top of page
صورة الكاتبAnas Ad

عندما تجرأ الشاب طه حسين على ابن خلدون


يُوصَف حُضورُ ابنِ خلدون إلى سَاحة التَّأسيس العِلميِّ، في الثَّقافة العربيَّة الكلاسيكيَّة (التّراثية)، بالحُضور المُتأخّر نوعًا ما، والـتَّاَخُّر هنا يأتي بمعناه المُباشر. أي بُعده الزَّمني عن القرون الأولى التي وُضعت فيها العلوم الكلامية والعقلية، والتدوينيّة أيضًا. ولو كُنّا خلدونيين في تفسير هذا التأخُّر لرأيناهُ مُبرَّرًا، من ناحية أنّ مُنجَزَه ضربٌ من الصَّنعة المُتطلِّبة لمقدار من التّراكمِ الحضاري ما كانت القرون الإسلاميّة الأولى لتوَفّرَه. نَسْتَحِضرُ، في سياق مُتّصل، مقولة الفيلسوف الألماني “هيجل” عن بُوم “مينرفا” (طائر الحِكمة) الذي يبدأ طيرانَه عندما تميلُ الشّمسُ إلى الغُروب ويبهتُ سطوعُ الضّوء. كذلك كان ابن خلدون، طائر حكمةٍ أرادَ أن يَتخطَّى عتمةَ الغَسق وإرهاصات عصور الانحدار، بتأسيس علمٍ جديد يكون خاتمة لفاتحات قرون الحضارة الإسلامية الكلاسيكية. وكذا حَصل مع وضعِه كتابَه: “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيّام العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر”.


قيلَ الكثيرُ عن الوَضع الحَضاري بعد ابن خلدون، وعن تصنيف عُصور الانحطاط، التي انزاحت فيها السِّيادة إلى عناصر أجنبيّة عسكريّة بالمُطلق، وفي حال كانَ هذا هو السَّبب الأساس حقًّا في الانحطاط الثَّقافي أم لا (مثلاً يتحدّث المُفكّر هادي العلوي عن أنّ ما يَفصلُنا عن التّراث الحقيقي هو تراثٌ آخر: مملوكيّ وتركي). نُقِد هذا التّصنيف، لاحقًا، على أرضيّة فَهْم أقرب إلى النِسبيّة منها إلى الحقيقيّة كما عند العلوي، واعتُبِرَ كلٌّ منَ التصنيف والتوصيف “الانحطاط” مُؤدلَجًا. لكنْ لمّا كان هذا النَّقد النّسبَوي يحتملُ خلَلاً في ذاتِه، من حيث يُمكنُ تطبيقُه على مختلف العُصور والأزمنة! أصبحَ من الصَّعب عليه أن يُجيبنا عن الفجوة المعرفيّة المُتشكِّلة في الثَّقافة العربية الإسلامية بعد ابن خلدون والتي دامت أكثر من 6 قرون وصولاً إلى الأزمنة الحديثة أو المعاصرة. إلا بالقول والإصرار على أنّه ما من فجوة إنما انزياح. على طريقة الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا بعد الحداثية: ما من هُوَّاتٍ عَميقة إنَّما شروخ.


يطولُ الفَصلُ بين الرأيين، لكنْ ما يهمُّنا أنّه على الطَّرف الأوّل لهذه الفجوة يقعُ ابن خلدون بوصفه آخِرَ، أو من أواخر المُشتغلين الكِلاسيكييِّن في حقول التّراث. ويقعُ على الطّرف الثّاني منها طه حُسين بوصفه أبرز من تقدَّمَ طليعة النَّهضة العربية الفكرية في القرن العشرين.. فكيفَ قرأ العميدُ طه حسين العلَّامة ابنَ خَلدون؟


