقٌ على أَرَقٍ ومِثلِيَ يأرَقُ ... وجَوىً يَزيدُ وعَبْرَةٌ تترَقْرَقُ»! ألم تَقُلْ إنّكَ مُعجَبٌ بالمُتنبّي يا توماس؟

لا فائدة كما يبدو، فلْنَعُدْ إلى الفِكْرة؛ إلى مَنْ سمَّيتَهُ أبولكاسيموس بلا أيِّ إحساسٍ بالذَّنب. قُلتَ إنّه باسم الدِّين الّذي صاغَهُ من المسيحيّةِ واليهوديّةِ والآريوسيّةِ انتزعَ السُّلطةَ لنَفْسِه. تحدّثْتَ عن الدّعوةِ السِّرّيّة والهجرة إلى المدينة، بنَفَسٍ مُرّ، واصِفاً كُفّارَ قريش برجال الدّولة: Reipublicae primores الّذين أدركوا خديعتَه. شرحتَ لطُلّابكَ أهمّيّةَ الهجرة للزّمنِ العربيّ إذ قارنْتَها لهم بتأريخِ الرّومان للزّمنِ من بناء روما، والإغريقِ من الأولمبياد الأوّل، واليهود من خَلْقِ العالم، والمسيحيّين من ميلاد المسيح. شرحتَ كيفَ استُقبِل أبو القاسم من قِبَل أهلِ المدينة: a Medinensibus، بطريقةٍ مشرِّفة: honorifice exceptus. توماس يا توماس ... أينَ «طَلَعَ البدرُ علينا» يا عزيزي؟ كيف لطُلّابِكَ أن يفهموا شيئاً، أيَّ شيء، مِنّا وممّا حدثَ مَعَنا ومن اللُّغةِ العربيّةِ موضوعِ خُطبتكَ من غير «طلعَ البدرُ علينا»؟ بينَ honorifice exceptus و«جِئْتَ شرَّفْتَ المدينة» بَونٌ بعيدٌ رَغمَ تطابُقِ الفِكرة، و«مرحباً يا خيرَ داع»، لا تُغنَّى لشخصٍ يُدعى أبولكاسيموس - بل أبا القاسمِ يا توماس.

لم تستطِعْ إخفاءَ إعجابِكَ بفتحِ مكّة، وبه، فالكلماتُ في كُلِّ اللُّغات فضيحةٌ يا عزيزي. خطَبْتَ عن «سعْيِه الجَسور»: audaci conatu لفتحِها بأوامرَ من الله ولإخضاعِ من لم يرضَخوا له أو يؤمنوا به، لا بالكلمات بل بالسُّيوفِ والرِّماح، عَبَثاً في البدء: frustra quidem primo، إلى أن استولى سريعاً على المدينة في نَصْرٍ مبين: felicissimo successu، بلا دماء: sine sanguine وبلا جُور: non grave. خَطَبْتَ عن دهائه: astutia، بأنْ جَعَلَ ألدَّ أعدائه في مكّة مدينينَ له كما تَصِفُ الأمر، ليس فقط بأن أظهرَ لُطْفاً غيرَ متوقّع: non inexspectata tantum gratia، بل بأنْ مَنَحَهُم أفضالاً كبيرةً ونوايا حسنةً إلى أنْ أقْنَعَ الّذين كان يَهابُهم سابِقاً بأن يصبحوا أكثرَ أعوانه إخلاصاً. خطبتَ كذلك عن حَصَافَتِه: prudentia، وبراعته: detexteritas، الّتي جعلتْهُ يُخضِعُ المُدُنَ والحواضِرَ منصِّباً نفسَه أوّلَ حاكمٍ مُطلَقٍ للجزيرة العربيّة: seque primum Arabiae Monarcham constitueret.

حاكِمٌ مُطلَقٌ للجزيرة العربيَّة يا توماس؟ ليس الّذي بي اعتراضٌ على جَوهَرِ الفِكرة، بل على الكلمةِ وبرودِها: Monarcha في اللّاتينيّة ذاتِ الأصلِ الإغريقيّ الّذي يعني «مَنْ يحكُمُ وحدَه»، وعليها في التّرجمةِ الإنجليزيّة لخُطبَتِك: absolute ruler، وفي التّرجمة العربيّة: حاكم مُطلَق. الّذي بي اعتراضٌ شِبْهُ عاطفيّ: ليس لكَ أن تتخيَّل كم هو شاقٌّ على نَفْسِ من يَحْفَظ «طلعَ البدرُ علينا» أن يتقبَّلَ أنّ محمّداً، عليه الصّلاةُ والسّلام، «حاكمٌ مُطلق» للجزيرة العربيّة. وبالمناسبة يا توماس، لا علاقةَ للأمرِ بالمُعْتَقَدِ والأيديولوجيا وكلِّ هذا، إطلاقاً، ولا أظنُّكَ تَقْدِرُ على فَهْم عاطفتي العربيَّةِ نحو الإسلام، أنْتَ الّذي فَصَلْتَ بينهما فَصْلاً بَليداً، ولذا قبل أن تتَّهِمَني بما قد يَتَّهِمُ به شرطيٌّ مُحْتَرِفاً في القيادةِ سها في الطَّريقِ فطارَتْ أوراقُهُ الثُّبوتيّةُ من النّافِذَة – لدينا شيءٌ اسمُه سيّارة بالمناسبة - تذكَّرْ أنّكَ لا تَعْرِفُ أيَّ شيءٍ عنّي بعدُ يا توماس.

توماس،

تَذْكُرُ طموحَ النّبيِّ قبل وفاتِه بتجاوُزِ حدودِ الجزيرة، وتَعِيبُ على كُتّابِ زمانِكَ ظَنَّهم أنَّهُ دخل الشَّام - ولَيْتَه فَعَلَ لِكَي نُغَنِّي له بعدَ أنْ نُخْبِرَه عن ماويةَ فينا ونرجوَه أنْ وألّا... - واستولى على دمشق، كما تنتقدُ من قال إنّ جسدَه وُضِعَ بعد وفاته في نَعْشٍ من حديد: ferreae cistae impositum وبفعلٍ مغناطيسيّ رُفِعَ في «سماء البوم» بمكّة: bubonum caelum. لو أنّكَ يا توماس تعرِفُ أنّ المُتَرجِمَ روبرت جونز قرَّرَ لسببٍ ما شطبَ «البوم» من النّسخةِ الإنجليزيّة لخُطبَتِك، بلا سببٍ أعرِفُه، رغم أنّه كان يقرأ الطّبعةَ ذاتَها الّتي أقرؤها الآن كما يبدو. يُتَرجِمُ جونز جُملَتَك هذه هكذا:

… ut et qui cadaver eius ferreae cistae impositum magneti ca virtute Meccae in bubonũ caelum sublatum tradunt.

… as are those who maintain that his body was placed in an iron coffin and supported, in the sky at Mecca by means of magnetism.

وهكذا تُصْبِحُ “bubonum caelum” محضَ “sky”، بلا بُوم مُرْبِكٍ في احتمالاتِ معناه، رغمَ أنّ النَّحْسَ هو الغالبُ على بومِ زمانِك ومكانِك يا توماس. قد أكونُ مُخطئةً وليسَ من بومٍ في خطبتِك لكنّي لم أجِدْ معنىً مناسِباً آخرَ يُفَسِّر شطبَ جونز للكلمة. على أيِّ حال، لو كنتُ أقلَّ حِقْداً، لافتَرَضْتُ ولو لوَهْلةٍ لذيذةٍ عمياء أنَّها بومةُ أثينا أو مينيرڤا، إلهةِ الحكمةِ والفنِّ والحرب، وأنَّ جونز قد شطبَ مديحاً بديعاً لمُحمّد، ولأقمتُ علاقاتٍ مجنونةً بين بومِنا وبومِكم، وبينَ الشؤم والحقيقةِ عِندَنا وعِندَكم، إلى أنْ أَجِدَ أَصْلَ الفِكْرَتَين في بلاد الرّافدَين. لكنّي أعرفُكُم يا توماس، وأعرِفُ ما يستحيلُ عليكُم شعورُه نحونا والنّبيِّ ولا ألومُكم: أنتم لم تتعلَّقوا صِغاراً بـ«طلعَ البدرُ علينا»؛ بالنّشيد الّذي لا نأبَهُ لحقيقةِ غنائِه لمحمّد من عَدَمِها حين نُبدِئُ ونُعيد. فنحنُ قومٌ عرَفْنا منذُ أوّلِ طَلَلٍ أنّ الحقيقةَ غَيرُ الخَبَر، ولذا لم نُفَتِّش عن خولةَ أو عبلةَ أو سلمى في الخيمةِ المُجاورة لمراجيعِ الوَشم، حيث كانتا رُبَّما تتسامران مع مينيرڤا. كانت مينيرڤا هناك تَسْخَرُ من خيال شاعرِكم ڤيرغيليوس الّذي جعل ملكةَ قرطاج الصوريّةَ تنتحرُ حُزْناً على رحيلِ الطّرواديّ إينياس، وقبل انتحارِها كانتْ بُومةٌ وحيدةٌ تُغَنّي شؤماً على الأسطح: solaque culminibus ferali carmine bubo. مينيرڤا تُكمِلُ الأبيات مطروبةً بالإيقاع والكلمات، بينما تستأنِفُ سلمى ورفيقاتُها حفلةَ الضَّحِك، جالساتٍ نِصفَ ثَمِلات، هازئاتٍ من وقوفِ امرئ القيس وبُكائِه وصاحبَيه على ما لم يَضِعْ حقّاً بل أضاعَ نَفْسَه قَصْداً.

