top of page
صورة الكاتبAlaa B.H

مكان صَغير (1-2) | قصّة قصيرة لـ : جامايكا كِنكَيد

ترجمة: علاء بريك هنيدي


إنْ أتيتَ إلى أنتيغُا كسائحٍ، فمَا ستراهُ هو التالي. إنْ كنتَ قادماً بالطائرةِ فستحطُّ بِكَ الرحال في مطارِ ف.ك بيرد "V. C. Bird" الدولي. فيري كورنول بيرد "Vere Cornwall (V. C.) Bird" وهو رئيسُ وزراءِ أنتيغُا. لعلَّك من السياح الذين سيَتَساءلون لِمَا يسمِّي رئيسُ الوزراء مطاراً باسمِهِ- لماذا ليس مدرسة، أو مستشفىً، أو حتى نُصباً تذكارياً ضخماً؟ أنتَ سائح ولم تشاهدْ بعدُ مدرسةً في أنتيغُا، لم تشاهد بعدُ مستشفىً في أنتيغُا، كما لم تشاهد بعدُ نُصباً في أنتيغُا. عندما تهبطُ طائرتكَ على الأرضِ، قد تقول، يا لَها من جزيرةٍ جميلة –أجملُ من أي جُزِرٍ أخرى شاهدُتها، مع إن تلك الجزر كانت جميلة جداً، إلا أنها كانت خضراءَ أكثر من اللازم، مع نباتات مبللة تُعلِمُكَ، أيُّها السائِح، أنَّها تعرَّضَتْ لكميةٍ قليلةٍ من الأمطارِ، والمطرُ آخِرُ ما تريده الآن، لأنه يذكِّرُكَ بتلكَ الأيامِ الصعبة والباردة والمظلمة والطويلة التي قَضَيتَها في العملِ في أمريكا الشمالية (أو أسوأ، في أوروبا)، تكسبُ بعضَ المالِ لتتمكنَ من البقاءِ في هذا المكان (أنتيغُا) حيثُ الشمسُ ساطعةٌ دائماً، والمناخُ حارٌّ وجافٌّ لمدة أربعة إلى عشرة أيام التي ستَقضِيها هُنا، بما أنَّكَ في عطلتك، وبما أنَّكَ سائحٌ، يجبُ ألّا يخطر ببالك سؤال كيفَ سيكونُ عليه الحال لشخصٍ عليهِ العيش على الدوامِ في مكانٍ يُعاني من الجفافِ، يَرْقَبُ فيهِ بعنايةٍ كل قطرةٍ من المياهِ العَذْبَةِ (في الوقتِ الذي يُحيطُ بِه البحر والمحيط –البحرُ الكاريبي على جانبٍ، والمحيطُ الأطلسي على الجانبِ الآخر)




تنزلُ منَ الطائرةِ التي أقَلَتك، تعبر الجمارك. بما أنَّك سائح أمريكي أو أوروبي –لِنَكُن صَريحين أنكَ أبيضُ البشرةِ، لا أنتيغوانياً (نسبةً لأنتيغُا) أَسودَ عائِداً إلى أنتيغُا من أوروبا أو أمريكا الشمالية مع صناديق تعجُ بالملابس الرخيصة والمأكولات للأقارب– فإنك تَجتازُ الجَماركَ بسرعةٍ، تجتازُها بِكلِ سهولةٍ ويسرٍ؛ ولا تُفَتَشُ حقائِبكَ. تخرجُ مِن الجماركِ إلى الهواءِ الدافِئ والنَظيف؛ تَشعرُ على الفور بأنَّك مُتطَهِّرٌ، أنَّك مبارك (يمكنُ القَول بأنَّهُ شعورٌ استثنائي)؛ تَشعرُ بالحرية. ترى رجلاً، سائق سيارة أجرة؛ تَطلبُ مِنهُ أنْ يُقلَّك إلى وجهَتِكَ، يُعطِيكَ سِعراً مُنخَفِضاً. تَعتَقدُ على الفور أنَ السِعرَ بالعُملةِ المَحلية، تَشعرُ بحريةٍ أكبر لأنَّك سائِح وعلى درايةٍ بهذهِ الأشياءِ (أسعار الصرف)، ولأنَّ الأسعار تبدو رخيصةً، ولكن عِندهَا يقولُ سائِقكَ "السِعر