top of page
صورة الكاتبختام غبش

العَمارة ما بينَ التُّراثِ والهُويّة والنّزعة الاقتصاديَّة

خـِـتــام غـبَـش باحثة من سوريا مُختصّة بعلم الآثار

مدخل

يقع كهف لاسكو في جنوب غرب فرنسا بجوار نهر فيزير Vézère الذي اعتادت الغزلان قطع مياهه صباح كل يوم، وفي مشهدية ساحرة تنفض عنها قطرات المياه العالقة بوبرها، ومن ثم تتجه نحو بوابة الكهف، لتدخله برويّة وتتابع حياةً امتدت لما يقارب 17 ألف عام بجوار قطعان الثيران والأحصنة والغزلان والماعز البري والبيزون والماموث. عوالم مثيرة ارتسمت على جدران هذا الكهف، حددت معالمها شبكة من الخطوط والأصباغ الطبيعية، التي كرّسها إنسان ذلك العصر لتشكيل ما يشبه أولى معارضه الفنية. في العام 1998م، اجتاحت سلالات الفطور والعفن رسومات كهف لاسكو، حيث لم تشفع لها آلاف السنوات التي عاشتها متشبثة بجدران الكهف من فتك هذه المخلوقات الصغيرة. ومذ ذاك الاجتياح، لا تنفكّ ترتسم أمام عينيَّ صورةُ الثور بجرحه الذي ينزُّ كلّ تلك الأعوام الطويلة، وأتساءل عن المصير الذي ينتظره في حال وصول تلك المخلوقات إليه.


تُصنّف رسومات لاسكو بأنها وثائق مصوّرة يعود تأريخها إلى العصر الحجري القديم الأعلى، وقد أفضت غالبية الدراسات إلى أنّ الهدف الأساسي من هذه التصاوير محوره "السحر" أي تطويع هذه الرسومات وما تحمله من عناصر في ممارسات سحرية وتسخيرها لإشباع غريزة البقاء! هل حقًّا "السِّحر" هو الدافع الحقيقي الوحيد الذي حدا بإنسان ذلك العصر إلى تصوير هذه المشاهد؟ يتبعه تساؤل حول دوافع إنسان العصر الحالي إلى استنساخ هذا الكهف الضخم، و بناء نسخة مطابقة له على بعد 2 كم من الموقع الأصلي؟!


في إحدى دراساته لتاريخ الفن عبر العصور، يذكر أرنولد هاوزر Hauser Arnold: "إن الغريب في التصاوير المطابقة للطبيعة في العصر الحجري القديم، أنها تعطي انطباعاً بصرياً يبلغ من التلقائية، ومن نقاء الشكل والتحرر من كل تأنق أو قيد عقلي ما لا نجد له أيَّ نظير في تاريخ الفن اللاحق إلا عند حلول النزعة الانطباعية الحديثة، ففيها نكتشف دراسات للحركة تذكرنا بالصور الفوتوغرافية"(1). يعني ذلك أنّ إنسان العصر الحجري القديم كان يرسم ما يراه، ولم يكن يصوّر أكثر مما يمكنه أن يلتقطه في لحظة واحدة وفي لمحة واحدة للموضوع. إذاً يمكننا اعتبار هذه الرسومات بمثابة دلالات بسيطة عن شكل عالمنا قبل ولادة الكاميرا، الأداة المستنسَخة عن أعيننا التي تنقل الانطباعات عن العالم، وتحفظُها. لكنّ الحظ لا يسعفنا دوماً بمصادفة وثائق وبقايا تُسّهل بناءَ تخيّلٍ للحياة سابقاً، خاصة وأنّ غالبية المواد التي استخدمت فيما مضى ذات طبيعة قابلة للتلف والتآكل بفعل عوامل الزمن، والاستثناءات هنا محكومة بمعايير تفرضها البيئة المحيطة وشروطها المناسبة لإنتاج آليات تقاوم التقلبات المناخية القاسية. تزخر المنطقة العربية بالبقايا والدلائل الحافظة لأرشيف كبير من عمر البشرية، إلا أنها الأكثر تشويهاً لهذا المخزون التراثي. ينجم هذا التشوه بشكل أساسي عن "المزاجية السلطويّة"، حيث تتحكم القوى الحاكمة في هذه المنطقة بخارطة توزع هذا التراث، وتكرّس سؤالاً بات يتكرّر: ما الذي تقدمه لنا اللُّقى والبقايا الأثرية؟ ولماذا نسعى لدراستها ونقوم بترميم التالف منها؟

