top of page
صورة الكاتبAnas Ad

عائلة | جدليّة الصّلْب والسّائل في «المسرّات والأوجاع» لفؤاد التّكرلي

تاريخ التحديث: ٨ مارس ٢٠٢٢


           تَاجُ الشُّيوخِ بنو البنِين، وَفَخْرُ البَنِين آبَاؤُهُمْ. (سِفر الأمثال- كتاب مُقدّس)

       وَقَدْ تَكُونُ العَوْلة حَرَارَةَ وَجْدِ الْحَزِينِ والمحبِّ مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ وَلَا بُكَاءٍ (لسان العرب)
 
        وما يدري الفَقيرُ متى غِناهُ ... وما يدري الغَنِيُّ متى يَعيلُ (أُحَيحَة بن الجُلاح)           

I.

يبدو الدّخولُ إلى رواية المسرّات والأوجاع للروائي العراقي فؤاد التكرلي (1927- 2008) من باب التّصنيفات بَدهيّاً، فهي رواية منتمية بما لا شكّ فيه إلى عالم الواقعيّة، واقعية خالية من أي مُنكّهات أُخرى تنضاف أحياناً نتيجة عوامل التأثير وألاعيب التّناص. أشهر تلك الإضافات كانت «السّحرية» التي نشأت بفعل النّسخة اللاتينيّة من الواقعية أو ما سُمّي بـ«البُم اللاتيني» وممثلها الأرأس ماركيز، بطبيعة الحال. مع ذلك فالمسّرات والأوجاع اكتفت بصفةٍ واحدة حتّى أشبعتها، ومن ثمّ أشرعتِ الأبواب على صدمات حداثيّة كبرى مُستوحاة من أجواء ستينيّات القرن الماضي.

كذلك الأمر عربيّاً، يُمكنُ احتمال موازيات نصّية من عوالم منيف ومحفوظ، وقاسمُها المشترك هو عامل البيئة المحلّيّة، ونقول البيئة لا المَكان، لأنّها لا تحضرُ بصفة حياديّة بل هي جزء من روح الصّراع بوجهَيهِ المُسرّ والموجع، أو المُسرُّ- الموجع في حيثيّة واحدة. وهذا يقودُنا صوب النّظر إلى الرواية بوصفها رواية حشود (طبعاً أقل من حشود أرض السواد أو مدن الملح) فلا الوجعُ ولا السّرور يهبطان من سماء تُقدّر المآسي للفرد الرّومانسي المُعذّب بعينه، على العكس إنّما هي ثنائية مدغمةُ الظاهر والباطن، ولمّا كانت الحشود في كينونتها الاجتماعيّة متصارعة، فإنّ الفردَ منها لا ينعجنُ في مُعترَك الحياة إلّا بدم.

سبرَ فوّاز طرابلسي عوالم مُنيف الرّوائية مُستعيناً بمقامات السوائل، فانطلقَ من الماء وصولاً إلى النّفط مروراً بالدّم والمني، كذلك يمكنُ التّوجّه إلى المسرات والأوجاع انطلاقاً من هذه الثنائية البيو- اجتماعيّة لهذين السائلين، مع أنّ التكرلي رصدَ المجتمع العراقي وتحوّلاته خلال القرن العشرين إلّا أنّه حيّد السائل الأسود وأفاعيله، لذا سنؤثرُ التّركيز هنا على السائلين الأبيض لما في رواية التكرلي من مسحة إيروتيكيّة طافحة بل عنيفة قوامُها أصوات الرّهز والـ«النعيماً» كما ردّد بطلُ الرواية «توفيق لام» ذات مرّة بعد انقضاء وَطَر وانكفاء غُلمة، (قلّما وجدت هذه الأيروتيكيّة طريقها إلى عوالم مُنيف الواقعية، لا يدري إلياس خوري لماذا سمّى منيف بهادي العلوي عندما التقاه بباريس، ربّما لقواسم الزهد والهدوء المشترك بينهم)*. والأحمر لما يخلقه من ارتباط عضوي ووشائج عصبيّة تنبني عليها موضوعة هذا النّص: «عائلة».