بالعملة الأمريكية". قد تقول "همممم، ألديكَ تعسيرة رسمية؟" يطيعُ سائقكَ القانون ويظهرُ لَكَ الورقة، ويعتذرُ عن الخطأ الذي ارتكبَهُ في إعطائِكَ سِعراً أعلى مِمَّا كان يَظُن وهو مُختلفٌ إلى حدٍ كبير (لصالحه) عَنه في الورقةِ المَذكورة. يَمضي بِكَ السَائق إلى فندقِكَ داخِل سيارتِه الأجرة، وهي سيارةٌ يابانيةٌ جديدة؛ يسلك بك طريقاً سيئاً للغاية، طريقٌ بحاجةٍ إلى إصلاحات. تَشعرُ بِشعورٍ رائع، لذلك تقول "أوه، يا له من تغيير مُدهِش من تلكَ الطرقِ السريعة الفاخِرة التي اعتدتُ عليها في أمريكا الشمالية (أو أسوأ من ذلك، أوروبا) إلى هذه الطرقِ الرديئة". سائقكَ متهورٌ؛ رجلٌ خطير يقودُ سيارتَه في منتصفِ الطريقِ مُعتقداً أنَّه لا تُوجدُ سياراتٌ أُخرى قادِمة في الاتجاهِ المعاكس، ويَتجاوزُ سياراتٍ أُخرى على منعطفاتٍ غيرِ مرئيةٍ تتجهُ صعوداً، ويختَرِقُ بسرعةِ ستينَ ميلاً في الساعة الطُرُقَ الضيقة والمنحنية، في حين أن اللافتة، لافتة صَدِئَةٌ وضربٌ مما تبقى من أيام الاستعمار، تقولُ (أربعينَ ميلا في الساعة). قد يخيفك هذا (أنت في عطلتك، أنت سائح)؛ قد يحمِّسكَ هذا (أنت في عطلتك، أنت سائح). إن كنتَ من قاطني نيويورك وتستقلُ سياراتِ أجرةٍ فأنتَ مُعتادٌ على هذا النمطِ من القيادة؛ معظمُ سائقي سياراتِ الأجرة في نيويورك من هكذا أماكنَ. تنظرُ من النافذةِ (تريدُ الحصولَ على قيمةِ ما دَفعتَهُ)؛ تلاحظُ أنَ جميعَ السياراتِ جديدةٌ تماماً، أو شبهُ جديدةٍ، وأنَّها يابانيةُ الصنعِ. لا توجدُ سيارات أمريكية في أنتيغا —على أي حال الموجود منها؛ لم يُصنَع في السنواتِ العشرِ الماضية. تَستمرُ في النظرِ إلى السياراتِ وتقولُ لِنفسِك، لماذا تَبدو جديدةَ المظهر، في حين أن صوتها مُرعِب؟ كسيارةٍ قديمة –سيارة مُتهالكة متداعية– "كيفَ ذلك"؟ حسنٌ، رُبما لأنَّهم يستخدمونَ البنزينَ المحتويَ على الرصاص في حين أن مُحركاتُها مصمَّمةٌ لاستخدامِ البنزينِ الخالي من الرصاص، لكنكَ لا تسأل سائقك ما إذا كان الأمرُ كذلك، لأنه لم يَسمع عن البنزينِ الخالي من الرصاص. تنظرُ عن كثبٍ إلى السيارة؛ تَرى أنها نموذجٌ لسيارةٍ يابانيةٍ قد تتردَّدُ في شرائِها؛ فهي باهظةُ الثمن؛ وغيرُ عمليةٍ إلى حدٍ كبيرٍ بالنسبةِ لمن يجبُ عليه العمل بجدٍ كما تعملُ أنت، ومراقبة كل قرشٍ يكسبهُ ليتمكنَ من تحمُّلِ هكذا عطلةٍ. كيفَ يمكنهم شراءُ هذهِ السيارات؟ وهل يعيشونَ في منزلٍ فخمٍ يلائِمُ مثلَ هذهِ السيارة؟ حسناً لا، ستُفاجَأ عندما تَرى أن من يقودُ هذه السيارةَ الجديدة المملوءةِ بالوقودِ الخطأ يسكن في منزلٍ، بالمقابل، أقلَ بكثيرٍ من وضعِ السيارة. وإذا أردت أن تسأل عن السببِ قيلَ لكَ إنَّ الحكومةَ تُشجِعُ البنوكَ على تقديمِ قروضٍ للسياراتِ، لكنَ قروضَ المنازلِ غيرُ متوفرةٍ بسهولة؛ وإذا سألت مرةً أخرى لماذا؟ سيخبرونكَ بأنَّ اثنتينِ من وكالاتِ السياراتِ الرئيسية في أنتيغُا يملِكُهُمَا جُزئياً أو كلياً وزراءُ في الحكومة. أوه، لكنك في إجازةٍ، ومشاهدةُ هذه السيارات الجديدة التي يقودها أناسٌ لعلهم قد اجتازَوا اختبارَ القيادةِ (ربما كانت هناك فضيحة حول بيع رخص القيادة) لن يثير مثل هذه الأفكار. تمر أمام مبنىً يعومُ في بحرٍ من الغبارِ وتظنُ أنَّها مراحيضٌ للعامة، ولكن عندما تدقق النظر سترى أن المبنى قد كُتِبَ عليهِ مدرسة Pigott. تمر أمام المستشفى، مستشفى هولبرتون، على الرغم من أنك سائح وتُمضي إجازتك، ماذا لو اضطربَت نبضاتُ قلبك؟ ماذا لو انقطع أحد الأوعية الدموية في عنقك؟ ماذا لو فشل أحد هؤلاء الأشخاص الذين يقودون السيارات الجديدة المليئة بالوقود الخطأ في المرور بأمان أثناء الصعود على منعطفٍ وأنت في سيارة تسير في الاتجاه المعاكس؟ لكم ستكون مخطئاً إنْ لم تفكر في هذا، هل ستشعر بالارتياح عندما تعرف أن المستشفى مزودة بأطباء لا يثقُ بهم الأنتيغوانيون؛ يقولون دائماً عن الأطباء " لا أريدهم بالقرب مني"؛ ولا يدعونهم أطباء بل "الرجال الثلاثة" (لوجود ثلاثة منهم فقط)؛ وعندما يشعر وزير الصحة بأنه ليس على ما يرام، يستقل أقرب طائرة إلى نيويورك لرؤية طبيب حقيقي. وفي حال احتاج أي من وزراء الحكومة إلى رعاية طبية فإنه يسافر إلى نيويورك للحصول عليها؟



لم يمضِ وقت طويل بعد الزلزال حتى حصلت أنتيغُا على استقلالها من بريطانيا، مما جعلها دولة في حد ذاتها. يفتخر المواطنون بذلك كل عام، ويذهبون إلى الكنيسة للاحتفال وشُكر الإله على ذلك، الإله البريطاني طبعاً! ولكن لا ينبغي أن تفكر في كل هذه الفوضى ولا حتى التفكير في المكتبة الخَرِبة، فقد أحضرت معك كتبك الخاصة، والتي من بينها، بطبيعة الحال، واحدٌ من تلك الكتب الصادرة حديثاً عن التاريخ الاقتصادي، والذي يشرح كيف أن الغرب (أي أوروبا، وأمريكا الشمالية بعد غزوها واستيطانها من قبل الأوروبيين) أصبحَ غنياً: أصبح الغرب غنياً لا العمل المجاني (والمجاني هنا تعني أُخِذَ بدون مقابل) -وبالتالي العمل المقوَّم بأقل من قيمته- لأجيالٍ ممن هم مثلي، ممن تراهم حولك الآن، بل أصبح كذلك بفضل فِطنة أصحاب المتاجر الصغيرة في شيفيلد ويوركشاير ولانكشاير وغيرها من الأماكن؛ ويا له من دور عظيم ذلك الذي لعبه اختراع ساعة اليد، لأنه ما من شيء لا يستطيع الرجال ذوي التفكير النبيل أن يفعلوه بعد اكتشافهم القدرة على التحكم بالوقت، فقط بهذه السهولة (ليس هذا بالقشة الأخيرة؛ لا علينا فقط أن نعاني من عبودية