top of page
صورة الكاتبشوقي بن حسن

سقراط… نظرية أُخرى لكرة القدم

شوقي بن حسن*

نُشرَت هذه المادة بدايةً على صفحات موقع رحبة وتُعيد صحيفة المُتَلَمِّس بموافقة من إدارة الموقع.
 

أن يحملَ اسمَ فيلسوف يوناني قديم… أنْ يكون متفوِّقاً في الدراسة ليُصبح طبيباً لاحقاً… أن يُهيّئ فضاءً اجتماعياً يبدو أبعد ما يكون عن التفكير في القضايا العامّة فيحوِّله إلى قناة لتمرير الوعي بالحقوق المدنية، بل منطقة ضغط يُحرج انطلاقاً منها النخبَ السياسية والثقافية… أنْ يكون مُدمِناً على الخمور والقراءات الفكرية: لا تبدو هذه الصفات قريبةً من بروفايل لاعب كرة، ولكنّها تجمّعت لدى البرازيلي سقراط (19 فبراير/ شباط 1954 – 2011، اسمُه الكامل Sócrates Brasileiro Sampaio de Souza Vieira de Oliveira).

وإلى جانب هذه الصفات، علينا ألّا ننسى البُعد المرئي منه: اللاعب بمواهبه الكروية التي جَمعت بين دقّة الحركة وأناقتها، وخيال ابتكاري جامح يُلهمه التحمّس، مع مسحة من الهدوء العقلاني.

افتتاح العرض

يختزل هدفان سجّلهما سقراط خلال كأس العالَم 1982 في إسبانيا هذا البُعد المرئي، لكنّهما يُظهران أيضاً الكثير من سِمات شخصيته. الأوّل كان في مرمى الاتحاد السوفييتي ضمن الأدوار التمهيدية. كان هدفاً مثل جملة افتتاحية رشيقة في رواية، كأنَّ المقصود منها أن يقدّم نفسه للعالَم.

يتسلّم سقراط كُرةً طائشةً بعيداً عن منطقة المناورات. لم يحتج سوى لمراوغتَين جسديَّتَين، جمعتا بين خفّة الراقص والكثير مِن الاقتصاد في الجهود البدنية. ومِن دون أي احتكاك مع المنافسين، قام بتحييد خطّ الدفاع وفتح زاوية للتصويب، ومن ثَمَّ انطلقت الكرة من رجله اليمنى في خطّ مستقيم لتذهب بعيداً عن متناول حارس المرمى وتستقر داخل الشباك السوفييتية.

لقد صنع سقراط، يومَها، هدفاً تاريخياً من لا شيء، وهو الهدف الذي اعتُبر الأكثر تجسيداً لتكامُل مهارات كرة القدم في لقطة واحدة، قبل أن يضعه في المرتبة الثانية هدفُ مارادونا الشهير بعد أربع سنوات في مرمى إنكلترا.

أمّا الهدف السقراطي الثاني الذي بقي في ذاكرة كرة القدم، فقد كان أكثر تقشُّفاً جمالياً. في مباراة معقَّدَة ضدّ إيطاليا، يتوّغل اللاعب البرازيلي في الدفاع الأكثر صلابةً وشراسةً في العالَم، ثمّ يُسجِّل هدفاً قد لا يَدخل شباك فريقٍ هاوٍ. كأنّ كائناً غير مرئي عبَر الدفاع الإيطالي لحظتها.

مرّةً أُخرى، يبدأ كلُّ شيء بعيداً جدّاً عن المرمى. يُمرّر سقراط الكرة إلى زميله ثم يركض، لكن ليس في اتجاه المرمى مباشرةً، كان كمن يَخرج مِن اللعبة، ثُمّ يَظهر فجأةً داخل غابة من الأقمصة الزرقاء. وحين يستلم الكرة مُجدَّداً، تُساعده لمسة استقبالها في اجتراح مسار غير متوقَّع، بحيث لن يضايقه أيُّ مُدافع إيطالي، وأخيراً بلمسة خفيفة ثانية – أشبه بتمريرة – يضع الكرة في الزاوية السفلية، حتّى أنَّ الحارس الإيطالي دينو زوف لم يتابع الكرة إلّا بعينيه، قبل أن يسقط إلى الوراء.

رغم ذلك الهدف، وهدف آخر لا يقلّ روعةً مِن زميله فالكاو، خسرت البرازيل تلك المباراة، وتوقّفت – أمام الواقعية الإيطالية يومها – أسطورةُ الجيل الذي قيل إنّه قدّم أجمل كرة في التاريخ، وكانت نواتَه مثلّثُ خطّ الوسط: زيكو وفالكاو والقائد سقراط. ماذا يفيد تقديم أجمل الاستعراضات الكروية، إذا لم تفُز في نهاية المباراة؟ طالما تردّدت هذه العبارة على أسماع ذلك الجيل الكُروي.