يدخلُ التّكرلي وحشودُه عالمَ القرن العشرين بشخصيّة «عبد المولى» التي يعرضُها الكاتب على أرضيّة صراع الوجود، تلك الغريزة الدّافعة والمُوجِّهة لهذا الرّجل الذي لا يُعرَف كيفَ أتى؟ أوَ مِنْ نسل القرود أم البشر انحدر إلى «دربونة الشوادي» في مدينة خانقين العراقية، ذلك الحيّ القميء، والذي يعني لفظُه جمعَ القرود حسب مُراجعة مؤمن الوزّان للرواية. راحَ - الحيُّ - يشبهُ ويتلاءم مع هيئة نزيلهِ القرديّة الذي يُبالغ التكرلي بالتّنفير منه ويُعاملُه معاملةَ الكائنات البدائيّة، رغم الخدمة السّردية الجليلة - وإن كانت على عماها - التي قدّمها للنص هو وسلالته، وذلك في خلق وتتابع الأحداث على مدار الصفحات المئة الأولى.

ينقطعُ عبد المولى في دربونته عن العالم الذي يموجُ ويضطرب من حوله ابتداءً من الحرب العالميّة الأولى وليسَ انتهاءً بانقلاب عبد الكريم قاسم 1958، لا تبدو السياسة أو التاريخ هُنا تراجيديا صرفة تتحكّم بمصائر مجموعة بدائيين بقدر ما يمرّرُها عرضاً الراوي العليم مُتفرّغاً لهموم الخلفة والنّسب والتكاثر. إنّها العزلة إذن، عزلة لا تشوبها أيّ أحداث سوى التّكاثر السّنوي السريع، والعمل بالخَشَب. لتبدوَ عائلةُ عبد المولى نواةً صلبة، ولتظهرَ ممارسةُ الجنسِ فيها مُجرّدَ عنصرٍ بنائي في مواجهة الطبيعة، والقائمون عليه يؤدّونَ دوراً قَدَريّاً، لا يُمكنُ لهم أن يتخلّوا عنه، فالضدّ ليس خياراً، بل هو العدمُ عينُه، وبالتالي فإنّ وجودهم مُناطٌ بهذه العمليّة، وفي نفس الوقت هم لا يقوون على كسر عزلتهم هذه خارج الدربونة لأنّ الموت والحرب والجوع سيحصدُهم.

تُرسّم أسامي أبناء عبد المولى الوعيَ الذي يتحرّكُ فيه المجتمع آنذاك، فكلّها مرفوعة إلى لاحقة «الدّين» ولو أنّ التكرلي اكتفى بإشارات موحية دون أن يتوغل في رصد عصبيّة دينية تنضاف إلى عصبية قبليّة، وهذا أيضاً يُحيلُ توصيفَ الصّلابة إلى مستواها البدائي غير المُعقّد اجتماعياً، هي محضُ سيولة مُنفلتة لو توسّعنا قليلاً ونظرنا إليها من منظار المدينة أو الدّولة، على عكس الغايات التي تنشدُّ إليها هذه العشيرة إذ من الصعب كسرُ روتينها الصّلب والعنيد كالخشبِ تماماً الذي اختاروه مهنةً مُتوارَثة، بمعنى أنّ الحلقةَ متروكة للأجيال التي تُغافل عين الزّمن، وتحطمُ جدارَ المَحلّ المُطبِق على «عائلة».

III.

إنّ هذا الجدارَ المُصمتَ لا يتحوّلُ من الصّلابة إلى السّيولة بين ليلة وضحاها، إنّما وفق آماد موقوتة (دعكم من أسلوبي هذا قد تكون الرّواية أبسط، نعم) يبدأُ التّحوّلُ بخطٍّ يحسبُه القارئُ هيّناً أو خارجيّاً رُسِمَ بقلمِ رصاص، لكنّه يُنبئُ بانشعارٍ يُعبّئُ كلّ مقوّمات الانفجار الاجتماعي خلفه. لقد اندلقت جمراتٌ حرّى في حِجرِ أو روح الأب الأعلى عبد المولى مع قرار ولده «سور الدّين» والد البطل توفيق، بتركِ الدربونة والانتقال إلى بغداد، إلّا أنّ التّكرلي لم ينقل سردَه من عالم إلى آخر، ولم يُقم قطيعةً أبديّة، إنّما بقي خيطُ الوصلِ قائماً، وإنْ توسّع في نقليّتة إلى بغداد ليكشفَ عوالمَ وأفكارَ جديدة، مُحافظاً على إرجاعنا إلى خانقين وبطلُنا توفيق طفلٌ يتلمّسُ دربَه بصعوبة في مرابع العشيرة الشائكة. مع ذلك ليست هذه العودات أو زيارات صلة الرّحم البالية هي جوهر التّحوّلات التي أراد التكرلي وضع اليد عليها، إنّما ذلك الرّجوع المُختلِف للبطل توفيق بعد أن طُرِد من وظيفته، وضربَت عليه الذّلة والمسكنة، فركلته المدينة وأعادته إلى الرّيف بالقوّة.