توماس،

تُصَحِّحُ خَبَرَ الحديدِ والبُوم فتقولُ لطُلّابِك إنَّ النبيَّ دُفِنَ في المدينة، في بيتِ زوجته عائشة: in domo uxoris suae Ajisjae، الّذي تحوَّلَ لاحقاً إلى ضريحٍ يَحْوي قبرَه وما يزال موجوداً إلى الآن. لا تقولُ أكثر، وتنتَقِلُ سريعاً للحديثِ عمّا حدثَ بعد رحيلِه.

نحنُ قومٌ عرَفْنا منذُ أوّلِ طَلَلٍ أنّ الحقيقةَ غَيرُ الخَبَر، ولذا لم نُفَتِّش عن خولةَ أو عبلةَ أو سلمى في الخيمةِ المُجاورة لمراجيعِ الوَشم.

توماس... توماس... يا توماس!

تَخْطُبُ عن اللّغةِ العربيّة، ولا تقولُ أكثرَ عن وفاة محمّد. بِرَبِّكَ يا عزيزي: كيف يتعلّمُ العربيّةَ حقّاً وكيف يشعُرُها من لم يَعرِفْ الخَبَر الّذي تحتاجُه الحقيقةُ هُنا: أنَّ رأسَ محمّدٍ كان على فَخِذِ عائشة حين حَضَرَهُ القَبض، وأنَّ الله قبضَه في بيتِها وفي يَوْمِها بينَ سَحْرِها ونَحْرِها، وأنّهُ جمعَ بينَ رِيقِه ورِيقِها عِنْدَ موتِه كما تقولُ هِي، «في آخرِ يومٍ من الدُّنيا وأوَّلِ يومٍ من الآخرة»؟ بربِّك! كيف سيعرفُ تلاميذُكَ أكثرَ ممّا يَعْرِفُه المهووسونَ اليومَ مِنكُم بعُمرِها، إذا لم يُخيِّل لهم كلامُها صورةً فيها ألفُ فِكْرة؟ هل عليَّ حقّاً أن أُقارنِ لأجلِكَ يا توماس، وأذكّرَك بتمثال Pietà لمِيكلآنجيلو في الڤاتيكان، والمسيحُ مسجَّىً على فخذَي مريمَ بعد الصَّلْب؟ على حائِطِ مكتبي أُعلِّقُ صورةً للتّمثال، أفلَيْسَ عليكَ من باب رَدِّ الجميل (أو التّسامحِ والتّعايش والهُراء) أنْ يسمَعَك طُلّابُك تقولُ بالعربيّة: «فَلَمَّا اشْتَكَى وحَضَرَهُ القَبْضُ ورَأْسُهُ علَى فَخِذِ عَائِشَةَ غُشِيَ عليه»؟ أم إنَّ مواهِبَكم في مُقارنةِ ما لدينا بتِمثالِكم لم تستيقظْ إلّا منذُ سنواتٍ عَشر، حين فازت بجائزةٍ ما عام 2012 صورةٌ التُقِطَتْ في مستشفى بصنعاء عام 2011، لامرأة يمنيّةٍ تحضُن ابنها، فكتبتم أنّها تُشبِه تمثالَكم، ولا بأس في ذلك لولا أنّكُم ألحقْتُم بقصّةِ الأصل والفَرْع – الّتي تستهوي الجميع - دهشةً بلهاءَ مكرورةً تدورُ حول استطاعةِ المُصَوِّر التقاطَ «المُفارقة» في صورةٍ لامرأةٍ مسلمةٍ تشبِهُ تِمثالَ مِيكلآنجيلو، وقُلتُم إنَّ هذا الشَّبهَ جعلَ أيقونةً غربيّةً كاثوليكيّةً حاضرةً في أيقونةٍ للرّبِيع العربيّ، وأكمَلْتُم «حفلةَ التَّفاهة» فقارنتُم بين وجهِ مريم المكشوفِ ووجهِ اليمنيّةِ المُغَطّى وبينَ صدرِ مريم البارزِ وصدرِ تلك المخفِيّ وأسهَبْتُم في تحليل «اللَّحظةِ الإنسانيّة» التي لا تَرَونَها عادةً - بل وفقَ مزاجِكُم - في امرأةٍ تُغَطِّي وجهَها أو شَعْرَها إلى آخرِ ذلك من هَذَرٍ يا توماس.

كانت عائشةُ عربيّةً مُسْلِمةً يا توماس، وكان رأسُ النّبيِّ على فخذِها يا توماس، وتوفِّيَ بين سَحْرِها ونَحْرِها يا توماس، ولم تَكُنْ أمَّهُ ولم تَكُنْ عذراءَ يا توماس، وكانت شابَّةً يا توماس، وكانت اللّحظَةُ أكثرَ من «إنسانيّةٍ» يا توماس. اسمَعْ صوتَ عائشة يا توماس. آخرون يقولون إنَّ نَفْسَ مُحمّدٍ فاضَتْ وهو إلى صَدْرِ عليّ، فاسْمَعْ كذلك صوتَ عليٍّ حين يأتِيكَ فهو أيضاً بَهِيٌّ موجِعٌ فصيحٌ. على أيِّ حال، لَنْ أُزيلَ صورة الـPietà من مكتبي يا عزيزي، فأنا رأيتُه حقيقةً مِراراً واهتزَزْتُ لأسباب لم أَعُدْ أذكُرُها. لن أزيلَها، بل قد أَضَعُ قُرْبَها صورةً لتِمْثال ياغو الشَّبيهِ الجميل الجديد، لأنَّني لستُ حاقدةً عليكم إلى الحدِّ الّذي تَظُنّ، بل إلى الحَدِّ الّذي يَسْمَحُ بالشَّماتةِ اللّذيذة، لأنَّ سارة الشَّمَّري تُصْغي لصوتِ عائشةَ الآن، وتَكْتُبُ بمزاجِها البديعِ عن بلاغاتِها، عِنْدَنا لا عِنْدَكُم، وبالعربيّةِ طبعاً. تَخَيَّلْ أنَّني مُشْرِفَتُها الأكاديميّةُ يا توماس؛ أنّني أنا، بِنْتُ الاستطرادِ العربيِّ العظيم، أكاديميّةٌ يا توماس!

3. الرِّحْلة

توماس،

تَعُودُ لتُهاجِمَ النَّبيَّ كأنّكَ شَعَرْتَ بذَنْبٍ ما؛ بذنبِ الحقيقةِ في مديحِكَ العابِر. تقولُ إنّه آثِمٌ ومزواج: Impurus hic et polygamus Propheta. أهكذا تُفَكُّ العُقَدُ السّياسيّةُ والحضاريّة يا عزيزي؟ وبعدَ أنْ تقولَ إنّه لم يَتْرُك ابناً بل ترك فاطمة، تُضِيفُ أنَّ القانونَ المُتَّبعَ عند كثيرٍ من المشرِقِيّين: Orientales يستثني النِّساءَ من الحُكم، ولهذا لم ينتقلْ إليها، بل بالتّصويتِ إلى أبي بكر الّذي وصفْتَهُ بالهَرِم: decrepitus إيحاءً بعَجْزِه، وقلتَ إنّ من أتى بعدَه من الخُلفاء: vicarij أو أمراءِ المؤمنين: Imperatores Fidelium هم من أصدقاءِ النّبيّ وأقاربِه الّذين ينوبون عنه ويَخلِفُونه كما ينوبُ النّبيُّ عن الله. زنوبيا، بلقيس، ماوِية - لا لَنْ أُكمِل - وما قالَتْه عائشة عن أبيها: «كان واللهِ غزيرَ الدّمعَةِ وقيذَ الجوانِحِ شَجِيَّ النَّشِيج». كم أنّكَ لا تعرِفُ شيئاً يا عزيزي يا توماس.

