top of page
صورة الكاتبAnas Ad

حوار مع علاء اللّامي: نقدُ الجُغرافيا التَّوراتيّة خارج فلسطين

حاوَرَهُ: أنس الأَسعد

جَلَسَ الموتُ والقُوّة، بيدِه صولجانُ الثُّكْلِ، وباليدِ الأُخرى صَولجانُ التَّرمُّل... قامَ الزّابرون يزبرونَه ككرمَةٍ، والصّامدون يصمدونه ككرمةِ يقتلعونَه من الحَقلِ... سبع مرّاتٍ يُعزَفُ على ضربِ العودِ، انظروا الثّدي، الثّدي الإلهي، ثدي أشيرة وعناة... سبع مراتٍ يطبخُ الفتيانُ على النّار جَدياً بحليبِ أُمِّه والنعناع والزّبدة!
ملحَمة: مولد الآلهة، السَّحَر والغَسَق، تر: أنيس فريحة
 

-1-

سِجالٌ مفتوحٌ، هو التوصيفُ الأشملُ الذي يُمكنُ أنْ نَصِفَ بِهِ الكِتابَ الأخيرَ للكاتبِ والباحث العراقي علاء اللّامي (1955م) والذي حملَ عنوان: نقد الجُغرافيا التّوراتيّة خارج فلسطين، ودراسات أُخرى (240ص، الانتشار العربي، بيروت 2021) كتابٌ يبدو أنّ صاحِبَه أرادَ لهُ استكمالَ رحلةٍ بحثيَّة كان قد كثّفها في سنواتِه الأخيرة حول موضوعَةِ التَّأريخِ الفلسطينيّ، وذلك من خلال كتابٍ سابق عَنْوَنَهُ بـ: موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التّاريخ وحتّى الفتح العربي الإسلامي، 2019.


ولمَّا كُنّا أمامَ جُزءٍ ثانٍ يتخلّلُ عمليةَ التَّأريخ تلك، يصيرُ السؤالُ لازماً عن التّفاصيل التي تَميزُ العَملين عن بعضِهما؟ وما الأهدافُ التي شرعَ اللامي يُنجِزُها معَ هذه العطافة من اشتغاله في حقول الرّاهن أدباً وسياسةً، إلى التّوجُّه نحو تَفحُّصِ الأحافير التّاريخيّة وإشكاليّاتها الأكثر تعقيداً؟ أم أنّ لا انفصامَ بين هذه الحقول المُلِحَّة والمُتواشجة، فهي بطبيعة الحال لا يُمكِنُ أن تُؤْخَذَ على أنّها جُزُرٌ معزولة؟


امتثَلَ اللّامي، أو لِنَقُلْ لعلّه التزامٌ شخصيٌّ، لمنهجِه التّاريخيّ الآثاريّ (الأركيولوجي) الذي أرادَ أن ينتصرَ له في وجهِ موضوعِه النّقديِّ الأرأس في هذا الكتاب أي «الجُغرافيا التّوراتيّة خارج فلسطين» وبوجهِ الأسماء التي تبنّتْ حملَ لواء هذه المقولة، مُؤْثِرةً منهجيّةً أُخرى لا-تاريخيّة إلى التأثيل اللُّغوي (إيتمولوجيا) أقرب، وللمُنافَحة عنّه أشدّ حماسة، حتّى استحالتْ مَدرسةً عريضةً لها مُناصِروها وإِعلامُها وأَعلامُها، في وقتٍ تحتاجُ أفكارٌ أخرى أحياناً لفتَرَاتٍ أطولَ لتنتشرَ كُلَّ هذا الانتشار، فهل قُلنا: إنَّها إحدى تجلّياتِ اللَّا-عقلانيَّة التي أخذتْ تُغلّفُ مناهجَ التّفكير عالميَّاً، لا عربيَّاً فحسب، في الرُّبْعِ الأخيرِ من القرنِ العشرين، وما أسباب انتعاش هذا التّيار؟