في قراءات مُعاصرة مُختلفة لابن خلدون كُرّست المُقدِّمة بوصفها عملاً نقديًّا، إذ يُمكن اعتبار القرن العشرين قرنًا للدراسات الخلدونية بامتياز، على تعدُّد واختلاف المدارس الفِكريّة: من علي الوردي “منطق ابن خلدون”، إلى ساطع الحُصري “دراسات عن مُقدِّمة ابن خلدون”، إلى مهدي عامل “في علميّة الفكر الخَلدوني”، وعابد الجابري “فكر ابن خلدون العصبية والدّولة”. وحتّى روائيًّا، إذ عالج بنسالم حمِّيش حياة ابن خلدون في روايته التّاريخيّة “العَلَّامَة”. عليهِ، سيبدو صنيعُ العميد، واشتغالُه ضربًا من نقدِ النَّقد، إنْ جازَت التَّسمية. من جهةٍ ثانيةٍ إنَّ نقدَ العميد لابن خلدون يفتتحُ القرن، وسبّاق على كلّ ما ذُكِر بعده، علاوة على ذلك هو من بواكير الكتابات الإشكاليّة المُثيرة للجدل التي ستصدر لاحقًا من العميد، ولسانُ حاله يُردِّدُ مع تِرْبِه أبي العلاء المَعري:

وإنّي وإن كُنتُ الأخيرَ زمانه لآتٍ بما لم تستطعْهُ الأوئلُ


وضعَ طه حُسين كتابَه عن ابن خلدون بالفرنسيّة عام 1917، وهو أساسًا الرّسالة التي نال عنها الدّكتوراه من السُّوربون وهو ابن 28 عامًا. وعَنْونَها بـ«فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، تحليلٌ ونقد» نقَلها إلى العربية محمد عبد الله عنان. يُوطّئُ حُسين لنفسه، قُبَيلَ عاصفةِ الهجوم النَّقديِّ المُنتَظَر، بحديثٍ عن احتفاظِ الآداب العربيَّة لذكرٍ خاصٍّ لرجُلين، الأوّل هو أبو العلاء المعري، وهذا قد خصَّه برسالة الماجستير التي كان قد أنجزها عن “رهين المحبسين” قبل 3 أعوام، أي 1914 في الجامعة المصرية في القاهرة. أمَّا الثَّاني فهو ابن خلدون، وها هو يرتحلُ به إلى الدّيار الأوربيَّة، على اعتبار أنّ الدّراسات الاستشراقية له، لم تتجاوزِ اللّفظَ دونَ اكتناه المعنى. ثمّ يُمرّرُ اعتذارَه إلى القارئ الفرنسي إذا ما بدا أسلوبه ركيكًا أو خاطئًا بقوله: «فما كُنتُ إلَّا غريبًا وأعمى».


حسبُنا أنْ نُدلِّلَ على الفضاء الكوني الذي كانَ يتحرَّك فيه ذهنُ طه حسين، والهمِّ الشَّاغلِ له من ناحية الارتحال بشخصيّة ابن خلدون ونظريّاته، لتكونَ محطَّ درسٍ وتقييمٍ في أعرقِ الأكاديميَّات العالمية. في الوقت الذي كان عَصيًّا على الآخرين أن يُوَفِّروا لأنفسم شرطًا صحيًّا خارج التَّطبيب الشَّعبيّ، أو مناخًا تعليميًّا خارج قوس الكَتاتيب، والمراجع التقليديّة. كلُّ ذلك والعالمُ القديم، على أقلّ تقدير، يرزحُ تحتَ وطأة الحرب العالميّة الأولى، وجائحاتها التي لم تسلم منها المنطقة العربية تجويعًا، وتفتيتًا، وحروبًا.


ينقلبُ النَّفَسُ الاعتذاريُّ الهادئ، مع الصَّفحات الأول، إلى عاصفة من النَّقد اللاذع، تنصبُّ بشواظ من نار، لا على مُبالغات ابن خلدون في نَسبِه، إنَّما على سلوكه أيضًا وتقلُّباته السِّياسيَّة بين دُوَل المَغرب، وممالأته لهذا الحاكم تارة، ثُمَ انقلابه عليه عندما تسنح الفرصة، بما لا يدعو للشّك بأخلاقياته والتزاماته. بالنَّظر إلى تاريخ إصدار الكتاب، والفترة العُمريّة التي كُتِبَ بها، يُمكنُ تصنيفُه بأنّه ينتمي لمرحلة طه حُسين الشّاب، المُتحمِّس المُندَفع في نقده. وإنْ كانَ لا يجبُ التَّسليم بالمُطلَق لهذه القسمة البنيوية لحياة طه حُسين، إلّا أننا نعود لنرى هذا الملمح الصّارم النقدي، وهو لم ينقطع في حقيقة الأمر، حتى بعد مراجعته لبعض ما جاء في كتابِه المُختلَف عليه “في الشّعر الجاهلي”، فنرى هذا الملمح، في مرحلة متأخّرة من عُمره أيضًا، بيد أنّها نقديَّةٌ وُصِفَت بالأبَويَّة بعض الشّيء، كما يظهر في التَّسجيل الشّهير في برنامج نجمك المفضل مع أدباء شَبابٍ حينها: نجيب محفوظ ويوسف السّباعي وعبد الرحمن بدوي وآخرين.