تَمُرُّ سريعاً على تاريخِ الفُتوحات، مُتَأرجِحاً بَين حِقْدٍ مُتَرَدِّدٍ وإعجابٍ عَميق. لقد وَسَّعَ العَرَبُ كما تقولُ «مملكةَ محمّد» ورسَّخوها، لكنْ بِضَرَرٍ كبير على المسيحيّين: cum magno Christianorum damno. تؤكِّدُ لطُلّابك أنَّ ما ستقولُه لهم، رغمَ أنّه سيبدو مُذهلاً: mirum بل لا يُصّدق: incredibile، لكنّه حقيقيّ: أنَّ العربَ أخضعوا في فضاء ستّين عاماً، أي إنَّهم انتزعوا من المسيحيّين: eripuerunt وضَمّوا إلى «مملكة محمّد الشَّيطانيّة تلك»: Diabolico illi regno Muhammedis adjecerunt فلسطين وسوريا والأرمينيّتين وجميعَ آسيا الصغرى وفارس والهنْد ومِصْر ونوميديا وكلَّ السّاحلِ البربريِّ إلى نهر النّيجر ولوسيتانيا وإسبانيا وأجزاء كبيرة من إيطاليا وصولاً إلى بوّابات روما، وصقلّية وقبرص وغيرَها من جُزُر البحر المتوسِّط. بعد هذا التّعدادِ تقولُ يا توماس إنّهم أحرَزوا في سنواتٍ قصيرة ما لم يُحْرِزْه رُبَّما أيُّ حاكمٍ مُطلَقٍ قبلهم، ولهذا السّببِ اعتبرَ جان بودان: Bodinus لقبَ «المملكة الرّابعة»: quartae Monarchiae titulum لائقاً بهم أكثرَ من الرُّومان: illis potius quam Romanis deberi. المذهلُ أكثر يا توماس عَجزُك عن أن ترى: تُشَيطِنُ مملَكَةً ألقابُها في صُلْبِ موضِعِها وتخطُبُ بحماسَةٍ عن لُغَتِها، وتَكرَهُ النّبيَّ وتُحِبُّ المُتنبّي. توماس يا توماس... قال أبو الطّيّب مادِحاً سيفَ الدَّولة: «وإذا الحربُ أعرَضَتْ زَعَمَ الهَو ... لُ لِعَينَيهِ أنَّهُ تَهْوِيلُ». ألا تَرى خالدَ بنَ الوليد في هذا البيتِ يا عزيزي أم يَهولُكَ ذِكرُه؟ ألا تَذكُرُ – أو تعرِفُ - كيف ردّ عليه النّبيُّ السّلامَ عند إسلامِه «بِوَجهٍ طَلْقٍ» فانبجَسَ اليرموك، بعد أن كانت نَفسُ خالِدٍ تُحدِّثُه أن يخرُجَ إلى هِرَقْل... «فأُقيمُ مع عَجَمٍ تابِعاً لها مع عَيبِ ذلك عَليّ!» لقد تغيَّرْنا يا توماس، وما عاد عَيباً علينا كبيراً أنْ نكونَ تابِعِينَ، وما عادَ وَجْهٌ طَلقٌ يُخْرِجُ اللغةَ من الطّلَلِ إلى أرضِ معركة مع الرُّوم يصِفُها المتنبّي: «مُخضَّبَةٌ والقومُ صَرعى كأنَّها ... وإن لم يكونوا ساجدينَ مساجِدُ».

توماس،

نحنُ مَن هُم الآنَ صَرعى رغمَ المساجِد والسُّجود، كأنّ جَبَلَةَ بن الأيهَم ما انهزمَ أمام الزّيتون شمالَ بلادي وكأنَّ إزارَه ما انحلَّ في مكّة. تمرُّ على الهزيمةِ، هزيمتِنا، قبلَ أنْ تُنْهِيَ حديثَك في التّاريخ السِّياسيّ، بعد ستّمئة وخمسين عاماً «تقريباً». تدريجيّاً – تقولُ – وبسبب بسالة المسيحيّين: Christianorum virtute إضافةً إلى الخلافاتِ والحروبِ بين العربِ أنْفُسِهم، ضَعُفَت مملكتُهم وانقسمَتْ وتمزَّقَتْ إلى أجزاء لا تُحصى شأنُها في ذلك شأنُ الإمبراطوريّة الرّومانيّة. لم أجِد شماتَةً في سُطُورِك هذه يا توماس، ولم أَجِدْ في المُقابِل حُزناً علينا. أيَّ حُزنٍ وقد قالَ المُتَنَبي: «وهَل يَشِينُكَ وَقتٌ كُنتَ فارِسَهُ ... وكانَ غيرَكَ فيه العاجِزُ الضَّرِعُ»؟ تقولُ يا توماس إنّك ستشرحُ ما حَدَثَ بوضوح أكبر في كتابك Historia Saracenica الّذي ستنشُرُه بالعربيّة واللّاتينيّة. أوه يا توماس! أهذه هي الكلمةُ اللّاتينيّة لـ«سوف أنشر»؟ evulgaturus؟ من الفِعْل vulgare؟ والاسمِ vulgus الّذي يعني العامَّةَ والشّعبَ والحَشْدَ والقطيع؟ أهذا هو أصلُ الكَلِمَةِ في اللُّغات الحديثة الّتي نستخدِمُها بمعنى الابتذالِ أكثر من الشُّيوع؟ حسناً: يعني الفعلُ vulgo, vulgare النَّشرَ، والتَّداولَ، والتَّعميمَ، والبغاءَ، وجعلَ الشَّيءِ شائعاً أو عامّاً، والحطَّ من قدرِ الشَّيء، وجعلَه رخيصاً. ليتَك رَأيتَ ما يحدُثُ في زمانيَ يا توماس. لو فَعَلْتَ، ورأيتَ بَشَراً يتسابقونَ على الرُّخص، على ضِفدَعِ إِميلي، لما كُنْتَ جلسْتَ أو وقفْتَ، بل هربْتَ وانسحبْتَ وتوارَيْتَ واختبأتَ وندمتَ على أنّكَ يوماً «نَشَرْت». أنا لا أعْرِفُكَ أبداً ويبدو أنَّني للتَّوِّ أسقَطْتُ عليكَ نَفْسي يا توماس.

نحنُ مَن هُم الآنَ صَرعى رغمَ المساجِد والسُّجود، كأنّ جَبَلَةَ بن الأيهَم ما انهزمَ أمام الزّيتون شمالَ بلادي وكأنَّ إزارَه ما انحلَّ في مكّة.

بل أعْرِفُك قليلاً، وأحبُّكَ رغماً عنّي لما في السُّطور التّالية. تقول لطُلّابِكَ إنّك بعد أن وضَّحْتَ «مَنْ هُم العَرَب»: quinam sint Arabes (كيف تقولُ ذلك بثِقَةٍ يا عزيزي؟) فإنَّ الوقتَ قد حان لِلُغَتِهم، الّتي يبدو أنّها أعانَتْكَ في خُطْبَتِكَ على توازنٍ ما، بينَ رَفْضٍ سِياسِيّ دِينيّ وقبولٍ جماليٍّ حضاريٍّ لأُمّتِنا وما كان منها. أعانَتْك، لشِدَّةِ ما أعجَبَتْك. أعجَبَكَ انفِجارُها، بعد أن كانَتْ كما تقولُ محدودةً في أهل الجزيرةِ العربيّة، وما كان مِنْها عندما انتَشَرَ العربُ في مُستعمراتِهم في آسيا وإفريقيا وأوروبا. عندَها، تَبَنَّتْ اللُّغَةَ العربيةَ كلُّ الشُّعوب تقريباً التي أُخْضِعَتْ للحُكْمِ العربيِّ كما تقول، وجوَّدَتْها في جمالِها ورُقيِّها:

…et pulchritudine sua atque elegentia ab omnibus fere nationibus quas illi subjugarunt arrepta, atque exculta fuit.

قلتَ الجمالَ: pulchritudo، والرُّقِيَّ (أو الأناقة): elegentia. مرحباً بِكَ في واحتِنا الوحيدَةِ يا توماس.

كان العربُ في هذا الجانبِ أنجحَ من الإِغْريقِ والرُّومانِ كما تُكْمِل، إذ لم يَكُنْ صَعْباً عليهم أنْ يُسَخِّروا لُغَتَهم لسُلْطَتِهم في كُلِّ مكانٍ تقريباً:

…quippe quibus difficile non fuit fere ubique sceptro suo, linguam suam adjungere

إلى أنْ لم تَعُد الجزيرةُ وَحدَها، بل فلسطين وسوريا ومصر وكلُّ ليبيا وحتّى إسبانيا ومعظمُ جُزُرِ البحر المتوسِّط تتكلَّمُ العربيّة: Arabicè loquutae sint. واليومَ، أي يومَك يا توماس، كلُّ مِصرَ وليبيا وجزءٌ لا بأسَ به من آسيا تتحدَّثُ العربيّة كما تقول مُفْتَخِراً بها كأنَّها مَنْكَ. واليومَ، أَيْ يومي يا توماس، ما تزال موجودةً، فَصِيحةً وعامّيّة، والأولى في مزاجٍ كَدِر، لأسباب يَكتُبُ عنها كثيرون، كثيرون جِدّاً، وأنا لا أحبُّ الاجترار يا توماس.