كهف لاسكو | فرنسا - مشهد داخلي

قطعان من البيزون

التعدّيات الخطيرة على البنى التّاريخية، مصر نموذجاً:

ضمن هذا السياق، ساد الأوساط الثقافية في الآونة الأخيرة جدلٌ كبير، أثارتهُ عمليات الهدم المدروسة للأبنية التاريخية في مصر، والتي يبدو أنه لن يكون آخرها هدم "قصر أندراوس" في الأقصر بقيمتهِ التّاريخيّة والمعماريّة، حيث صرّح أحمد عرابي مدير معبد الأقصر: "إن القصر له قيمة تاريخية بكل تأكيد، إلا أنه ليس قصراً أثريًّا بأي حال من الأحوال، وغير مدرج كأحد القصور الأثريّة وعدة عوامل أدت إلى هدمه منها عنصري القِدم والتشقق!"(2)

بنى "قصر اندرواس" توفيق باشا أندراوس الذي يعدُّ من أهم سياسييّ عصره، وأحد زعماء حزب الوفد المصري(3). تأتي أهمية القصر من كونه شاهداً على أحداثٍ تاريخيّة وسياسيّة هامة، في مقدمتها النضال ضد الإنجليز، واحتضانه لسعد زغلول سنة 1921 عندما رفضت الحكومة أن ترسو سفينته على أي شاطئ، كما شهد القصر اجتماعات عديدة لقيادات حزب الوفد بصعيد مصر والمحافظات الأخرى، وهو أحد قصرين يعودان لعائلة أندراوس، الأول لـِ "يسي باشا أندراوس" هُدم في تسعينات القرن الماضي.

لم يكن قصر أندراوس أولَ القُصور التي هُدمَت، بل سبقه هدم سلسلة من العمائر التاريخية من بينها قصر "مكرم عبيد" في قلب محافظة قنا، والذي تعرّض سنة 2013 إلى سلسلة من المحاولات الحثيثة الهادفة لهدمه. وهو واحد من العمائر الأثرية ذات الطراز الذي شاع في القرن الماضي في قصور الوجهاء والساسة في عهد أسرة محمد علي، وتعود أهميته التاريخية والحضارية إلى أنه كان مملوكًا لأحد زعماء الحركة الوطنية المصرية، فضلاً عن عناصره الأثرية وتفاصيله المعمارية الفريدة. وفي المحافظة نفسها يقع قصر "فاضل باشا" حاكم قنا، الذي تعرض لسلسلة من الحرائق، الأمر الذي دعا الأهالي للاعتقاد بأن القصر مسكون بالجن والشياطين، إلا أن المعاينة الجنائية أشارت إلى وجود آثار سكب مواد بترولية ساعدت في اشتعال النيران بأجزاء كبيرة منه. ومحافظة قنا تحتوي على العديد من الأوابد الأثرية، باتت غالبيتها محاطة بالقمامة والقاذورات، وتتعرض لأبشع أنواع الإهمال وعمليات التخريب الممنهجة.


أثارت هذه الإبادة وساوس وأسئلة حيال الرغبة العارمة في اجتثاث القصور التي بنيت مطلعَ القرن العشرين من قبل زعماء الحركة الوطنية المصرية، المناهضة للاحتلال الانكليزي وللملكيّة أيضاً بشكلٍ خاص، والأخطر يكمن في انتهاج سياسة عامة هدفها السّعي وبقوة إلى مسح خارطة المباني التّاريخيّة المنتشرة بكثرة ونسفها من الذاكرة. في منتصف مايو 2021، كشف آثاريون أنّ طابية الفتح الأثرية في أسوان الفريدة من نوعها في مصر، والتي يرجع تاريخ بنائها إلى العصر العباسي- الفاطمي، قد هُدمت لإنشاء خزّانات مياه. نفت وزارة الآثار في البداية أن يكون هناك قرارٌ بهدم الطابية ثم زعمت أنّ الهدم حدث عن طريق الخطأ.