تُجسّدُ بغداد في مرحلةٍ أولى مقاماً حدّياً لـ«عائلةٍ» علقَ عنادُ الخشب وصلابته تحت أظافرِها كما تأثّرت بتقلُّبات الهجرة من الريف إلى المدينة التي يُفصحُ عنها الجيلُ الثاني جيل سور الدّين ومن بعدِه الجيل الثالث مُتمثّلاً بابنيه الأكبر عبد الباري، والأصغر توفيق وهو بطل الرّواية، كما يظهرُ دور الأمّ أصلب بما لا يُقارن مع هشاشتها الظّلّية في مُستوى الزوجة البدائية زوجة عبد المولى، ولكنّها أيضاً قائمة الوجود وليست مُستحيلة كما ستكون عليه زوجة ابنها الصغير، وهي ستُشكّل مثالاً أعلى لابنها الكبير وزوجته «ثريّا قصّابي» إحدى أعقد الشخصيات في الرواية.

يصوّر التكرلي المصائر المُتناقضة بين الشقيقين، اشتدادٌ وتمسّك بالمهنة من جهة الكبير يعني وراثة أثرٍ قرديّ في المنظر، وحكمة وحنكة في التدبير، وزوجة صالحة تتويجاً للمجهودات، حيثُ تتقاسم صورة زوجة عبد الباري مشتركات كثيرة مع أمّه في الرواية، مقابل ما عند البطل من تفلُّتٍ واعتماد على شهادة حقوق، ووظيفة في الدولة، وطفرة جينيّة صنعت منه وسيماً بين معشر القرود (يُختَلف في تلقّي وتقييم هذه الطّرفة التي ألقاها التكرلي) يعني في النهاية لا- زوجة، أو «وجدان شقي» كما سمّاه الستيني صادق العظم في كتابه الحب والحب العذري، 1968.

IV.

بعد هذا، الآن فقط يمكنُ عرض مصير البطل «توفيق لام» وهو لا ينطبقُ عليه ذلك المصطلحُ الوارد في كتاب العظم فحسب، بل إنّ شخصيّتَه ومحور بطولته تتقاطعُ مع التّصور الحداثي لدونجوان الستينيّات سواء أطراه العظم في كتاباته، أو تغنّى نزار قباني بفالوسيّته (قضيبيّته) التي تَبني الأهرام وتطرّز العباءات... الخ. وهذا بالفعل يفتحُ الباب لنقد واقعي لرواية واقعية، (ويفتح الباب لنقد نسوي بطبيعة الحال) نعم يُمكنُ تفهّم تصويبات ذاك الجيل الستيني الأدبيّة والفكرية على ذهنية التحريم وتحجيب الجسد والعقل، لكنّ إيروتيكيّة التكرلي المُبالغ بها في روايته هذه، أو عالمه الروائي الكلي، رغمَ جُرأتها إلا أنّها سقطت بفخّ الإملال ما أثّرَ على بنائها السردي، حيثُ ردمَت مشاهد الجنس هوّات كثيرة في العمل، على أيّة حال ليس المقال هنا لتحليل الرواية فنّياً (لتحليل فنّي أعمق يمكنُ النّظر في مراجعة مؤمن الوزّان) بقدر ما هو استقراء لواقع عاشته «عائلة».