توماس،

تمرُّ سريعاً الآنَ حين تقول «كما يقولون»: ut ajiunt، إنَّ هذه اللُّغة، أي العربيّة، استُقبِلَت بذراعين مفتوحتَين: ambabus ulnis مِنْ قِبَلِ شعوبٍ كثيرة. من هُم الّذين يقولون ذلك يا توماس؟ لا تختَصِرْ يا توماس! تُكْمِلُ فتقولُ إنَّ الأمرَ تعدَّى استقبالَها بهذا التَّرْحاب، فَقَدْ هُذِّبَت باجتهاد: studiosissime culta وطُوِّرَت: perducta، إلى أن شَهِدَ خُبَراءُ اللُّغاتِ المُهِمَّةِ الّذين يعرفون العربيّةَ جيّداً، وما زالوا يَشْهَدون كما تقول، إنَّ العربيَّة لا تَنْقُصُها إطلاقاً الحلاوةُ: suavitas، ولا الرُّقِيُّ: elegentia، ولا الهَيْبَةُ: majestas، ولا التَّمام: perfectio. تطلبُ من طُلّابِكَ ألّا يَتَعَجَّبوا هنا، وتُفْسِدُ عليَّ خَيْطَ الحريرِ الّذي مَرَّ قبلَ قليل، إذ تُلقي عليهم زَعْمَكَ أنّ العربَ قَبْلَ زمن «النبيِّ المُزَيّف» كانوا أُمَّةً بربريّة: barbara fuerit Arabum natio تفتَقِرُ إلى الصِّنْفِ الأكثرِ تثقُّفاً من الأَدَب: politioris omnis literaturae expers، على أنَّ مَنْ خَلِفُوهُم مُباشَرَةً استقبَلُوا اللُّغةَ العربيّةَ كما استقبَلوا الحُكْمَ العربيّ، وأظهَروا حماسَةً كبيرةً نحو التَعَلُّمِ إلى أن دَفَعوا العربَ الأصليِّين (المولودينَ عَرَباً): Arabes naturales للاقتداءِ بنَمُوذَجِهم كما تقولُ بثِقَةٍ مُفزِعة.

برابرة يا توماس؟

«فقالَتْ يَمِينَ اللهِ ما لكَ حِيلةٌ...»

توماس، اقرأ اللّيلةَ السّادسةَ من الإمتاع والمؤانَسَةِ، أرجوكَ يا توماس! سيشرَحُ لك أبو حيّان كُلَّ شيء، كُلَّ شيءٍ، وستَخْجَلُ من نَفسِك. لن أقتَبِسَ لكَ منها الآن شيئاً، كيلا تنْتَبِهَ إلى قِلّةِ حيلَتي أمامَ كَمالِ عِبارَته. بل سأقتبسُ وانتَبِه! من قال إنّي أكتَرِث؟ سيخبِرُكَ بِكُلِّ شيء فاشٍ في «العرب» – ويقصد بها Arabes naturales - «لطولِ وحدَتهِا، وصفاءِ فِكرَتِها، وجَودَةِ بِنْيَتِها، واعتدالِ هيئتِها، وصِحَّةِ فِطرَتِها، وخلاءِ ذَرعِها، واتِّقادِ طَبْعِها، وسَعَةِ لُغَتِها وتصاريفِ كلامِها في أسمائها وأفعالِها وحروفِها، وجَوَلانِها في اشتقاقاتها، ومآخذِها البديعة في استعاراتِها، وغرائبِ تصرُّفِها في اختصاراتِها، ولُطفِ كناياتِها في مقابِل تصريحاتِها، وفنونِ تَبُحبُحِها في أكنافِ مقاصِدِها، وعجيبِ مقاربتها في حركات لَفظِها.»

برابرة يا توماس؟

تعودُ لتمدَحَنا، أو من خَلِفوا أصحابَ المعلّقات مِنّا، وتقول إنّهم لا يُشْبِهون الأتراك «البرابرة» في شيء، الّذين «لم يكونوا وليسوا محبِّين للتعلّم»:

...nec fuisse, nec esse eruditionis amantẽ.

مرّةً أخرى، ما هكذا تُحلّ العُقَدُ السّياسيّةُ والحضاريّةُ والعسكريّةُ يا توماس. مهما أوجَعَكُم الفاتحُ والقانونيُّ يا عزيزي، ليس هذا كلاماً يقوله أكاديميٌّ في جامعة «عريقة مرموقة». لقد اشتهى العالمُ القسطنطينيّةَ كما في عنوان كِتابٍ لم أقرأْه، ليسَ بسببِ سِجّادةٍ بديعَةٍ في لوحةٍ لابن بَلَدِكَ ڤيرمير ولا بسبب سفينةٍ كانت تَحمِلُ إليكم الخُزامى والحرير، مع أنّ هذه وحَدها تكفي لكي تُعيدَ النَّظرَ في تناقُضاتٍ كثيرةٍ في خُطبتِك. أنا يا توماس أعرِفُ المُتَنبّي، أعرِفُ وَصْلَهُ وهَجرَهُ وحُبَّهُ وبُغْضَه وقُربَهُ ونأيَه – «لم تُجمَعِ الأضدادُ في مُتَشابِهٍ إلاّ...» - ولا أطيقُ الرأيَ أو الشّعورَ الواحدَ الأحَدَ مثلما لا أُطيقُ الحِياد، لكنّني على الأقلّ أمنَعُ نَفْسِيَ من انقسامٍ جاهلٍ أو جبان، وأعرفُ بيتاً عاديّاً من الشّعرِ العربيّ العُثْمانيّ قالهُ راهِبٌ مسيحيٌّ حَلَبِيٌّ يُدعى نيقولاوس: «لا تنقَسِم رأياً بِعَقْلِكَ كالّذي ... يَهوَى ولا يَهوَى من الإغواءِ».

برابرة يا توماس؟

تَسْتَمِرُّ في مدحِنا، وتُسمِّينا Saraceni، «أهلَ تلك الإمبراطوريّةِ العريقةِ المرموقة»: pristini illius et illustris imperij homines. تقول إنّهم – إنّنا - كانوا مُدْمِنِين: addicti على التَّعَلُّم والمعرفة، حدَّ أنَّ إمبراطوريّتَهم حَظِيَت بجامعاتٍ أعظمَ في عَدَدِها وسُمْعَتها: plures et nobiliores Academias habuerit من سائرِ الدُّنيا: quam totus unquam reliquus habuit Orbis. توماس، توماس، يا توماس: لو أنَّك تَعْرِفُ ما تَفْعَلُه بي هذه المعلومةُ الّتي أعرِفُها جيّداً. كُنْتُ قبلَ قَليلٍ في مكالمةٍ – لدينا شيءٌ اسمُه هاتف - مع رئيسِ جامعةِ القَرَوِيّين بفاس، العريقةِ المرموقة. تحدَّثْنا بالفُصحى يا توماس، ولولا مِهَنيَّةُ المكالمة، لقلتُ بطفولةٍ إنّني أحفظُ القولَ المأثورَ عن ظَهرِ قَلب: «العِلمُ كَقَمْحٍ نتجَ بالمَدِينة، وصُفِّيَ ببَغْداد، وطُحِنَ بالقَيْرَوان، وغُرْبِل بقُرْطُبة، وأُكِلَ بفاس»، وإنّي لا آبَهُ بما حدَث بعدَ ذلك، وإنّي أريدُ أنْ أَعودَ إلى مارِسْتان فاس القديمِ، حيثُ كانوا يعالِجُونَ الأمراضَ العقليّةَ بالطَّرِبِ الأندَلُسِيّ، وسأطلُبُ أنْ يُعالِجَني هناكَ الحَسَنُ الوَزَّان الّذي تعرفُه باسمٍ آخرَ يا توماس. تقول لطُلّابِك: ?Dubitatis ea de re «هل تَشُكُّون في ذلك؟» قاصِداً عراقَة الجامعات، ثمّ تَنْصَحُهم: Legite Ioannis Leonis de Africa librum (اقرؤوا كتاب يوحنّا ليون عن إفريقيا). اسمُه الحَسَنُ الوَزّانُ الفاسِيُّ الغرناطيُّ يا توماس. سأكْتُبُ عنهُ يوماً، بالعَرَبيّة؛ عنِّي مَعَه، وعمّا كَتَبَهُ باللّاتينيّة ولم يُتَرْجَم بعدُ، بطريقَةٍ لا يشوبُها خيالُ روائيٍّ كبيرٍ ولا إخلاصُ أكاديميٍّ بارد. هكذا أُحدِّثُ نَفْسِيَ بوَسْواسٍ ما قادَنِي بعدُ إلى فاسَ يا توماس.