تُعلّق الباحثة الآثاريّة سالي سليمان مؤسّسة مبادرة "بصّارة" على الهدم داخل القرافة بأنه كارثة، مشيرة إلى أنّ "قرافة المماليك"*(4)تحتوي على آثار ومبانٍ أخرى مسجّلة بالتنسيق الحضاري ومبانٍ أخرى غير مسجلة، والهدم بحسب الوزارة لم يمسّ ما هو مسجّل كأثر، إلّا أنّ القرافة تدخل ضمن حدود القاهرة التاريخية التي تخضع لقانون اليونيسكو. وتضيف: "حينما دخل بلدوزر جهة الهدم لم يهدم آثاراً مسجّلة لكن هدم تراثاً إنسانياً مهماً، وكان يمكن أن يحدث أكثر من ذلك لولا أن أثار الأمر الرأي العام."(5)تعرضت العديد من الأوابد والعمائر الأثريّة في المناطق المأهولة بالسكان لأبشع المجازر، ولم توضع أيّ استراتيجية لحمايتها ودراسة آليات حفظها، آخذين بعين الاعتبار النزعة الاقتصادية في التعامل مع الآثار، وتنازع الملكية بين مسؤولي الأوقاف من جهة ومسؤولي الآثار من جهة ثانية والورثة كجهة ثالثة، الأمر الذي غالبا ما يتحول إلى تبادل الاتهامات فيما بينهم ومن ثمّ تهربهم من المسؤولية، فتضيع معه هوية المبنى ويصبح رهينة قيّمة معلّقة المصير. سيتوه في دوامة المعاملات والأوراق القانونية عند احتياجه لأبسط عمليات الترميم والصيانة، وهناك شواهد عديدة على هذا النوع من المباني التي تهاوت نتيجة الصراع على الملكية والطمع بما سيدرُّه المبنى من أموال وكنوز.


قصر أندراوس | قنا

رداً على كل هذه التعديات، جرت مطالبات كثيرة لتسجيل هذه العمائر أثريّاً، إلا أنّ الذي حصل هو العكس تماماً، فلقد عانت بعض الأوابد من سحب الصفة الأثريّة عنها بالرغم من أنها مُسجّلة، وعانى بعضها من ضخ المياه إلى أسسه بهدف تفتيتها، وأُضرمت النيران بأسقف وجدران البعض الآخر محولين إياها إلى مساكن أشباح مخيفة لا تجد من يدافع عنها لحظة إعدامها والفتك بها. ما أشبه ذلك بالاجتياح الفطري الذي يهدد حياة الرسوم الجدارية في الكهوف! ففي كلتا الحالتين نواجه مخلوقات مُتنفذة تتمدد وتنمو بشكلٍ خطير وبتغذية من البيئة المحيطة، وما تقدمه لها من عوامل بقاء وانعاش!


في كتابه "سببية وجدلية العمارة" يذكر رفعت الجادرجي: "الهدف الإنساني من حماية التراث هو المحافظة على التوثيق العمراني، أي الحفاظ على العمارة كوثيقة تاريخية تتحول إلى كتاب مفتوح لجميع الناس، ولا تتضمّن هذه العملية أية أهداف اقتصادية على الإطلاق. إضافة إلى أنّ المحافظة على المعالم التراثية هو المدخل الحقيقي لتأكيد هوية المجتمع وخصوصيته.."(6) فأهمية الأبنية التاريخية أنّها تجسيد ظاهر لما هو مخفي ومطمور بين صفحات الكتب والدراسات، تختزل آلاف الرفوف من التاريخ في مداميكها الحجرية، الحافظة للعديد من الوثائق والدلالات المميزة لكل عصر، مما يجعلها سفن للعبور والانتقال بين الأزمنة. وبدورنا سوف نتلقف سير أصحابها وحكاياتهم عبر شقوق النوافذ والشرفات، ما يمكننا من محاكاة الزمن وقراءة تحولاته، لذا فإنه ليس من الترف أو الرّفاهية الحفاظ على هذه العمائر بشقيّها الزخرفي والإنشائي.


تتعاظم كارثة هذه الأبنية في حالة تجاورها إلى جانب بعضها بعضاً مشكّلة (المتحف المديني). شوارع كاملة تتباهى بعصور تاريخية مختلفة تسكن جنباتها. ومع هذا الكم التراثي الهائل، ما الذي يترتب على مدن كحلب، والقاهرة، ودمشق، وبغداد وصنعاء و.. فعله إزاء المتغيرات العاصفة التي تستشرس في استيراد مقاييس الحداثة البعيدة عن بنية المكان السّيكولوجية والهويّاتية وتجبرها على استيعابه؟


رفعة الجادرجي؛ معمار عراقي (1926- 2020)

التّأثيرات الأساسية في تغيير بنيوية العمارة ونقدها:

لعبت المَيْكَنة التي اجتاحت العالم في أواخر القرن 18 الدور الأساسي في ظاهرة استنساخ الأنماط المعمارية المقولبة، التي أنتجت مدناً منسوخة عن بعضها بعضاً، مدمرةً كل مظاهر التّنوع والتّجانس الذي يشكّل ملامح كل مدينة ويميزها عن الأخرى. استطاعت المكننة إحداث تغيير جذري في العمارة، وكان أول ظهور لها في مجال تصنيع الحديد الصلب، الذي دخل في تصنيع الجسور والبيوت الزجاجية. ولقد ساهمت حروب القرن العشرين في تطور المكننة، فحجم الدمار الذي أصاب المدن فرض على العالم خطة إعادة إعمار سريعة، وبناء عليه بدأت معايير وأشكال جديدة في عمليات البناء. وأبرز ما تم طرحه في ذلك الوقت تجسّد في وحدات لوكوربوزييهLe Corbusier (7) التي اعتُبرت حينها الأكثر نجاحاً من سواها لقدرتها على إعادة بناء النسيج المديني على النحو الذي يُساعد في تأمين عمالة كاملة، وتحسين المشهد الاجتماعي، إلى جانب دورها الكبير في حفظ الانتظام الاجتماعي الرأسمالي الذي كان مهدداً بوضوح في العام 1945.


أُثيرَ العديد من الانتقادات لنمط عمارة الحداثة، حيث اعتبر كريير بأنّ التخطيط المديني الحداثي يعمل أساساً من خلال إيجاد قطاعات وظيفية، وعليه تغدو حركة السّكان بين القطاعات عبر وسائط مصطنعة هي الهاجس الأساسي للمخطط، مولّدةً بالتالي نمطاً مدينياً هو "مضاد للبيئة" لإسرافه في هدر الوقت والطاقة والأرض، وعبّر عن ذلك في قوله: "إن البؤس الرمزي للعمارة الراهنة والمجال المديني الراهن هو نتيجة مباشرة وتعبير في آن للرتابة الوظيفية كما أرستها تقاليد التقطيع الوظيفي فنماذج البناء الحديثة وأنماط التخطيط الرئيسية كناطحات السحاب، وسابرات الأعماق، ومنطقة الأعمال المركزية، وشريط المحال التجارية، وغابة المكاتب، والضاحية السكنية...الخ، هي تركيز مفرط، أفقياً أو عمودياً، لاستعمال واحد في قطاع مديني واحد، أو في برنامج بناء واحد، أو تحت سقف واحد". على نقيض ذلك سعى كريير إلى مخطط مدينة مؤلفة من "جماعات مدينية محددة وكاملة" تشكل كل منها دائرة مدينية مستقلة داخل عائلة كبرى من الدوائر المدينية، أو بتعبير آخر "مدن داخل مدينة". في ظل هذه الشروط يمكن إعادة بحث "الثراء الرمزي" للأشكال المدينية التقليدية المبنية على "استيعاب التنوع الأقصى ومحاورته والتعبير عن التنوع الحقيقي، كما تظهره الوقائع الغنية والفعلية للأمكنة العامة، والنسيج المديني".(8)


وتأتي أهمية هذا الطرح من قدرته على خلق رؤية لأمكنة جديدة مستوحاة من رؤى تقليدية بالرغم من كل التسهيلات التي قد تضفيها التقنيات والمواد الحديثة. مما يتيح الحفاظ على طابع الأمكنة وهويتها دون المساس بمقوماتها كمدينة لها معايير ومحددات تخدم طبيعتها وشروطها الوظيفية، حيث أنه ليس من السهل إعادة صياغة شبكة العلاقات المعقدة التي ترسمها وتحددها نقاط ارتكاز مسار الحركة والمركز الحيوي للمكان.


لوكوربوزيه | معمار فرنسي 1887 -1965

أثار هالبفاكس (Maurice Halbwachs (1877- 1945 فكرة الفضاء الاجتماعي ومدى ارتباطه وتأثيره الوطيد في الذات البشرية في كتابه "الذاكرة الجمعية":"ليس الموضوع موضوع تناغم وتوافق فيزيائي بين طابع الأمكنة والأشخاص، ولكن كل غرض من الأغراض التي نلقاها ونحتك بها ضمن مجمل الأشياء، تذكرنا بطريقة عيش الكثير من الأشخاص، وعندما نحلل هذا التكوين ونعير انتباهنا لكل جزء من أجزائه نكون وكأننا نشرّح فكراً تتداخل فيه مساهمات عدد من الجماعات."(9) في بحثه في أعماق الذاكرة الجمعية يغوص في معضلة "الفضاء المعماري" الذي ترسخ في أدمغتنا، فأفعالنا وردود أفعالنا تنبع مما يحيط بنا من مكونات، وعلاقتنا بالفضاء المعماري بشقيه المادي والعاطفي ومدى انغلاقنا عليه تمثل أدوات ذات تأثير فعال في سيكولوجيتنا البشرية.