لا توصف، ولكن حتى مبرر قولنا "نحن من جعلكم أثرياء أيها الأوغاد" قد أُخِذَ منا)، ولذلك لا يجب أن تدع ذلك الشعور المضحك بعض الشيء والذي يراودك من حين لآخر عن الاستغلال والهيمنة والقمع يقودك إلى حالة من عدم الارتياح، والقلق؛ فقد يخرِّب عليك إجازتك. إنهم غير مسؤولين عمّا تملكه؛ ولستَ مديناً لهم بأي شيء. في الواقع، أسديت إليهم معروفاً، ويمكنك تقديم مئات الأمثلة على ذلك. تمر الآن أمام مقر الحكومة، ثم تجتاز مكتب رئيس الوزراء ومبنى البرلمان، وتتطلع على هذه المناظر، من بينها المنظر الرائع لمرفأ سان جون، والسفارة الأمريكية. لولاك أنت، فلن يكون لديهم مقر حكومي، ومكتب رئيس وزراء، ومبنى برلمان وسفارَة دولة قوية. تمر الآن أمام قصرٍ، منزلٍ غير عادي مطليٍّ بلون روث البقر، وعليه الكثير من الهوائيات، أكثر مما على السفارة الأمريكية. تقطنُ عائلةٌ تجارية في هذا المنزل، قدموا إلى أنتيغُا من الشرق الأوسط قبل أقل من عشرين عاماً. عندما وصلت هذه العائلة لأول مرةٍ إلى هنا، كان أفرادها يتجولون بين المنازل بحقائب يبيعون ما بداخلها من بضائع، يدورون بحقائبهم المحمولة على الظهر. اليوم لديهم الكثير من أنتيغُا. يقرضون الأموال للحكومة بشكل دوري، يبنون الكثير (لأنتيغُا)، الكثير من المباني الخرسانية القبيحة (في أنتيغٌا)، في عاصمة أنتيغُا، سان جون، ثم تأتي الحكومة وتستأجرها بمبالغ مالية ضخمة؛ أحد أفراد العائلة سفيرٌ لأنتيغا في سوريا؛ يكرههم الأنتيغوانيون. ليس بعيداً عن هذا القصر هنالك قصرٌ آخر، منزل مهرب المخدرات. يعرف الجميع أنه مهرب مخدرات، وإن صُودِفَ مرورك مع خروجه من القصر، فقد يقول لك سائقك انظر هذا هو الشخص سيء السمعة، يقول الناس أنه غني لدرجة أنه يشتري سيارات كثيرة من كل نوع –وأنه اشترى منزلاً (قصراً آخر) يوازي خمسة جزر بما فيها، بالمال الذي كان يحمله في الحقيبة: ثلاثمائة وخمسين ألف دولار أمريكي، أمام مفاجأة بائع المنزل، وبقي فيها الكثير من الدولارات. على مشارف قصر مهرب المخدرات هناك قصرٌ آخر، ويؤدي إلى أفضل طريق معبد في جميع أنحاء أنتيغا -أفضل من الطريق الذي تم تعبيده عند زيارة الملكة في عام 1985 (عندما جاءت الملكة، وُضِعَ قميصُ إسفلتٍ جديد على كل الطرق التي كانت ستعبرها، لتعود بانطباع أن ركوب السيارة في أنتيغا تجربةٌ ممتعة)؛ تعيش في هذا القصر امرأة يدعوها أبناء الطبقة الراقية إيفيتا، امرأة مشهورة. شابة وجميلة وخليلة شخص مهم جداً في الحكومة. تعود شهرتها لعلاقتها مع هذا المسؤول الحكومي الكبير والتي جعلتها مالكة لمحلات تجميل، وأملاك، وأعطتها صوتاً في اجتماعات مجلس الوزراء، وكل تلك الامتيازات المرافقة لمثل هذه العلاقة.