تُكمِلُ يا عزيزي، وتُحدِّثُ طُلّابَك عن ثلاثينَ جامعةٍ مشهورةٍ في إفريقيا: ad triginta celebres fuisse Academias، وعن غيرِها في آسيا؛ عن آلافِ الطُّلّاب والأساتذة المرموقين فيها، وعن جُهدٍ عربيِّ اللّغةِ في دراسة آداب الشّعوب الأخرى وشرحِها وتوسيعِها وتطويرها، من حكمة المصريّين والفُرس والكلدانيّين إلى الإغريق والرّومان. «بِفَضْلِهم»: eorum beneficio – تقولُ – ما تزالُ الكتاباتُ الّتي اندثرَتْ في لُغاتِها الأصليّةِ بفعلِ الزَّمنِ أو الإهمالِ موجودةً بالعربيَّة اليومَ: hodieque Arabice extent، وتقدِّمُ أعمالَ Livius أو Livy الّتي يَتَرَحَّمُ العالَمُ اللّاتينيُّ على خسارتِها مثالاً على ذلك، وكذلك Pappus Alexandrinus (ببّس الرّوميّ) الرياضيّ وجالينوس وأبقراط وغيرهم الكثير، وتشرَحُ لطُلّابِكَ كيفَ تُرجِمَتْ في زَمَنٍ سبَقَ زمانَك أعمالٌ كثيرة من العربيّةِ إلى اللّاتينيّة. تقولُ لهم إنَّ العَرَبَ لم يستعيروا فقط كتاباتِ الشُّعوب الأخرى وعلومَها: Neque aliarum tantum nationum Arabes scripta, atq; eruditionem sunt mutuati، بَلْ وضَّحوها ونمّوها، eadem… illustrarunt atque auxerunt، مثلما نمَّقوا: ornarunt مُعْظَمَ الكتاباتِ القديمة بالملاحظاتِ والشّروح، وقدّموا موادَّ جديدةً لكلِّ عِلْم، كتبوها في آسيا وإفريقيا وإسبانيا، كثيرٌ منها مُبتَكَرٌ ببراعةٍ من قِبَلِهم: ab illis subtiliter inventa، مُفكَّرٌ بِه بحَذَق: ingeniose excogitata، ملاحَظٌ بدِراية: docte observata، ومطروحٌ بشكلٍ بَيِّنٍ، منْهَجيّ، خَبير: clare, methodice, atque erudite proposita. تمرُّ على الأطبّاء والقُضاة والفُقَهاء والرّياضيّين والجغرافيّين والمؤرّخين، وتصرُخُ حين تتحدّثُ عن مُدَوَّناتِنا في التّاريخ: يا إلهي! وتُكمِلُ: «كم هي كثيرةٌ! وكم هي دقيقةٌ! وكم هي موثوقةٌ!»:

Historias habent, bone Deus, quam multas! quam exactas! et fideles!.

لا تتضمّنُ فقط – تقولُ - تاريخَ الإغريق والرّومان بل الكِلدانيّين والآشوريّين والفُرسِ والهنود والتّتار والعربِ أنْفُسِهم والمِصريّين والأفارقة. لو أنّك تعرفُ يا توماس كَم حاوَلَ بَشَرٌ، منّا ومنكُم، نزعَ المنهجيّة والابتكار والدِّقّة عن تاريخ تفكيرِنا لأسبابٍ تحتاجُ أعماراً كامِلَةً من العلاجِ بالطَّرَبِ الأندَلُسيّ.

أمّا أنتَ يا توماس، فلَسْتَ مُسْتَشرِقاً من الصِّنفِ الّذي يستحِقُّ الإهمالَ تماماً، فرغمَ عُقَدِكَ الواضِحة من الإسلام، لم تنْزَعْ عنّا ما لدينا، ولم تُسبِغْ علينا صُوَرَاً غرائِبيّةً تُلائمُ شَهوَتك، بل أَسْهَبْتَ في شَرْحِ علومِنا وعقولِنا في خُطبَتِك هذه على الأقلّ. تقولُ لِطُلّابِكَ إنَّك لا تَعْرِفُ شعباً آخرَ بَذلَ كُلَّ هذا الكَدِّ والجُهدِ والمواظبةِ في تجويدِ لُغَتِه، وتَمُرُّ على كُتُبِ النّحْوِ والمعاجِم، وتعيدُ القولَ إنّ للعَربِ كُتُباً مُهِمّةً في كلِّ فُروعِ المعرفةِ أكثرَ ممّا يُوجَدُ في أيِّ مكانٍ آخر. تشرَحُ لهم أماكِنَ وُجُودِ هذه الكُتب، وتحدِّثُهم عن مكتبةٍ مغربيّة سُرقَتْ لصالِح ملكِ إسبانيا، وعن اثنين وثلاثينَ ألفَ كِتابٍ في مكتبةٍ فاسِيّةٍ واحدةٍ: una Bibliotheca Fessana، وعن مكتباتِ القُسطنطينيّة الّتي تساوي أطناناً من الذَّهب. ألم تَقُل قبل قليلٍ إنّ الأتراكَ برابرةٌ يا توماس؟

تمرُّ طويلاً على أهمّيّة العربيّة للعِبريّة، وللسِّريانيّة والآراميّة والحبشيّة، وتصفُ العربيّةَ بأنّها شُعْلَتُها المُشْتَرَكة: fax communis. تقولُ إنّ العربيّةَ ضروريّةٌ كذلك للفارسيّة والتّركيّة، وإنّه كان رائجاً أَنْ تُستدْخَلَ كلماتٌ عربيّةٌ في اللّغات الأخرى من باب الزّخارف البلاغيّة: pro flosculis، أكثر ممّا يستخدِمُ الرُّومان الإغريقيّةَ والمثقَّفونَ مِن البِلج: Belgae اللاتينيّةَ والفرنسيّة. تمرُّ على أسماءِ مَن ارتحَلُوا منكم إلى آسيا وإفريقيا لاكتسابِ شيءٍ مِنْ هذه اللُّغة «النّبيلة» أو «الشّريفة» جدّاً: nobilissima، وعلى من بقُوا ودَرَسُوها في بِلادكم ودَعَوا لدِراستها، وتَدعو طلّابَك لأَنْ يُلهِمَهُم ذلك ويُحرِّكَهم، خاصّة أنَّ لديهم فرصةً لم تَكُنْ لِمَنْ سَبَقَهُم، ولو أبَوها سيكونون في رأي هؤلاء مخبولِينَ: vecordes وخَسِيسين: parum generosi، غيرَ محقِّقين لأشياء عظيمة: nec ad magna perventuri. تقولُ إنّك تَعْرِف أنّ بعضَهم يتعلَّمُ الفرنسيّةَ أو الإسبانيّةَ أو الإيطاليّة، وأنّ بعضَهم سيرتحلُ إلى مواطنِ هذه اللّغات، ثم توبِّخهم قائلاً: هل ستفعلونَ ذلك وتُهمِلونَ هذه اللّغةَ (أي العربيّة)؟: ?Idne facietis et hanc linguam negligitis؛ اللغةَ المُمتدّةَ على طُول جُزءٍ كبيرٍ من العالَم القديم؛ الّتي توجَدُ فيها أعمالٌ ضَخْمَةٌ لرجال علماء أكثرَ من كُلِّ اللّغات الأُخرى؟: ?Qua plura eruditorum virorum monumenta extant, quam reliquis omnibus؛ اللّغةَ الّتي فيها كلُّ ما في العُذوبةِ والرُّقيِّ والكمال؟: Quae omnes suavitatis, elegentiae, et perfectionis numeros ?habet؛ الّتي بإمكانكم دراستُها هنا والآن بلا صُعوبة، والّتي بمعرفَتِها تُرْفَعونَ فوقَ الصِّنفِ الشَّائعِ من الطُّلّاب:

Qua cognita supra commune studiosorum genus elevemini…?

وتُحَصِّلُونَ امتيازاً: excellentia، وشهرةً: fama، وفائدةً مُذهِلة: incredibilis utilitas، ولذّةً: voluptas؟ أرجو حقّاً أنّكم ستكونون أعقلَ من ذلك: Spero equidem prudentiores vos fore. آخ، حقّاً، يا توماس.