ربما تُمثّل كأس العالم 1982 أبرز إخفاق في مسيرة سقراط الرياضية، لكن ما يُعزّيه أنه يوجد ما هو أكثر أهمّيةً ويُمكن إنجازه من خلال كرة القدم؛ فالأولوية بالنسبة إليه لم تكُن إهداء البرازيل كأس العالَم، بل تحريرها من الظلم. ولقد صار اللاعبُ البرازيليُّ أيقونةً رياضيةً عالمية بفضل فرادة طريقة لعبه. لكن لاحقاً، سيصبح أيقونة نضالية أيضاً.

ضمير يتشكّل

في تلك السنوات كانت البرازيل ترزح تحت حكم عسكري قائم منذ 1965؛ وهي الفترة التي عُرفت باسم “حُكم الجنرالات الرؤساء”. نظام كان هو نفسُه يشجّع على “استهلاك” كرة القدم.

لا يخفى، هنا، أنَّ الكرة تُمثِّل إحدى أنجع الوسائل في تلهية الشعب بانتصارات وهمية، وتقديم فضاء بديل للاحتجاج؛ ضدّ حكّام المباريات تارةً وضدّ الخصوم تارات، ما يَمنح تفريغاً جانبياً لمطالبات بإصلاحات سياسية واقتصادية باتت ضرورية، لا سيّما حين نعلم أنّ البرازيل وقتها – أي في بداية الثمانينيات – كانت البلدَ الأكثر مديونيةً في العالم، وكان ذلك سبباً في بروز فارق كبير بين شريحة صغيرة من الأثرياء وطبقة مسحوقة مِن الفقراء تُعدّ بعشرات الملايين.

ينتمي سقراط إلى أسرة غنية، وهو ما يفسّر دراسته في أفضل المدارس والجامعات. كانت كرة القدم أحد الفضاءات القليلة التي يمكن أن يلتقي فيها أبناء الأُسَر الغنية وسكّان الفافيلا (الأحياء القصديرية). وعبر لعب الكرة، سيختلط سقراط بأتراب كأنهم كانوا يأتون من عالَم آخر، لكنهم يسكنون – في الحقيقة – على بُعد أمتار منه.

كان يشعر في كثير من الأحيان بعدوانيتهم وهم يلعبون ضدّه، وقد صارحه بعضهم بسبب هذه العدوانية، فما الذي يجعله يتمسّك بتطوير مهاراته الكُروية في حين أنه سليل أسرة غنية ويمكنه أن يصنع مستقبله حيث يشاء، أمّا هُم فكُرة القدم هي “المصعد الاجتماعي” الوحيد المتاح لهم.

هكذا بدأ الفتى يفهم تناقُضات البرازيل. ومع تطوُّر عُدّته المعرفية، سيبدأ في اكتشاف أسباب اختلال العدالة الاجتماعية في بلاده، ولعلّ كلية الطب كانت نافذةً جديدةً فَتحت عينَيه على ملامح بشِعة أُخرى لهذا الواقع، سيما وأنه اختار تخصُّص طب الأطفال.

الدكتور

في بداياته، ومِن أجل ضمان كلّ فُرَص النجاح لمشواره الدراسي، اختار سقراط ألّا يلعب في فريق كبير رغم العروض التي كانت تُقدَّم إليه. اختار اللعبَ لنادي بوتافوغو البعيد عن الطموح بالتتويجات، ولم تَبدأ مسيرته بشكل احترافي كامل إلّا بعد تخرُّجه طبيباً في سنّ الرابعة والعشرين، وهو سنٌّ متأخّر نسبياً، فكأنّه بدأ مشوار لاعب كرة قدم من منتصف الطريق.


رغم الانطلاقة المتأخّرة، سيُصبح سقراط أحد أبرز نجوم الكرة في بلاده مع التحاقه بنادي “كورينثيانس”، وبشكل أكبر مع بدء مشواره مع المنتخب البرازيلي. وسرعان ما أخذ شارة القيادة رغم التحاقه المتأخّر بالـ”سيليساو”. كانت ملامحُ الكاريزما واضحةً عليه، في الملعب كما في التدريبات، وحتى في الحياة اليومية كان يساند زملاءه، وطالما تحدَّث عن اللاعبين باعتبارهم مُستغَلّين ضمن منظومة لا ترحم.

رغم النجومية التي باتت تحيط بسقراط، لم يتخلّ اللاعب البرازيلي عن دوره الاجتماعي واحتكاكه بالواقع. كان يمارِس الطب في الأحياء الشعبية، وكان ذلك سبباً في إيصال الضوء – عبر الصحافة التي تُتابعه – إلى “البرازيل العميقة”.