لا شكّ إنّ نَفسَاً انقلابيّاً ستينيّاً كان يُعبّئُ روحَ التكرلي منذ روايته الأولى «بصقة في وجه الحياة، كُتبت في 1948»، وهذا ما انتقل بطريقةٍ أو بأخرى إلى أبطال رواياتِه اللاحقة، ولو أنّ المسرّات والأوجاع صدرت في التسعينيّات، لذا فإنّ بطلها «توفيق» شديد الغُلمة، وسيم ومُشتَهى على طريقة مصطفى سعيد في موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح والصادرة عام 1966. بيد أنّ النّفَسَ الطّويل الذي صنع الرواية على مدار خمسة عشر عاماً من الكتابة وفي قرابة 460 ص، لم يكن بالغافل عن تصوير الانقلاب التراجيدي في حياة البطل، فبدا تحرّرُه الجسدي والفكري أمراً نسبيّاً وعرضة للتآكُل على وقع هزيمتِه ووضعه المادّي الذي انتقلَ بهِ من طاولات القمار إلى غُرفة رثّة في أسواق الأفراح أو خانقين والدّيون تنهشُ عظامَه، فلا يقوى حتى على الاستحمام أو حلق ذقنه، لقد تنقل التّكرلي ببطلِه بين ذرواتٍ وقيعان مُصوّراً أثر الثروة والوظيفة في كلّ من علاقات القُربى (في أحد المشاهد، وهو ثاني أقسى مشهد في الرواية، تعترف لهُ والدتُه وهي تُحتضَر أنّ كلّ الدلال والمال الذي أنفقته عليه كان لهُ بالفعل وهو تركةٌ مُخصّصة من إحدى العجائز، وباقي ما تبقى من الثروة باسم أخيه، وعندما نجت الأم من تلك السّكرة عادت لجبروتِها والتحالفات العائلية الضّيقة مع زوجة ابنها البكر المُحنّكة ثريّا قصّابي) ومثل علاقات القربى علاقات الصداقة والحب.

V.

بالوصول إلى الحُب فإنّ المعنى الجامع الذي تحدّثنا عنه أول المقال عن المُسر الموجع أكثر ما يتجلّى فيه، فصحيح أنّ الحبّ عند التكرلي ينفتحُ على علاقة جسديّة يخوضُ اللّحمُ فيها عُباب اللّحم، بيد أنّ الجنسَ هنا خيارٌ حرّ، عكس ما كان عليه أيام عبد المولى الأولى، مجرّد ضرورة طبيعية، ولا هو وسيلة في سبيل كينونة عائلة مُستحيلة الوجود، بعد أن أتت الظروف على تلك النّواة الصّلبة وسيّلتها تماماً، رُغمَ وفرة النّساء اللّواتي أحطنَ بالبطل.

تظهر «أديل» بادئ ذي بدء، بوصفها نموذجاً للمرأة المثال التي تُلاحَق - ملاحقة يتخلّلُها الكثير من الجنس وليس على الطريقة العُذريّة - بلا جدوى إذ يظفرُ بها زوجةً أحدُ أصدقاء المقامرات، ولا تلبث بدورها أن تضع يدها على ثروة هذا الزوج الذي سيموت تحت التعذيب بعد انقلاب البعث 1963، ثم تهاجر إلى باريس، فلا يبقى منها شيء سوى خيالات الجِماع المُبدّدة. ثم تحلّ كما الأقدار الثقيلة «كميلة» وهي أخت زوجة أخيه وابنة آل قصابي تلك العائلة الموازية لعائلة سور الدين والتي تُحكَمُ معها بالأقدار السائلة للدّم والمني، لا بل إنّ شخصيّة زوجة البطل كميلة تُظهرُ هوساً جنونيّاً بالإنجاب، في حين يكتشف البطل أنّه عقيمٌ لا يُنجب، ظهور كميلة عدا أنّه فتح الرواية على فصول إيروتيكيّة جديدة وفريدة ومملّة في نفس الوقت، إلا أنّها أعلنَت قطيعة نهائية (إنتروبيّة؟) بين غايات صلبة في سبيل قيام عائلة، وسيولة تنداحُ بلا ضوابط أو فرامل وصولاً إلى الانهيار المُعمَّم، حتّى إذا ما خسر البطل وظيفته ومقامَه الاجتماعي وتراكبَ عُقمُه فوق ديونِه توّجَ هذه المرحلة الانحداريّة بهوّة الطّلاق المُتزامن مع اعتراف أمّه بسطوها على تركتِه، لتبدأ رحلة مُضنية في البحث عن مأوى يُصوّرُها التكرلي بحرَفيّة ميكروسكوبية.

VI.