تُشَجِّعُهم أكثر، وتحدِّثُهم عن أهمّيّة العربيّة لدراسة الطبّ؛ عن مجلّداتٍ في هذا التّخصُّصِ تفوقُ ما في الإغريقيّة، فيها ما ليسَ معروفاً عندَ طُلّابِكَ ولم يعرِفْه الإغريق؛ عن ابنِ البِيطار وابنِ سينا وابنِ ماسويه والرّازي. تنتَقِدُ التّرجماتِ اللّاتينيّةَ لأعمالِ هؤلاء وتقولُ إنّها ألحَقَتْ بالأُصُول أذىً جَمّاً: summa injuria. تقولُ ذلك أيضاً عن الفلسفة، وتَشْرَحُ لطُلّابك أهمّيّةَ أنْ يقدِروا على سماعِ ابنِ رُشد – وتَنْتَقِدُهم لتسميته Averroes - وهو يُدرِّسُ بلُغَتِه، وتُخْبِرُهم أنَّهُم لا يكادونَ يَفَهمونَه لأنَّهم يقرؤونه مُتَرجَماً إلى اللّاتينيّة، ويحتاجون مُتَرجِماً لِمُتَرْجِمِه: interpretem in ipso desideritis interprete. أمّا الرّياضيّات، فتُعِيدُ الكلامَ عَن تفوُّقِ العَرب على الإغريق، لشِدَّة قُوَّتِهم في التّفكيرِ النَّظريّ: qui tantum valuit speculando، حدَّ أنّهم ببصيرةٍ تكادُ تَفُوقُ قدراتِ الإبداعِ البشريّ: ut, acumine humani ingenij vires prope superante ابتكَرُوا علمَ الحسابِ الّذي أوْصَلوه مؤخَّراً إلى العالَمِ المسيحيّ برُموزِه العَشرة المُسمّاةِ cifrae (ومفرَدُها cifra) الّتي ما يزال لها حتّى اليوم نظامُها وشكلُها العربيُّ كما تقول، مُضِيفاً أنّ الإغريقَ لم تكن لديهم فكرةٌ عن هذا الابتكار المُذهِل. قد تكونُ بالغْتَ قليلاً يا توماس، أو كثيراً، ونسيتَ أن تعودَ إلى حضارات العالَمِ القَديم في الهِنْدِ وبابل، لكنَّ حماسَكَ حادٌّ بديعٌ يَسْحَبُني إلى سعادةٍ طفوليّةٍ لأنّ «شيفرة» من «صِفر»، ويَجْعَلُني أَمُرُّ سريعاً، بلا حِقدٍ كبير، على نصيحَتِك لطُلّابِكَ الّذين يدرسون اللّاهوت بأن يتعلَّموا العربيّةَ لكي يستطيعوا الرَّدَّ على «عقيدة المُحَمَّديِّين الآثمة»: impia Muhammedanorum doctrina. ببساطةٍ شديدة: لقد كان ابنُ سينا وابنُ رشد مسلمَينِ مُحَمَّديَّين يا توماس. يبدو يا عزيزي أنَّك لم تقرأ «يوحنّا ليون الإفريقيّ» كلَّه جيِّداً، ولم تَتَعلَّم الكثيرَ في ضواحي باريس ممَّنْ درَّسكَ العربيّةَ، شهابِ الدّينِ أحمدِ بن القاسمِ الحَجَريّ، الأندَلُسيّ المَغْرِبيّ. قال عنكَ في مُخْتَصَرِ «رحلة الشِّهاب إلى لقاء الأَحْبَاب» حين التقاكَ في مَدِينتِك: «ولمّا دَخَلْنا مدينة لَيْدا رأينا فيها مدارسَ لقراءةِ العُلوم. ووجدتُ فيها رَجُلاً كان يَقْرأُ بالعَرَبيّة، ويُقرِئُ بها غيرَه، ويأخذُ راتِباً على ذلك، وكُنْتُ عَرَفْتُه بِفِرنْجة، وحَمَلني مَعَهُ إلى دارِه، وكان يتكلَّمُ معي بالعَرَبيّة، يُعرِبُ الأسماءَ، ويَصْرِفُ الأفعال. وكان له كُتُبٌ كثيرةٌ بالعَرَبيّة، ومن جُمْلَتِها القرآنُ العزيزُ، فأَخَذْنا في الكلام...». ناظَرَكَ في شيءٍ مِنَ الدِّين كما يَقول، وكُنتَ - لو شئتَ - لِتَتَعلَّمَ الكثيرَ عن «المُحمّديّين» حينَ حَمَلْتَ إلى دارِكَ دِبلوماسِيّاً مغربيّاً هارباً من محاكِم التّفتيش يا عزيزي يا توماس.

توماس،

ما تزالُ عالِقَةً في البالِ كَلِماتُكَ عن اللّغَةِ العربيّة: pulchritudo ,elegentia, suavitas, majestas, perfectio. أنا لا أستطيعُ أنْ أمْتَدِحَ اللّاتينيّةَ الّتي خَطَبْتَ بها هكذا يا توماس، رغمَ أنّي أُحِبّها، لكنْ من غَيرِ شَغَفٍ ووَجْدٍ وهَوَى. أتعَلَّمُها منذ سنوات، وأنساها بينَ حِينٍ وآخرَ. تعلَّمتُها في أكثرَ من مدينةٍ على يدِ أكثرَ من مُعلِّمَةٍ ومُعَلِّم، ولي معها حكايا أُفَضِّلُ ألّا أُرَتِّبَها في رأسيَ الآن، إلى أنْ أَضْجَرَ تماماً مِن المُقارناتِ الأكاديميَّةِ بينَ لُغَتي ولُغَتِك. لقد قُلتَ أنتَ إنّ دورَ العربيّةِ كان مُشابِهاً للّاتينيّة، من حيثُ إنَّها لغةُ أصحابِ الدِّراية والثّقافة: hoc est eruditorum et politiorum hominum linguam esse، كما أنَّها الأداةُ المشتركةُ لشعوبٍ مختلفة: et commune diversarum nationum instrumentum. في زماني يا توماس يَنْشَغِلُ الأكاديميّون بمسائلَ لا تحتمِلُ أوصافَكَ الجميلة، ويُوَضِّحُ Benoît Grévin كيف أصبَحَتْ مسألةُ اللّاتينيّةِ والعربيّةِ سياسيّةً، إذ يُحاوِلُ اليمينُ المتطرِّفُ الأوروبيُّ إنكارَ أيِّ تأثيرٍ عربيّ في الغَرْب اللّاتينيّ كما في كتاب «أرسطو في جبل سان ميشيل»: Aristote au Mont Saint-Michel. أمّا اليَسار، فيُساعِدُه مفهومُ دراساتِ العصورِ الوسطى ما بعد الكولونياليّة على شرح «التَّعالق»: entanglement بين اللُّغَتَين وتاريخِهما بعيداً عن الانحياز. بالمناسبة يا توماس – بما أنّكَ كَرِهْتَ الإسلامَ وأحْبَبْتَ العربيّة - يقولُ Grévin إنّ تاريخَ العربيّةِ يبدو مُعاكسِاً لتاريخِ اللّاتينيّة، فَقَد حلَّتْ الأولى بَديلاً عن اللُّغات الأخرى مع الإسلام وهَمَّشَتْ الآراميةَ والقبطيّة والبربريّة وغيرها. ويشكِّكُ Daniel König في صحّةِ اعتبار اللّاتينيّة والعربيّة مُحَدِّدَتين لـ«هُوِيَّةِ ثقافيّة»، أوروبيّة وعربيّة-إسلاميّة، خاصّةً – فيما يخصُّ العربيّة - أنَّها لم تكن لغةَ المسلمينَ وحدَهم، ويقدّمُ للفِكرَةِ بالقول إنّ من الخطأ التّفكيرَ في العربيّةِ واللّاتينيّةِ بمَنْطِق الثّنائيات مثل الإسلام والغَرْب، والمسيحيّةِ والإسلام، إلى آخره. يقول هو و Grévin كلَّ ذلك في كتابٍ أفضلُ ما فيه هامِشٌ وَرَدَ في التّمهيد، يُحِيلُ إلى كتابٍ عربيٍّ لا أعْرِفُه، لا أعرفه يا توماس! مُؤلِّفُه اللّيبيُّ علي فهمي خشيم، وعنوانُه: «اللّاتينيّة والعربيّة: دراسة مقارَنة بين لُغَتين بعيدتَين قريبتَين»، وأجملُ ما فيه أنَّه دافئٌ، بل حارّ، يقولُ الأشياءَ بعيداً عن مُصطلحاتٍ مُعاصِرَة فارِغة تملأُ الكتابَ الّذي وجدتُ فيه الهامش. اسمعْ ما أقبَحَها يا توماس، بغضِّ النَّظَرِ عن حُسْنِ نِيّةِ بعضِ مَنْ يستخدمونَها: cultural identity, Latin-Arabic transculturation, cultural segragation, culturalistic narrative.

كلُّها كُلُّها تجْعَلُني أشعرُ بالضَّجرِ يا توماس، وبالقَهْر، خاصّةً بعد أن قُبل لي ولزميلٍ لي بحثٌ في مجلّةٍ «عريقة مرموقة» حول دانتي أليغيري والنّبيّ محمّد بعدَ رِحلَةٍ طويلة جِدّاً، ثُمَّ تراجَعَتْ هيئةُ التّحرير خطواتٍ في آخر لحظة، لأنّها لا تُريد إطلاقاً «تأثيراً» للنّبيّ مُحمّد على دانتي، وتَشْتَرِطُ للنّشرِ حَذْفَ كلِّ كلمةٍ حول «التّأثير» وحول «قلقِ» دانتي من محمّد، وتُرِيدُنا أن نَنْظُرَ إلى المسألةِ بأكمَلِها بلُغَةِ «التّداخُلِ الثّقافيّ» و«التّفاعل الثّقافيّ» و«المُثاقَفة» و«التَّعالُق» والكلامِ الفارغ. كم أنا مُرهَقَةٌ من هذا العالَمِ وكَلِماتِه، جِدّاً يا توماس.

4. المديح: المُتَنبّي

توماس،

أَصِلُ أخيراً إليه، لكنِّي هذه المرّةَ تابَعْتُ الجُلوسَ ولم أقِف. شيءٌ ما فِيّ بَرَدَ، أو تَعِبَ، ويَحدُثُ ذلك لي عادَةً حين أَصلُ الأشياءَ أو تَصِلُني مُتَأخِّرَةً جِدّاً، مثلَ فريديريك مورو. أو رُبَّما هو ذلك الشُّعورُ الغَريبُ بذَنْبٍ طَفيفٍ، ذنْبِ الخِيانَةِ، الّذي يَحْدُثُ فيَّ كُلَّما تحدَّثْتُ عن المُتَنَبّي مع أيِّ شخصٍ في العالَمِ ليسَ أبي.