أوه، لكنك تعبت لكثرة ما نظرت، وتريد الوصول إلى وجهتك – إلى فندقك، إلى غرفتك. تتوق لإنعاش نفسك، لتناول بعض الجمبري اللذيذ، وبعض الأطباق المحلية الشهية. تأخذ دوشاً، تفرّشُ أسنانك. تتقمَّشُ من جديد؛ وتنظر من النافذة. الماء –هل سبق وشاهدتَ هكذا ماءً؟ بعيداً عند خط الأفق، لونه أزرق خاكي؛ أقرب قليلاً يصبح بلون سماء أمريكا الشمالية. من هناك وحتى الشاطئ لونه فضيٌ باهت ونقي، نقي لدرجة تمكِّنك من رؤية قاعه الأبيض-القرنفلي. يا له من جمال! حقاً يا له من جمال! لم يسبق أن رأيتَ هكذا شيئاً. أنت متحمس، تتنفس بهدوء، تتنفس بعمق. تُبصِرُ طفلاً جميلاً يركب الأمواج كالآلهة. ترى امرأة قبيحة، وسمينة، تشبه الفطيرة تتمتع بالتمشي على الرمل الجميل، يرافقها رجلٌ قبيح، وسمين، وأشبه بالفطيرة؛ ترى السرور على محياهما. واقفاً ترنو عبر نافذتك، تتخيل نفسك مستلقياً على الشاطئ، تستمتع بالشمس الرائعة (شمسٌ قوية ولكن جميلة، تبدو فوق رأسك وكأنها حارسك الشخصي، متهيبةٌ دائماً لدحر أي غيمة تفكر في تعكير صفوك أو إفراغ مطرها عليك مُفسدةً عليك إجازتك؛ الشمس صديقتك المقربة). تتخيل نفسك تمشي على الشاطئ، تقابل أناساً جدداً (جدداً بمعنىً محدود فقط، لأنهم نسخة عنك)، تأكل بعض الطعام المحلي الشهي. تتخيل وتتخيل... لا يجب عليك أن تتساءل ما الذي حدث بالضبط حين أفرغت ما في مرحاضِك. يجب أن لا تتساءل أين ذهبَ ماء الحمام عندما نزعت السدادة، ولا أن تتساءل ما الذي حدث حين فرّشت أسنانك. أوّاه، لربما ينتهي بك التفكير إلى أن كل هذا ذهب إلى الماء الذي ستسبح فيه؛ ربما، وربما فقط، ما كنت قد أفرغته في مرحاضك من خراءٍ يمسُّ ركبتك وأنت تخوض الكاريبي! فكما ترى، لا يوجد نظام صرف صحي مناسب في البلد. إلا أن البحر الكاريبي واسع والأوسع منه المحيط الأطلسي. قد تفاجئ أكثر فيما لو علمت عددَ من ابتلعهم هذا المحيط من العبيد السود. عندما تجلس لتناول طبقك اللذيذ، فمن الأفضل لك ألّا تعلم بأن جلَّ ما تأكله قادمٌ جواً من ميامي، وقبل أن يأتي من ميامي، وحده الله يعلم من أين أتى؟ التخمين الأفضل أنه أتى من مكان مثل أنتيغا، حيث بزرع بأرخص الأثمان، ثم طار إلى ميامي وعاد إلينا. هناك عالمٌ ما في هذا، لكنني لن أدخل في تفاصيله الآن.