قلنا: إنّ الخلفية السياسيّة والتاريخيّة التي يُمرّرُها الرّاوي في جيل الكائن البدائي عبد المولى، لا تبعثُ على الظهور النّافر، ولا تأبَه بمصائر الحشود تراجيديّاً، وهذا عكسُ ما ستحتكم إليه الشخصيات في الفصول الختاميّة من الرّواية، حيثُ الحرب العراقيّة الإيرانية ستظهر بشكل نافر وهي الألم الذي يتعشّق بتفاصيل النّاس ومعاشهم اليومي، ومركزيّتها، كونها نار الله الموقدة، هي الكاشفُ الوحيد لمعدن السلوك الإنساني ونفعيّته وتوحّشه.

يُقدّمُ التكرلي ثالوثه العجيب في فصول روايته الختامية، توفيق البطل، وفتحيّة، وغسّان. تبدو علاقة البطل بهذين الاسمين أبويّة نوعاً ما في إشارة تعوّض قيام عائلة بعيدة ومستحيلة، وكلاهما (فتحيّة وغسان) قادمان من الهامش غير المُتفطّن له، إذ هل يُعقلُ لمحامٍ وحقوقي هامت به امرأةٌ مثال كأديل ذاتَ ماضٍ سحيق، أن يُصبحَ موضوعُه الرغائبي شخصيّة مثل فتحية تلك الفتاة البسيطة وغير المُثقفة؟ وهل يُمكنُ لغسان ذلك الفتى الذليل الفقير الذي أشفق عليه البطل في بدايات الرواية، هل يُمكن أن يردّ الجميل ويُنقذ البطل وهو على حافة الموت جوعاً، بضربة غير مقصودة بعد موته عسكريّاً في تلك الحرب؟

لا يُمكنُ الحديث أكثر عن هاتين الشخصيتين، لأنّ المقام ليس تلخيصيّاً لمحتوى الرواية، ولا نقداً فنّياً لتقنيات الحوار والسرد. أقول: إنّ إيلافَ الحب الجامع بين فتحيّة وغسّان انعكسَ إيجاباً على حياة البطل توفيق مُجسّداً المعنى الحقيقي والمُحكَم لـ: «أطعمهم من جوع وآواهُم من خوف» مع ذلك فإنّ التكرلي لا يركنُ لمخيّلة كسولة، ويُطلق شياطينَ المُتشَابِه لتُقطّعَ النّسيج المُحكَم، وليُصدّرَ المشهد الأقسى لا في الرواية فحسب بل المشهد الوشم في ذاكرة كلّ من يقرأ العربية، وليتعلّم منه كلّ من يتبجّح أو تتبجّح بأنّه/ها ت ـ يكتب إيروتيكيّة لمجرد أن يسطّر كلمات بلهاء مثل: شراشف وحلمات وجُرحي السّري. يُقدّم التّكرلي مشهد اغتصاب توفيق لفتحيّة في قبوٍ رطيب مُظلم وفوقهما أزيز الطائرات والمدافع، ليثبتَ أنّ خُبثاً أسود ومكراً كامناً في نفوسنا أشدّ قتامة من الحرب وأهوالِها.

VII.

تتلازم أقدار وخلفيّات شخصيّات التكرلي مع المقام الاجتماعي والثروة، بالتّأكيد نحن لا نقرأ «أصل العائلة والمُلكيّة الخاصّة والدّولة» الرواية أوسع بكثير من غاياتي الضيقة الحق أقول لكم، خاصّة أنّها تنفتحُ على عدد من الكلاسيكيات العالميّة وتشتبكُ مع أفكارها ببُعدٍ فلسفي رصين كونَ التكرلي تخرّجَ حقوقيّاً في فرنسا وعملَ قاضياً لأكثر من عشرين عاماً، ولكنّ نواةً ما في روع صاحب «الرّجع البعيد، وبصقة في وجه الحياة»** تشدُّه دائماً للقول إنَّ أحداً لا يتحرّكُ بمعزل عن تلك الترسيمات الطبقيّة والاجتماعيّة، ووحدها هي الشرط الصّلب والشّارط، والباقي تفاصيل سائلة، سواء تجلّى مخيال الغرام الرّومانسي في جسد عابر غيري أو مثلي (وهذا كلّه من الرواية طبعاً) أو في حرمِ العائلة المصون، وفي دربونة الشوادي كان ذلك، أو المشتمل، أو أسواق الأفراح.

 

*وردت آراء طرابلسي وخوري حول منيف في ملف مجلة بدايات عن منيف، العدد 10 شتاء 2015.

** أنا أُرشّح.

Comments


bottom of page