تقولُ لطُلّابِك بثِقَةٍ وحماس، إنَّه لا يوجَدُ في سائرِ العالَمِ، ولم يَكُنْ فيه يوماً، شعراء بعَدَدِ ما في الجَزِيرَةِ العَربيّة وحدَها: Poetas non tot habet, aut habuit unquam reliquus orbis, quot sola Arabia. أَلَم تقُل إنّهم برابرة يا توماس؟ أم إنّكَ لا ترى في الشِّعر وحدَه تَحَضُّراً ورُقِيّاً؟ هو مِقياسٌ يا توماس، للحضارةِ نَفْسِها، والمَجْدِ، وإلّا لما توقَّفَتْ العَظَمَةُ المُسْتَحِيلَةُ عندَ المُتَنبّي. تقولُ لمُسْتَمِعيكَ إنّكَ لا تَكْذِبُ أو تُضَلِّل: Non mentior Auditores. أُصَدِّقُكَ، أُصَدِّقُكَ يا توماس. تقولُ إنَّهم - إنّنا - يُحصُونَ ستِّين شاعراً: هل أتيتَ بالعدَدِ من المُفَضَّلِيّات والأصْمَعِيّات يا عزيزي وأنْقَصْتَه قليلاً؟ وتستخدِمُ عبارةَ: numerant illi sexaginta Poetarum principes، وكنتُ لأُتَرْجِمَها «ستّين من فُحول الشُّعراء» على طريقَتِنا، أو «شُيوخ الشّعراء» لأنَّ مُفْرَدَ principes هو princeps؛ الكلمةُ الّتي اختارَها بعضُكم ترجمَةً لـ«الشّيخِ الرّئيس»، لقبِ ابنِ سينا، حتّى ظَنَنْتُم أنّهُ أميرُ قُرطُبَة، وقد ثرثرتُ كثيراً عن هذه الخُرافَةِ في مكانٍ آخر. يكادُ روبرت جونز أن يُسَهِّلَ عليَّ الأمر، إذ يُتَرجِم principes إلى of the first rank، أي من الدَّرَجةِ الأولى أو المرتبةِ الأولى. على أنّ طبقاتِنا قاسيةٌ لا تحتمِلُ عادَةً أكثرَ من أربعةِ شعراء في الأولى، وإنْ ظُلِمَ بذلك جِدّاً الشَّنفرى وطرفةُ بنُ العَبد. على أيِّ حال، تَمْدَحُ شعراءنا السّتّين و«الكتائبَ» تحتَهم يا توماس: sub se habent aliquot turmas، وتقولُ إنَّ في كتاباتِهم رُقِيّاً في الابتكار: inventionis elegentia، ودِرايةً: euriditio، ودِقَّةً في التّأليف: composititionis accuratio، وعُذُوبَةً في التّناغُم والإيقاع: harmoniae et Rhythmi suavitas، إلى حدِّ أنَّ من يقرؤها أو يَسْمَعُها سيُؤْخَذُ تماماً بجاذِبيَّتِها: dulcedine eorum totus abripiatur. تقول إنَّه ليسَ عجيباً أنّ ليونَ الإفريقيّ - الحسنَ الوزّان - وكتّاباً آخرين قالوا إنّ للشِّعرِ العربيِّ لذّةً مُذهِلةً، وعظيمةً، إلى درجةِ أنْ لا شيءَ في اللُّغاتِ الأُخرى يُمْكِنُ أن يُقارَن به:

… unde mirum non est, Leonem Africanum, aliosque Auctores dicere, incredibilem esse poëseos Arabicae suavitatẽ, et tantam, ut cum ea nihil in reliquis linguis comparari possit.

توماس،

«إذا كانَ شَمُّ الرَّوحِ أدنى إليكُمُ» – إليكَ يا أبا الطَّيّب.

تقول لطُلّابك يا توماس إنَّهم سيتعرَّفون قريباً بـ «الأعْظَمِ من بينِ كُلِّ الشُّعراء الّذين رأتْهم الدُّنيا على الإطلاق»، «الّذي يُسَمُّونَه المتنبّي».

... et habeatis brevi Principem omnium Poëatrum quos unquam vidit mundus quemالمتنبي Mutenabbi, illi vocant.

ترجَمْتُ princeps بـ«الأعظم» يا توماس، اقتداءً بجونز: the greatest. قُلتَ ذلك، أنَّ الدُّنيا كُلَّها لم تَشْهَد أعظمَ منه أبداً، في زمنٍ كُنتَ فيه تعرِف دانتي بالتّأكِيد وعاصَرْتَ شكسبير. ما أجمَلَك يا عزيزي، وما أجْمَلَ الحقيقةَ الجماليّةَ حِينَ لا تكونُ نِسبيّةً مُتَسامِحَةً عاجِزةً خائِرة. كم مرَّ من وَقتٍ وأنا أُفَكِّرُ فيما قلتَ ولمْ أهدأْ. قلتَ باللّاتينيّة، في هولندا، في القرن السّابع عشر، إنّ أبا الطّيّب أعظَمُ شاعِرٍ في الدُّنيا... «فلا بَرِحَتْني روضَةٌ وقَبولُ».

لنْ أدْخُلَ مَعَكَ في حديثِك عن لقبِ المتنبّي و«المتنبّئ»: Prophetans وادّعاءِ النّاس - كما تقولُ - أنّه النَّبيُّ القادمُ بعد محمّد، لأنَّ في ذلك كلاماً يَطولُ وأنا تعِبتُ من مُجادَلَتِك فيما لا تَعرِفُ تماماً. قلتَ إنّكَ ستنشُرُهُ بالعربيّة، مع ترجمةٍ لاتينيّةٍ نثراً، وأخرى شعراً إذا ساعَدَكَ شاعرٌ متميّزٌ ولم يَرْفِضْك، لأنَّكَ كما تقولُ لا تُلْهَم كثيراً من قِبَلِ ثاليا، إحدى رَبّاتِ الشّعر: nam mea non tantum mihi dedit Thalia. أعرفُ قِصّةَ مكتَبَتِكَ الغريبَةَ وكيف انتهى بها الأمرُ في مكتبةِ جامِعَةِ كيمبردج، لكنِّي لم أكُنْ أعْرِفُكَ أبداً حينَ كُنْتُ أقرأُ هُناك. لو عُدْتُ ولو لزيارةٍ عابِرة، قد أفْهَمُكَ أكثر، لكنّي أُوشِكُ أنْ أَمَلَّ منكَ يا عزيزي يا توماس.

ما الّذي بَيْنَكَ وبينَ المُتنبّي؟ يبدو أنّك تُحِبُّ الشِّعرَ العربيَّ حقّاً، وتَنْصَحُ مَنْ يُحِبُّونَ الشِّعرَ من طُلّابِكَ أنْ يُفَكِّروا: Considerate denique qui Poësin amatis في كَمِّ اللّذّةِ: quantam voluptatem، وكمِّ البَهْجات: quantas delitias الّتي سيُدِركونها: percepturi sitis من شعراء كُثْر: ex tot Poëtis، هُم مِنْ شعبٍ وُلِدَ لهذا الفنّ، إذا كان شعبٌ ما كذلك: gentis ad eam artem, si qua alia est, natae. قال آرثر جون آربِري شيئاً مُشابِهاً بعدَك في مُقدِّمةِ ترجمَتِه الإنجليزيّة للمتنبّي. قالَ إنّ ذائقتَه تُفضِّلُ أبا الطّيّب من بين الشّعراء العرب، وإنّه يترجِمُه ليقتربَ من فَهْمِ فنِّ الشِّعرِ كما مارسَتْهُ أكثرُ الشُّعوب شِعْرِيّةً في البشريّة: the most poetical people of mankind.

لقد نبّهَ بورديو –حسبما أَذكُر– إلى أنَّ البَشَرَ يُهانُونَ حينَ تُنتَقَدُ أذواقُهم أكثرَ من آرائهم، رُبَّما لأنَّ الأولى ألصَقُ بهم، فاطمئنّ يا توماس: مهما أهَنْتُ آراءكَ الأُخرى فإنّي لا أستطيعُ إلّا أنْ أُحَيِّيَ فيك ذوقَكَ العالي في الشِّعر.