بالعودة إلى ابن خلدون، يصفُ طه حُسين حالةَ العَجز التي ألمَّت بابن خلدون، وعدم قدرته على اختراق الأجواء السِّياسية بعد قدومه مِصر المتحضِّرة عُمرانيًّا، في عصر السّلطان المَملوكي برقوق، بما لا يُقارَن مع الحالة نصف المُتَحضّرة، حسب تعبير حُسين، لدولِ الشّمال الإفريقي حينها. وبالتالي “لم يستطع أن يُكدِّرَ سكينةَ مصر” ولا يَجد حُسين في هذا التَّوصيف أيَّ غضاضة من إعطاءِ الرَّجل قُدرات فوق العادة، أو فوق ما هو قادرٌ على استغلاله لا خالقٌ لها بذاته. قبلَ أْن يَحطَّ من سلوك ابن خلدون الأشنع، عندما قدّم عُلبتين من الحلوى المصرية وفوقهما بغلة، هديَّةً لتيمور لنك، بعد دخولِه دمشق وتخريبه إيَّاها. وبالتّالي ينفي حُسين عن ابن خلدون أيّ طابعٍ تراجيديٍّ في حياته، ولا يَجدُ مُبرّرًا في جمعه على أرضيّة الاضطراب والتَّشاؤم مع ميكافيللي، لأنّ ابن خلدون كان مُحبًّا لملذَّات الحياة ومنغمسًا بمباهجها،على الرّغم من نكبتِه بعائلته (زوجته وأولاده) التي غَرقتْ في البحر.


يَعتمدُ طه حُسين في تقييم لغة وأسلوبِ ابن خلدون، على تبنِّي تصنيف عصر ابن خلدون بالانحطاط، المقولة التي تحدّثنا عن مدى إشكاليتها في الفقرة الثَّانية من هذا المقال، وبالتالي فإنّ شهرةَ صاحب المُقدّمة تتأتّى من انحطاطِ ما حوله، لا لنبوغٍ في ذاته. كذلك الرُّؤية التي تحكمُ المنطق النَّظري لابن خلدون؛ فالهالة التي تُحيط بقامته، واعتباره مُؤسّسًا قمينًا على فلسفة علم الاجتماع في تُربته العربية، تَكشِفُ عن جَوانب جَعلت منه صنوًا لمؤرّخين هو في ذاته كان ينقدهم، ويُسلِّمُ مثلهم ببعض الخوارق والقدرات السّحرية فكيفَ لمثل هذا أنْ ينْسَلَّ إلى علم التّاريخ والاجتماع؟ أضف إلى ذلك مَحدوديَّته التي أوقفته عند حدود واضحة “العرب والبربر”، رَغمَ فداحةِ العنوان العريض، دونَ أن يَنقُلَ لنا شيئًا عن مؤرِّخي الإغريق ولا الرّومان. ولَو أنّ موسوعيّة طه حُسين التي يُطالِبُ بها ابن خلدون، لم تَلْتَفتْ لكلِّ آراء الفلاسفة الأوربيين، لا ذِكرَ لماركس أو هيجل مثلاً.


آخرُ القول، ما يُمكِنُ مسايرة العميد به، أنّ “ابن خلدون أوّل فيلسوف اتَّخذَ من المجتمع موضوعًا لعلمٍ مُستَقلٍّ ولكن فلنجتَهد في أن نُحدّدَ بالضَّبط طبيعةَ هذا العلم، وشكلَه، فلنُلمّ بمقدار التَّقدم الحقيقي الذي أحرزه في تلك المادة”. أما نقده المتحمس لابن خلدون فقد آن أن يوضع تحت المجهر ولو على سبيل المحاولة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نُشِرَت في ذات مَصر

댓글


bottom of page