إن الشيء الذي تظنه عن نفسك في لحظة تحولك لسائحٍ، صحيح: فالسائح إنسان بشع. لستَ إنساناً بشعِاً طوال الوقت. لست بشعاً عادةً؛ ولا يوماً إثر يوم. أنت لطيف من يوم لآخر. من يوم لآخر، يحبك كل أولئك الذين يفترض أن يحبونك. من يوم لآخر، حين تسير في شارع مزدحم في المدينة الكبيرة والعصرية والمزدهرة التي تقطنها وتعمل بها، ترتعب، تحتار (كليشه، ولكن الكليشه فقط يمكن أن تعبِّر عنك) في شعورك بالوحدة ضمن هذا الحشد، كم هو مروع أن تمر هكذا، مرور الكرام، كم هو مروع أن تكونَ غير محبوب، وإن كنتَ محاطاً بأناسٍ أكثر مما يمكن لك أن تعرفهم فيما لو عشت دهراً كاملاً، ثم تلمح من طرفِ عينك شخصاً ينظر إليك والسرور المطلق بادٍ على محيَّاه، ومن ثم تدرك أن حياتك ليست بهذا القدر من السوء (لأن هذه النظرة أوحت إليك بذلك). وهكذا، عادةً، أنت شخصٌ لطيف، شخصٌ جذاب، شخصٌ قادر على اجتذاب محبة الآخرين (آخرين يشبهونَك)، شخص من موطنك، من نفس لون بشرتك (نوع من... أقصد... بطريقة ما؛ أن رعبك وحيرتك بالنسبة لَك أمران طبيعيان، لأن أمثالك يشعرون بذات الشيء، والكثير من الأشياء التي تثير إعجابكم بأنفسكم –الأشياء التي تفكر فيها، الأشياء التي تظن بأنها تحدد هويّتك– تبدو مستندةً على هذه المشاعر): في موطنك، في منزلك (وكل تلك الأشياء الجميلة فيه) مع فنائه الخلفي الجميل (وأشيائه اللطيفة)، في شارعك، وكنيستك، وفي الأنشطة المجتمعية، ووظيفتك، وفي المنزل مع عائلتك وأقاربك وأصدقائك –أنت إنسانٌ مكتمل. لكن في يوم من الأيام، حين تكون جالساً في مكان ما، وحيداً ضمن هذا الحشد، ويخيِّم عليك ذاك الشعور المرعب بالتشرد، كشخصٍ عادي، –والحق أقول لك- أنت غير مهيأٍ لتنظر في أعماق نفسك ومواجهة مشاكلك، لأن كونك شخصاً عادياً هو بالفعل أمرٌ مرهِق، وأن تكونَ عادياً فهذا يخرج كل ما فيك، وعلى الرغم من أن كلمات مثل "لا بد لي من الابتعاد" لا تخرج من بين شفتيك، تقوم بقفزة تتحول فيها من مجرد بليدٍ لطيف يجلس مثل المعتوه في الكيس السلوي للتجربة الحديثة إلى شخصٍ يعودُ أكوامَ الموت والدمار، ويبعثُ فيكَ مرآها الحياة من جديد؛ لتغدو متمدداً على شاطئ ما في البعيد، يبدو للوهلة الأولى جسدك الساكن والمتعفن والمتلألئ على الرمال وكأنه شيء منسي، ثم استدُرِكَ، ثم ليس مهماً بما يكفي للعودة إليه؛ لتغدو متعجباً من التناغم (عادةً، ما ستقوله هو التخلف) والاتحاد مع الطبيعة لدى هؤلاء الأشخاص الآخرين (وهم أشخاص آخرون). وتنظر إلى ما يستطيعون القيام به بقطعة قماش عادية، التي يحيكونها من خيوط رخيصة، ذات ألوان مبتذلة (بنظرك)، إلى جلوسهم القرفصاء حول حفرة حفروها في الأرض، والحفرة نفسها، شيءٌ يجب أن تتعجب منه، وحال أنك غدوتَ شخصاً بشعاً، فإن هذا الفكر القبيح والمسلي سوف يتضخم داخلك: أسلافهم ليسوا أذكياء بنفس الطريقة التي كانها أسلافك، وليسوا عديمي الرحمة بنفس السوية التي كانها أجدادك، لذا، أليس من المفترض أن تكون أنت من يتناغمٍ مع الطبيعة والتخلف بهذه الطريقة الساحرة؟ شيء بشِع، هذا ما تكونه حين تغدو سائحاً، تغدو شيئاً بشعاً، شيئاً فارغاً ، شيئاً غبياً، تافهٌ يتوقف هنا وهناك ليحدِّق في هذا ويتذوق ذاك، ولن يخطر لك مطلقاً أن الناس الذين يسكنون المكان حيث توقفت للتو لا يستطيعون هضمك، أنَّهم يضحكون عليك وعلى غرابتك وراء أبوابهم المغلقة (مظهرك مختلف)؛ منظرك لا يرضيهم؛ لديك سلوكيات سيئة (من عادتهم أن يأكلوا طعامهم بأيديهم؛ تحاول أن تقلدهم، فتبدو سخيفاً؛ وتحاول أن تأكل بطريقتك المعتادة، فتبدو سخيفاً!)؛ إنهم لا يحبون طريقتك في الكلام (لديك لهجة)؛ يقعون مغشياً عليهم حين يقلدون الطريقة التي من الممكن أن تنجز بها بعض الوظائف اليومية. إنهم لا يحبونك. إنهم لا يحبونني! لا تخطر هذه الأفكار على بالك في الواقع. ومع ذلك، تشعر أنك مهمومٌ قليلاً. ومع ذلك، تشعر أنك أحمق بعض الشيء. ومع ذلك، تشعر أنك خارج المكان إلى حدٍ ما. لكن تفاهة حياتك الخاصة حقيقيةٌ جداً بالنسبةِ لك؛ لقد أوصلتك إلى هذا الحد، لتقضي أيامك ولياليك بصحبة أشخاص يحتقرونك، أناساً لا تحبهم حقاً، أشخاصُ لا تريدهم أن يكونوا جيرانك. لذا يجب أن تكرس نفسك للتفكُّر بسؤال "أيٌّ مما قيل لك صحيح حقاً؟" (هل فعلاً علبة الفول السوداني شهية هنا؟ أو ستكون مثلها مثل غيرها؟ هل ستثير لك هذه السمكة النادرة، ذات الألوان المتلألئة، والفم القوقعي فعلاً الشهوة الجنسية، أم أنها سوف تسبب لك نومة أهل الكهف؟). أوه! وينتج عن ذلك عند عودتك إلى وطنك، ولا عجب، أن تشعر بالحاجة لنقاهةٍ طويلة، بحيث يمكنك التعافي من حياتك كسائح؟

لا يحب السكان الأصليون السيّاح، ولا يصعب تفسيره هذا، فكلُ ابن بلدٍ ما هو سائحٌ محتمل، وكلُ سائحٍ هو ابنُ بلدٍ ما. يعيشُ أحدُنا حياةً مليئة بالتفاهةِ والضجرِ والقنوطِ والكآبةِ، وكلُ فعلٍ، جيداً كانَ أو سيئاً، هو محاولةٌ لنسيانِ هذا. كلٌ يرغبُ في العثورِ على مخرجٍ، كلٌ يرغبُ في الراحة، كلٌ يرغبُ بالقيام بجولاتٍ سياحية. لكنَّ بعضهم –وهم معظمُ السكانِ الأصليين في العالم- لا يمكنُهُ الذهاب إلى أي مكانٍ. إنهم جدُّ فقراء، أفقر من أن يذهبوا إلى أي مكان. أفقر من أن يهربوا من واقع حياتهم. فقراء لدرجةِ أن ليسَ بوسعِهم العيش بشكلٍ لائق في المكانِ الذي يعيشونَ فيه، وهو بالمناسبة المكان الذي ترغب في زيارته حضرة السائح، عندما يراك الناس، يا حضرة السائح، يحسدونك، يحسدون قدرتك على هجرِ تفاهتِك وضجرِك، ويحسدونَ قدرتك على تحويلِ تفاهتِهم وضجرِهم إلى مصدرِ متعةٍ لك.

يُتبَع

コメント


bottom of page