يصنع التقاطُع مع الطبّ تشابهاً بين سقراط وإرنستو غيفارا، ولكن في حين كان الثائر الأرجنتيني يبحث عن بُؤَر يواجِه فيها الإمبريالية العالمية بمجموعة مقاتلين، كان هدف اللاعب البرازيلي مواجهة الديكتاتورية داخل بلده ومعه مجموعةٌ من اللاعبين.

لعلّه فهم سريعاً أنَّ حبّ الجمهور لمهاراته سيجعله في مأمن مِن مضايقات يتعرّض لها غيرُه من المعارِضين. كان بعضُ أصدقائه من الباحثين (في علم الاجتماع خصوصاً) والكتّاب والنقابيّين قد تعرّضوا إلى التعنيف والتهديد. لذلك، فإنَّ فتح فضاء كرة القدم ليكون جبهةً نضالية جديدة كان ورقةً تكتيكية تُساعِد في خلخلة الإستراتيجيات القمعية وتشتيتها.

ديمقراطية غرفة الملابس

بدأت تحرُّكات سقراط عفويّة مِن غرفة ملابس نادي “كورينثيانس”… هناك، كان يثور على القرارات الفوقية للمدرّبين والإداريّين. في سنة 1981، كانت نتائج الفريق مخيّبة، ما شكّل ضغطاً على الإدارة. انتهز سقراط الفرصة ليقترح – مع مسؤول جديد في النادي هو عالِم الاجتماعي آديلسون مونتيرو آلفس – نموذجاً مختلفاً في تسيير الفريق، يقوم على أن يُقرِّر اللاعبون في غرفة الملابس خطّة اللعب بالتصويت. ولاحقاً، سيَدخُلون تجربةً أكثر جذريةً حين يُصبح القرار للاعبين في كلّ ما يتعلّق بالنادي، حتى توزيع المداخيل سيتصرّفون فيه.

ستُعرَف هذه التجربة لاحقاً بـ”الديمقراطية الكورينثيانية”، وقد لقيت في بداياتها الكثير من الاستهزاء؛ فهي غريبةٌ عن المتعارَف عليه في كرة القدم، كما أنّها ستجعل المموِّلين على مسافةٍ منها، ما يعني أنَّ الفريق سينهار بعد أشهر. لكنَّ المبادرَة ستتحوّل إلى حركة لها مسانِدون وداعمون، بمجرّد أن تتحسّن نتائج الفريق وتزداد شعبية “كورينثيانس”.



كان لاعبو الفريق يحملون شعار “الديمقراطية الكورينثيانية” على قمصانهم، وهو ما جعل الظاهرة مرئية أكثر، وباتت الديمقراطية المؤجَّلة والمسكوت عنها حاضرةً في الطبق الذي يحبّ البرازيليون “استهلاكه”. وجد النظام أنَّ الحركة التي استخفَّ بها قد سبقته بخطوات، وباتت محميّةً بحزام جماهيري، وبالتالي لم يعُد ممكناً إيقافها.

كُرة في مرمى النظام السياسي

في خريف 1982، جرى الإعلان عن أوّل انتخابات ديمقراطية في البرازيل منذ 1965. عملت السلطة على إبقاء الانتخابات شأناً نخبوياً بضمان نتائج الصناديق، كما جرى الترويج بأنَّ الديمقراطية لا تصلح في بلد بحجمِ قارّة مثل البرازيل، وبأنّه ليس ممكناً تحقيق أفضل ممّا هو موجود.

في إحدى المباريات، دخل لاعبو “كورينثياس” وقائدُهم سقراط، حاملين يافطة كبرى مكتوب عليها: “لا يهمّ أن تربح أو أن تخسر، المهم أن يكون ذلك ضمن الديمقراطية”. كانت خطوةً حاسمة في إنجاح الانتخابات، وأكثر من ذلك في سحب البساط مجدَّداً عن مناورات الديكتاتورية العسكرية، ومن ثَمَّ أخذ المعارضون السياسيون المشعل كي تُنهي البرازيل الحكم العسكري في 1985، وتدخل مرحلة انتقال ديمقراطي ناجحة على مستويات عدّة.

في 2003، حين وصل لولا دا سيلفا إلى الحُكم، ارتدى في أحد الاجتماعات الشعبية قميص نادي “كورينثيانس”، مُشيراً بذلك إلى أنَّ تجربة “الديمقراطية الكورينثانية” كانت نواة الديمقراطية البرازيلية التي أوصلته – وهو المعارِض في ثمانينيات القرن الماضي – إلى موقع الرئيس، ولم ينس في مناسبات عديدة أن يشير إلى سقراط باعتباره الأكثر حضوراً في هذه المرحلة الجنينية للديمقراطية البرازيلية.