في سيرتها الذاتية المعنونة بـ"جبل الرمل" - تيمناً بالجبل الرملي في المندرة في الاسكندرية- تنسج رندا شعث من بيت جدتها فاطمة الذي يقبع في قمة الجبل ذاكرتها الأولى، وتذكر في نهاية سيرتها بأن الجبل قد أُزيل لِيتم البدء بحفر أساسات عمارة على حافة السور البحري: "بيعت الرمال البيضاء، واختفى الجبل تماماً بعد بناء ثلاث عمارات ملتصقة على الصف نفسه. صار الجبل الرملي الأبيض مسكناً لمئات العائلات، عانت الجدة من العابرين المجهولين الذين يقتحمون حديقتها ليلاً ونهاراً، عابثين بنباتاتها وأزهارها. حاصرتها من جميع الجهات عمارات عشوائية عالية سدت منافذ الهواء. أصابتها حالة ارتباك فصارت تسأل الخالة الزائرة: "أنتو غيرتو عفش البيت ليه؟" ثم تنظر من شباك غرفتها وتسأل: "هو المكوجي اللي كان هناك راح فين؟" والعبارة الأكثر ترديداً صارت: "أنا عايزة ارجع بيتي- رجعوني البيت". ثم استسلمت للصمت."(10)

مصورة وباحثة فلسطينيّة تعيش في القاهرة، صدر كتابُها جبل الرمل 2020

فمحيطنا المادي يحمل طابعنا وطابع الآخرين في آن معاً، ومنزلنا وأثاثنا والأسلوب الذي تُرتب فيه هذه الأشياء، والتراكيب المؤلفة للمكان خارج فضائنا الخاص تشكل إشارات تعريفية ليومياتنا وتذكرنا بأصدقائنا وعائلاتنا وعلاقاتنا المحمية التي غالباً ما نراها ضمن هذا الإطار الآمن. وعند اختفاء أحدها نشعر بتشتت خفي لا ندرك معالمه إلا في حالات التغير المفاجئ الحاصل دفعة واحدة، الأمر الذي لن يلاحظه الكثيرون ممن يسكنون في محيط المكان بداية، لسبب رئيسي يعتمد على أنّ العلاقة مع المحيط المادي قوامه الألفة والثقة. يتم اجتياز الشارع ذاته مرات كثيرة دون التدقيق والتميز لمكونات رصفت بديهياتها في ذاكرتنا الصورية. نعود إلى المكان محتفظين بصوره وتفاصيله الدقيقة التي تركناها فيه، ليس هذا فحسب فمن الممكن أن نضيع في حال باغت المكان الذي ألفناه مصّنعات غريبة.


في كتابها "في أثر عنايات الزيات"، أمضت إيمان مرسال، التي كانت قد غادرت مصر منذ العام 1998، وقتاً طويلاً في رحلة البحث والاستقصاء والتي أرادت أن تكون نقطة البدء المدفن الذي استقر فيه جثمان عنايات. ففي واحدة من الورقات الثلاثَ عشْرة المتبقية من أثر عنايات وجدت جملة غامضة بخط يدها: "يجب أن تبدأ الرحلة من المقابر". إلا أن الطريق إليها لم يكن سهلاً. في رحلتها هذه لا يمكننا أن نجزم إن أرادت الكاتبة أن تنقل لنا أحاسيس غربتها وتَنَقّلها في أرجاء المكان كمغتربة لا تعلم الكثير عن خباياه، فنقطة الانطلاق حددها عنوان مكتوب في "جريدة الأهرام في يناير 1967" إحداثياته "مدفن المرحوم رشيد باشا بالعفيفي"، وقد جاءت الكاتبة على ذكر هذه المنطقة في مقدمة العمل أثناء زيارة لها في العام 1995، أي قبل خوضها غمار السفر وبالتالي قبل معرفتها بعنايات.

"بدت هذه المقابر ليلتها أجمل مكان في العالم، نسيم الصيف وأضواء هضبة المقطم،.. لست في نزهة ولا سفر، بل رحلة الإسراء ستنتهي بانتهاء الليل".(11)