لو أنّكما تعرِفان يا آرثر ويا توماس ما يقولُه عنكما وأمثالِكُما، مِنّا ومِنْكُم، مجنونٌ جميلٌ يُدعى الطّيّب صالح: «وحُبُّ المُتَنَبّي عندي، من المعاييرِ الّتي يُمَيَّزُ بها النّاس. إنَّهُ شاعرٌ مهما قُلْتَ فيه، فلَنْ تستطيعَ أنْ تُنكِرَ عليه أنَّهُ أخو إقدامٍ ونَخْوَةٍ وما شئتَ من أرْيَحِيّة. ولنْ تَجِدَ مُحِبّاً لأبي الطّيّبِ إلا ولدَيْه شيءٌ من هذا، قلَّ أم كَثُر.» أنا أصَدِّقُ الطّيّبَ يا توماس، لأنَّ «موسمَ الهِجرة» صَدَقَت مَعي طِيلةَ حياتي. رُبَّما دَفعَكَ شيءٌ من أريحيّةٍ فيك، ومِن إقدامٍ ونَخوةٍ لأن تُصَرِّحَ بأنَّ المتنبّي أعظَمُ شاعرٍ في الكون، رغمَ عُقدَتِكَ من الإسلام. أو هو رُبَّما ذلك السِّرُّ الّذي يُسَمَّى الذَّوق: لكَ يا توماس ذوقٌ في المُتَنَبّي ورأيٌ في النَّبيّ، والذَّوقُ والرّأيُ لَيْسا أبداً شيئاً واحِداً رغمَ التَّداخُلِ المَهِيب. لقد نبّهَ بورديو – حسبما أَذكُر - إلى أنَّ البَشَرَ يُهانُونَ حينَ تُنتَقَدُ أذواقُهم أكثرَ من آرائهم، رُبَّما لأنَّ الأولى ألصَقُ بهم، فاطمئنّ يا توماس: مهما أهَنْتُ آراءكَ الأُخرى فإنّي لا أستطيعُ إلّا أنْ أُحَيِّيَ فيك ذوقَكَ العالي في الشِّعر، فهُوَ رُبَّما يكشِف، إضافةً إلى ما قالَه الطّيّب صالح، عن ذكاءٍ عميق. ألَم يَقُل أبو الطّيّبِ نفسُه: «وَإِذا خَفِيتُ على الغَبِيِّ فَعاذِرٌ ... أَن لا تَراني مُقلَةٌ عَمياءُ»؟

توماس،

هل تَعرِفُ قوَلَ أبي الطّيّب:

شِيَمُ اللَّيالي أَن تُشَكِّكَ ناقَتي ... صَدري بِها أَفضى أَمِ البَيداءُ

لن أشرَحَ لكَ البَيت، فأنتَ تعرِفُ العربيّةَ جيّداً. أنا لا أجِدُ ما أقولُ فيه إلّا صِفَتَين، قالَهُما الطّيّب صالح عن بَيتٍ آخَر لا يُحَرِّكُني مثلَ هذا. قالَهُما الطّيّب وهو يُقارِنُ بين سُطورٍ من «العاصفة»: The Tempest لشكسبير على لسان پْروسْپِرو Prospero، وبين بيتٍ للمُتَنَبّي:

«الأبراجُ الّتي تَلبِسُ الغيَّ كالعَمائم، والقُصورُ المُترَفة، والمعابِدُ الوقورَة، الكوكبُ الضَّخْمُ نفسُه، الأرضُ وكلُّ ما عليها، سوف يتلاشى كلُّ ذلك (...) ولا يترُك أَثراً وراءه.

نحنُ من نَسيجٍ كنسيجِ الأَحْلام. وحياتُنا التّافهة سوف يَغْمُرها النَّوم.

(We are such stuff/ As dreams are made on, and our little life / Is rounded with a sleep.)

هذا شكسبير العَبْقريُّ، بعد قُرونٍ من صاحبِنا، فَلْتَةِ الدُّهور، أحمدِ بن الحُسين. وكأنَّ الشّاعرَ الإنجليزيَّ، رجعُ صَدى الشّاعِرِ العَرَبيّ. كلُّ شِعْرِه الجميل هذا لَخَّصَه أبو الطّيّب المُتَنَبّي في كلماتٍ قليلة، في بَيْتٍ واحدٍ، فادحٍ مَهول:

هَوِّنْ عَلى بَصَرٍ ما شَقَّ مَنظَرُهُ ... فَإِنَّما يَقَظاتُ العَينِ كَالحُلُمِ

«فادِحٌ مَهُولٌ» يا توماس.

أمّا أنا فناقَتي لم تَعُد تُشَكِّكُ كما كانَتْ، وأوشَكَتْ أن تَكرَه الشِّعرَ والشُّعراء، والبلاغَةَ وتَحسينَ القبيحِ وعَكسَه، وتَشْتَهي الأشياءَ في حَجْمِها الطّبيعيّ، صَدري وقَلْبِي وتتجاهَلُ البَيت: «وَلكِنَّ قَلْباً بَينَ جَنْبَيَّ مالَهُ ... مَدىً يَنتَهي بي في مُرادٍ أَحُدُّهُ» مهما حكَّ ظَهرَها وبَطْنَها. ناقَتي يا توماس تعرفُ كَم أدَرْتُ من المعاني والكلماتِ على الأشياءِ الرَّماديّة إلى أنْ جرَحَتْني المناطِقُ الرّماديّة، وكَمْ أُتقِنُ اللّعبَةَ النّفسيّةَ، لُعبَتَه، المُتَنَبّي، في أشدِّ زوايا حياتي خصوصيّةً. هو مَن قالَ أمام جُثَّة: «صلاةُ اللّهِ خالقِنا حَنوطٌ ... على الوجهِ المُكَفَّنِ بالجَمال»، أمام جُثّةٍ يا توماس؛ ومن قالَ متبرِّئاً مِنْ ماضيه ليرفَعَ حاضِرَه: «كَأَنّي بِمَدحٍ قَبلَ مَدحِكَ مُذنِبُ»؛ ومَن قال مُتوَهِّماً أنَّه لن يموتَ وحِيداً مقتولاً: «ولا تُحسِنُ الأيّامُ تَكتُبُ ما أُملي». ناقَتي تُرِيدُ أن أعترِفَ لها تائبةً مُعتَذِرةً بأنّ كلَّ هذا وَهمٌ وكَذِبٌ، أنا الّتي أمْضَيْتُ عُمراً في دراسة «الحقيقة» في الشِّعر أكاديميّاً، وأنْ أَهْرُبَ معَها إلى بيداء حقيقيّةٍ جدّاً، مادّيّة جدّاً، واسعةٍ جدّاً، صامتةٍ جدّاً. ماذا سيبقى مِنّي لو طاوَعْتُها يا توماس؟ أنا يا عزيزي، أمام نَفسي، لا أساوي شيئاً بِلا الكَلِمات.

توماس،

لقد قُلْتَ إنَّ مَنْ يَزعُمونَ أنَّ العَربيّة صَعْبةٌ يقتَرِفون أذىً عَمِيقاً بِحَقِّ هذه اللُّغةِ الرَّفيعة جِدّاً: gravem nobilissimae linguae injuriam faciunt. وتَقُولُ – من بين تفاصيل أخرى - إنّ الإنْشاءَ أو الأُسْلُوبَ في العَرَبيّةِ بَسِيطٌ، طَبيعيّ، وأكثرُ ملاءمةً لطبيعة الأشياء: rerum naturae accomodata من أيّ لغة أخرى. لقد ترجَم جونز rerum natura إلى the order of things، «نظام الأشياء» بدل «طبيعة الأشياء»، لسببٍ أجهَلُه. على أنّ ترجَمَتَهُ تفتحُ لي باباً لا أستطيعُ رَدَّهُ، فـ«نظام الأشياء» هو عنوانُ التّرجمةِ الإنجليزيّة لكتاب فوكو «الكلمات والأشياء» الّذي يبتدئ بفَصلٍ عن لَوْحَة «الوصيفات» لدييغو ڤيلاثكيث: Diego Velázquez أتذكَّرُهُ أكثرَ من باقي الكتاب، ولَيْسَت هذه اللّوحَةُ ما في بالي الآن يا توماس، بل «استسلام بْريدا» الّتي رَسَم فيها ڤيلاثكيث هزيمةَ أهلِ بلدِك الهولنديّين أمام الإسبان. هُناك، تُعطي خيلُ المُنْتَصِر لنا ظَهرَها الكبير، ويكادُ يُحدِّقُ فينا إلّا قليلاً جُنديُّ مَهزومٌ في لباسِه الأخضَر بنظْرَةٍ كُلُّنا يَعرِفُها في نَفْسِه جيّداً. تلك النّظرةُ عَرفَها المُتَنَبّي، سيّدُ اللّغةِ العربيّة و«نظامِ الأشياء»، وأعظمُ شاعرٍ في الوجودِ كما قُلتَ، ورآها ومصيرَها في الدّومِستيكوس البيزنطيّ المهزوم: «لعَلَّكَ يَوماً يا دُمُستُقُ عائِدٌ ... فَكَم هارِبٍ مِمّا إِلَيهِ يَؤولُ». كيف أهربُ إذن رغمَ الهزيمة؟ كَمْ أنّ الشّطرَ الثّانيَ «فادحٌ مَهولٌ» يا عزيزي، يا توماس.

ناقَتي برَكَتْ يا توماس. تَضَعُ رأسَها على صَدْري وتقولُ أبصِري الفَرْقَ، لا التّشابُهَ، بينَه والبَيْداء. ومن غيرِ أدنى شكٍّ، تَقولُ إنّي لمْ أكْتُبْ لكَ أنتَ حَرْفاً واحِداً مِنْ كُلِّ هذه الرِّسالة، أبداً، إطلاقاً. أُصَدِّقُها. أُصَدِّقُها يا توماس.

 

· بلقيس الكركي: كاتبة وأكاديميّة/ الأردنّ

· الغلاف واللوحات الداخلية من تصميم: ياسر بيّومي/ السّودان


留言


bottom of page