مباراة مستحيلة

عام 1984، جعل سقراط من الندوات الصحافية التي أُقيمت لتغطية انتقاله من ناديه إلى “فيورنتينا” الإيطالي – وهو خبر مِن المؤكَّد أنه سيجوب العالم بأسره – إلى ورقة ضغط أُخرى على النظام السياسي للتسريع في تسليم الحكم للمدنيّين. لكنه أيضاً كان يُفكّر في دخول تجربة نضالية جديدة، على قواعد أُخرى.

هذه المرّة، كان سقراط يُخطِّط لخوض مباراة على مستوى كوكبيّ؛ فضْح النظام العالمي من خلال إحدى مراياه… عالَم كرة القدم. حليفه كالعادة ليس إلّا كرةً بين رجليه، وليس هناك مساحة مرئية في ثمانينيات القرن الماضي مثل الدوري الإيطالي، وقد جمع نجوم الكرة: من مارادونا في نابولي إلى فالكاو في روما، ناهيك عن نجوم الفرق الأغنى للشمال؛ ميلان ويوفنتوس وإنتر.

كان سقراط يحلم أن تتغلّب الروح الإنسانية على المنطق الرأسمالي الذي يُدير كرة القدم. كان يحلم أن تأخذ الفِرَق ذات الإمكانيات المتواضعة مواقع متقدّمة على حساب الفرق الغنية التي يقف وراءها رجال الأعمال والسياسة، وهو الحلم الذي حقّقه مارادونا بدلاً عنه. وكان يحلم بالتأكيد أن ينتصر اللعب الجميل على المنطق التكتيكي الجافّ الذي يُبجِّل النتيجة على كلّ شيء، تماماً كما يُبجِّل الرأسماليُّ الكسب المادي على أي اعتبار آخر.

خلال سنتَين قضّاهما في إيطاليا، لم يتحقَّق الكثير مِن ذلك لسقراط. لقد بدت إبداعاته الكروية نشازاً في عالَم عنيف. اتُّهمت طريقة لعبه بـ”الرومانسية”، ولم يُسجِّل إلّا ثمانية أهداف لم يكن ممكناً أن تمنحه الإضاءة التي يحتاجها لتمرير رسائله. ولا شكّ أنَّه لم يتأقلم بالشكل الكافي مع عالم مختلف عن بيئته الأولى؛ حيث لم يجد في إيطاليا ذلك المرَح الذي يسود الملاعب البرازيلية، ولم يجد الإحاطة التي كان يحظى بها في بلده.

ومِن المؤكَّد أنَّ جسده خانه أيضاً في معمعة الدوري الإيطالي، ولا ننسى هنا أنه كان معروفاً بحُبّه للخمور، وهو أمرٌ يجد التفهّم في البرازيل على عكس المنطق الاحترافي الذي يغلب في أوروبا. وقد كان الإدمانُ السببَ الرئيسي لرحيل سقراط المبكّر في 2011، عن 57 عاماً.

أكثر عدالةً في اللعبة

بعد انتهاء مسيرته الكُروية أواخر الثمانينيات، لم يعُد سقراط يشغل الناس كما كان؛ فحين غادَر عالَم كرة القدم، كان قد غادر منطقة الضوء أيضاً. لكنَّ حضوره إلى جانب القضايا العادلة لم ينقطع، وكانت بلاده لا تزال تعاني مِن بعض النقائص حتى بعد إرساء الديمقراطية.

مِن حسن الحظ أنّه شاهد النهضة التي عاشتها البرازيل منذ تسعينيات القرن الماضي، ورأى كيف أن البلدَ الأكثرَ مديونية في الثمانينيات وقد بات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مِن بين عشر أفضل اقتصاديات في العالَم. هل أنّ شيئاً ممّا تَحقّق كان سيجد طريقاً إلى الواقع لولا ذلك الصراع من أجل الديمقراطية منذ عقود؟

مع سقراط، ها نحن نعرف أن تحريك التاريخ ممكن بأبسط الوسائل، وأنَّ لاعب كرة قدم قد يملك من الأوراق ما لا يتوفّر لنُخَب السياسة والثقافة والاقتصاد. ومِن المفارقة أنَّ اللاعب الذي اتُّهم بـ”رومانسية اللعب” كان الأكثر إحراجاً للنظام القمعي في بلاده.

فلنتصوَّر عالَماً نضخّ فيه فسلفة سقراط: لا يهمُّ أن ننتصر أو أن نخسر، المهم أن تكون اللعبة نظيفة… فلنتصوَّر ذلك ابتداءً مِن لعبة كرة القدم وصولاً إلى ألعاب أكثر تعقيداً تدور في كل مجتمعات الأرض. لعلّها يوتوبيا ممكنة!


Comments


bottom of page