في العام 2015 عرجت الكاتبة على المكان ذاته إلا أن إحداثياته قد ضاعت منها وتاهت بين أزقته، ولم تصل الكاتبة إلى المكان المطلوب إلا في العام 2018 وبمساعدة باحث آثار، خبيرٍ بتوزع المقابر، إلى جانب حفظه لمعالم القاهرة الفاطمية وتحولاتها. "قرأت مرة بأن هذه الصحراء كانت مسرحاً لمسيرات المماليك العسكرية ومسابقاتهم وبطولاتهم واحتفالاتهم الدينية، وأنهم بنوا مقابرهم هنا بسبب جفاف التربة، يتوه الغريب في هذه الأميال من الأسوار والبوابات والشوارع المستقيمة. تتداخل عصور تاريخية بولاتها وباشواتها ومساجدها وصورها ومقامات عارفيها. لا إشارات لترسيم الحدود في مدينة الموتى".(12) سيزداد تيه هذه الأماكن يوماً بعد يوم إلى أن تجتثّ كعشبة ضارة تسمم المجال الحيوي حسبما يراها الكثيرون في يومنا هذا، فلو انتظرت الكاتبة قليلاً لكانت قد رثت بعض هذه البقايا الأثرية التي جرى هدمها لاحقاً، ومنها ما كان قد ذكر أعلاه "قرافة المماليك"*، أما الأجزاء المتبقية من هذه البقايا فكانت من نصيب الموتى كمثوى أخير لهم، يحاصصهم فيها أحياء لا مكان قادر على استيعابهم.


في كتاب "في أثر عنايات الزيات" اخترقت الكاتبة طبقات من العفن والتكلس المتراكم عبر السنين، وذلك خلال البحث والتنقيب عن شخصيات علمية وسياسية هامة كان لها دورها الكبير في تطوير التراث المصري وحفظه، والتسلسل الحياتي لشخص عنايات المجهول. لقد ارتطمت في رحلتها هذه بالعديد من العراقيل والمجازر المُرتَكبة بحق الأشخاص بالدرجة الاولى وبحق التراث والعمائر بالدرجة الثانية. المجزرة الأولى ارتكبت بحق عنايات الزيات نفسها المتوفاة سنة 1963، حيث لم يعثر على ملف باسمها بالرغم من وجود اسم ورقم له، ولكن الملف نفسه اختفى واكتفت الموظفة ببضع كلمات: "مش موجود.. غالباً في الهالك.. استغنوا عن ملفات كثيرة في السنة اللي فاتت". تذكر إيمان مرسال: "لا يحدث الهالك عشوائياً أو بسبب الاهمال كما نتوقع في الحياة، بل بناء على رأي خبير يفرّق بين الملفات المجمّدة التي تشغل حيزاً مكانياً دون أن يزورها أو يضيف إليها أحد، وبين الملفات "المفتوحة" على امكانيات في المستقبل. هذا يعني أن الأرشيف المؤسساتي الذي يحتاج نظاماً لخلقه والحفاظ على استمراريته واستخدامه، قد يصبح عبثاً، مما يستدعي نظاماً إضافياً لتدميره. الايديولوجيا التي تقف خلف تأسيس الأرشيف هي نفسها ما تقرر تدميره. الأرشيف هو عمل الحضارة، رغبة في الحفاظ على التجاور والتعدد والتناقضات باعتبارها معاً ذاكرة جمعية، لكنه أيضاً لا يمكن أن يكون إلا انعكاساً لوعي ثقافة ما بذاكرتها، في لحظات الانحطاط العابرة، تتضاءل أهمية الذاكرة، يأتي خبير ليقيّم ما هو مهم وما هو تافه من موقعه في هذه اللحظة المنحطة."(13)


تكررت المجزرة ثانية بحق عنايات عندما نُشرت روايتها "الحب والصمت" سنة (1967)، بعد انتحارها بأربع سنوات، حيث تشير مرسال إلى تلاعب بنهاية الرواية من قبل مؤسسة "الدار القومية للنشر" بما يتماشى مع الأحداث السياسية خلال تلك الفترة الزمنية، ضاربين بعرض الحائط جهد وأحاسيس عنايات ومستغلين فكرة رحيلها الأخير. بينما الأكثر خطورة من كل ما سبق يكمن في امتلاك جرأة حذف بقايا وأشياء خاصة بأشخاص نعرفهم حق المعرفة والعمل على نسفها من الوجود، نقنع أنفسنا بأننا نمتلك أحقية اتلاف ممتلكاتهم الخاصة، نبقي على ما يتناسب مع قيمنا وأفكارنا، نزيل منها كل تلك الأشياء التي بإمكانها أن تؤثر على سمعتنا وتقاليدنا. ففي نفس الرحلة لم تجد إيمان من أثر عنايات سوى بضع رسائل ويوميات تحمل مقاطع مجردة وجودية محلّقة، لا خوف منها، لتتحول مع الزمن هذه الأوراق إلى وثائق معتمدة عن شخص عنايات حسب تعبير إيمان. "كانت الأوراق القليلة التي نجت نقاطاً منزوعة من نص حياة. فلقد حدث طمس لشخص عنايات الحقيقي، لعدم انسجامه مع من يحيطون بها، ظلت فقط السيرة الطيبة التي يريدون لها أن تبقى. أعيد تأويل قصة حياة شخص "انتحر" منذ أكثر من خمسين عاماً وأصبح التأويل هو القصة الحقيقية. إنهم لا يكذبون عندما يخفون ما يعرفونه لأن ما يعرفونه مؤلم ويجب إزاحته"(14)


إيمان مرسال 1966 | شاعر ومترجمة مصرية

كل ما ذكر ينضوي تحت خانة "الأدلجة"، سَوق الذاكرة بما يتناسب مع فكر وأيديولوجيا السلطة الحاكمة في كل عصر وزمان، فكل هذا الاستسهال والتراخي الذي يسيطر على أوساطنا العلمية والثقافية وحتى الاجتماعية فيما يخص قتل شخص أو معلم منشؤه ايديولوجيا الفكر المسيطر، والتحدي الأكبر بهذا الخصوص يكمن في تكوين وعي وهوية حقيقية، فالهوية والذاكرة مرتبطتان بشكل وثيق، وبوجود الهوية تتحرر الذاكرة وتشكل ممرات منفتحة لا تحكمها ايديولوجيا أو انتماء وإنما تنفتح أبواب الحرية في التعبير والرأي.


تشاركت كل من إيمان مرسال ورندا شعث في كتابيهما موضوعاً في غاية الأهمية، عندما أمعنت كلتاهما في رسم خارطة للعديد من الشوارع التي أزيلت منها نقاط علام مهمة، إلى جانب أنهما حددتا الشوارع التي تغيرت اسماؤها تبعاً لحيثيات المرحلة، والعمل على استحضار بعض العمائر التي أزيلت وبني على أنقاضها ما يعاصر المرحلة وتحولاتها، فلقد استعانت ايمان بهيئة المساحة ليكون بمقدورها التعرف على ملامح تلك الأماكن، في حين لجأت رندا شعث إلى مخزونها من الذكريات التي أمدتها بصور وأشخاص الأزمنة الفائتة. فشارع الحرية بات يكنى بـ "شارع عبد الناصر"، و"سينما بيروت" أصبحت متجراً للأدوات المنزلية، بينما ضُربت جدران "سينما فاتن حمامة" بالمطارق وانتزعت أبوابها، وكذلك الأمر بالنسبة لـ"سينما أمباشي" في أشرفية لبنان.. اجتثاث كامل لكل أثر حافظ لذاكرة المرحلة، والقائمة في هذا الخصوص تطول.


خاتمة:

لم يَعد يُراد للمدن المركزية ذات التّاريخ المغرق في القدم أن تستمر في أداء دورها الذي لطالما كانت رائدةً فيه، فعمليات تجريدها من صلاحياتها وسلبها تراثها الغني مثّل الموضوع الأهم لهذه المرحلة. خاصة وأنّ أهمية هذه المدن ووضعها الاستراتيجي محكوم بالحالة السياسية من جهة والاقتصادية من جهة أخرى. وتبعاً للتحولات العاصفة التي يعيشها عالمنا اليوم، بات التعامل مع العمارة القديمة مزنراً بأطر الزيف والتصنع، هناك توجّه لحرق جمالية بنيانها، وجهد مركز على صبّها في قوالب جامدة من شأنها قتل كل مبادرة حيوية تجعل منها أبنية مرنة تستوعب تحديثات المرحلة وتوظفها عضوياً.


كل ما يحيط بنا يصب في خدمة الرأسمالية العالمية التي تغلغلت إلى أساسات الهندسة المعمارية، ونمت لتَعُم ساحات المعمورة، فالتضحية بالهوية من أجل العولمة أفسدت القيم والثقافات التقليدية التي داوم عليها البشر لآلاف السنين. وكل هذا الانفصال الذي باتت تعيشه المدن التاريخية من حيث الانشقاق عن محيطها الحيوي يرتكز بشكل رئيسي على انتحال سمات العمارة الحداثوية البعيدة كل البعد عن المناخ الطبيعي لكلٍ منها، وما نتج عنه من تسطيح للتاريخ الحقيقي لكل منطقة ومسح تحولاتها المفصلية، حتى بتنا لا نعرف عن تاريخ تلك المدن إلا ما وصَلَ إلينا من كتبِ وأخبار الرّحّالة. ندرس تحولات مساكننا، كسائنا، مشروباتنا، العادات واليوميات السائدة حينها من خلال ما ترجمته أعينهم. والأخطر من كل ما تم ذكره يتركز في طور البحث عن آثارنا المدفونة في طبقات ترب هذه المناطق والتي ينزاح مؤشر احداثياتها حيث الخزائن المتحفية الموزعة في جميع أصقاع العالم، تُنفى إليها لتبقى حبيسة تلك العوالم الغريبة، بعيدة عن نسيجها المادي.


ما أشبه هندسة تلك الخزائن بعمارة منازلنا اليوم، التي جرى استيرادها فبتنا نعيش بداخلها غرباء عن محيطنا وعن أنفسنا أيضاً، يفصلنا حاجز بلوري عن العالم الخارجي، بشكل مطابق لحياة تلك القطع التي تعيش في زمن لم تعد تنتمي إليه.


نُشِرَ المقال في جدلية ونعيد نشره بإذن من الكاتبة.

 

الهوامش:

1- أرنولد هاوزر. الفن والمجتمع عبر التاريخ، ج1، ت: د. فؤاد زكريا، دار الوفاء، الاسكندرية، ط1، 2005، ص16.

2- صهيب ياسين. قصر أندراوس التاريخي..124 عاماً من حكايا الرعب والسياسة والتاريخ، العين الإخبارية- أغسطس 2021.

3- الحزب الجماهيري قبل ثورة 23 يوليو التي أنهت عهد الملكية، نشأت فكرة الحزب في العهد الملكي وبالتحديد أحداث 1919، ومنذ عشرينات القرن العشرين كانت أغلب الحكومات المتعاقبة على حكم مصر- قبل الثورة- يشكلها حزب الوفد، إلا أنه قد حل إلى جانب العديد من الأحزاب السياسة المصرية بعد قيام الثورة في العام 1953، ليسدل الستار على تجربة التعددية الحزبية المصرية، إلا أنه عاد لينشط ثانية في عهد الرئيس أنور السادات.

4- أو ما يسمى بـ(جبانة المماليك): حوت هذه المنطقة الممتدة من قلعة الجبل إلى العباسية شرق القاهرة على أقدم القباب الضريحية الباقية في عمارة مصر الاسلامية، حيث يرجح بأن تاريخ بعض قبابها يعود إلى ماقبل الفاطميين، أما معظمها فيعود إلى العصر الفاطمي (العمارة والزخرفة في العصر المملوكي- غالب المير غالب- الهيئة العامة السورية للكتاب، ص189)، وظفت القرافة في العهد المملوكي كميدان للتدريب، إلا أنها لاحقاً لفتت أنظار سلاطين المماليك الذين باشروا ببناء قصورهم التي ألحقوا كل منها بمسجد ومدرسة.

5- محمود عبد الرحمن. (الآثار والتراث في مصر: بين الاهمال والاهتمام)، المفكرة القانونية، يوليو 2021.

6- رفعة الجادرجي. في سببية وجدلية العمارة، مركز دراسات الوحدة العربية، ص44.

7- نسبة للمعماري شارل إدوار جانِّريه الملقب بـ(لوكوروبوزييه): هو من المعمارين الحداثويين الأوائل، أخذ لوكوربوزييه في تصاميمه وكتاباته ما تخيّله من احتمالات كامنة في المصنع والآلة وعصر السيارة ثم حشدهما نحو مستقبل طوباوي. يذكر ديفيد هارفي بأن العمارة التي سادت خلال هذه الفترة أنتجت صوراً راقية من القوة والتفوق لكل من الشركات والحكومة المهتمة بهذه السمعة، بينما أنتجت هذه الحكومات نفسها مشاريع سكن حداثي للطبقة العاملة التي أصبحت من جهة ثانية رمزاً للاستلاب والظروف غير الانسانية. سادت خلال هذه الفترة الأنماط المعمارية أحادية المعيار أو ذات الخط المعماري المتشابه.

8- ديفيد هارفي. حالة ما بعد الحداثة "بحث في أصول التغيير الثقافي"، ت: د. محمد شّيا، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2005، ص 94.

9- موريس هالبفاكس. الذاكرة الجمعية، ت: نسرين الزهر، بيت المواطن للنشر والتوزيع، بيروت 2016، ص166.

10- رندا شعث. جبل الرمل، دار الكرمة للنشر، القاهرة 2020، ص136

11- إيمان مرسال. في أثر عنايات الزيات، الكتب خان للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2019، ص10.

12- المرجع السابق ص12.

13- المرجع السابق ص196.

14- المرجع السابق ص203.


Comments


bottom of page