عند هذا الحَدِّ، ولِمُسايرة فصول الكتاب النّقدية، علينا العودةُ أوّلاً، إلى عام 1985 للتَّذكير بتاريخ صدور الطَّبعة العربيّة الأُولى من كتاب المُؤرِّخ اللّبناني كمال الصّليبي: التّوراة جاءت من جزيرة العَرَب، (تر: عفيف الرّزاز) الذي أثارَ ضجّةً بمحتواه الصّادم لِمَا عُدَّ من بَدَهيّات الدِّعاية الصهيونيّة وتلفيقاتِها المُدَّعاة في المحافل السياسيّة والأكاديمية العالميّة. وصحيحٌ أنَّ نظرية الصليبي أُوِّلَتْ بشكلٍ شاذٍّ على أنّها دعوةٌ مُقترحَة لاختيار وطنٍ قوميٍّ آخرَ للصهاينة غير فلسطين، بيد أنّ الصّليبي كان صارماً في تفنيد هذه الإساءة أيّما كانت نيّةُ القائلينَ بها، لأنّه أساساً قد نَظَرَ إلى بني إسرائيل بوصفِهم شعباً مُنقرِضاً لا علاقة له بيهودِ اليوم، لكنّه في الوَقتِ عينِه لم يُزَعْزِعْ إيمانَه بنظريّته، وأصَرَّ عليها كما تُظْهِرُ مقابلةٌ له من أواخر المُقابلات قبل أن يُتَوفّى (2011م) أجراها معه الباحثُ الفلسطيني زياد مُنى، هذا الأخير الذي تابَعَ بدوره ذاتَ المسيرة والنّهج بكتابٍ عنونَه بـ: جغرافية التوراة – مصر وبنو إسرائيل في عسير.


لم تَكُفَّ شجرة التّفاح النيوتينية –والتوصيف للّامي – عن التَّداعي والسُّقوط منذ الـ1985، فبعدَ أن تجسّدت إحداها على شكلِ: مُعجمِ اليَمامة التّاريخي الذي اعتمدَه الصَّليبي أداةَ مُقارنَةٍ بين الجُغرافيا التَّوراتية من جهة والجُغرافيا العسيريّة من جِهة أُخرى، ها هي تُفاحاتٌ أُخَرُ – منها كِتابُ: الإكليل للهمداني- تَنهَمِرُ على رأسِ الحُجّة المُعاصرة لتيّار «التّوراة اليَمنيّة» إنْ صَحّتِ التَّسمية، ونقصدُ الكاتِبَ والباحثَ العراقيّ فاضل الرُّبيعي صاحبَ الباع الطّويل والتأليف الغزير في هذه الموضوعة، والذي له عَظيمُ أَثر بين المقروء والمرئيّ في العملِ على تجذير قراءَتِه التَّوراتية في الجُغرافيا اليمنيّة على وجهٍ خاص.


لكنْ، في الوقت الذي أخذتِ النَّظرية اليَمَنيّة تُمكّنُ لنفسِها صفوفاً داخل الإطار المَنهجيّ والمدرسيّ الفقه لُغَوي الذي دَشّنَهُ الصَّليبي، وقبلَ أن تُصبحَ النّظريةُ المُتّهَمَةُ بالسعي لخلقِ وطنٍ بديل لليهود - على تهافُت وضَحالة هذا الاتِّهام طبعاً- نَظريةً مُتَّهِمَةً لغيرِها ولكلّ من يأتي بخاطرٍ على انتقادِها، بأنَّهُ هو مَن يتبنَّى المَقولة الصّهيونية! قبل ذلك إذن، كانَ هناكَ مَساقٌّ نقديٌّ بدأَ يشقُّ طريقَه في تقويضها جدِّيَّاً، مَساقٌ يعتمدُ المنهجيّة التاريخيّة الآثاريَّة بدأَه الباحث والمؤرِّخ السُّوري فراس السّواح بكتابِه النّقديّ والمباشَر المُعَنْون بـ: الحدَث التّوراتي والشّرق الأدنى القديم 1997، يقول السّواح في مقدمته النّقدية: (لقد أدركَ الدكتور الصّليبي أنّ الدِّفاعَ عن تاريخيّة التوراة وفق المعطيات العلمية مسألةٌ خاسرة فقامَ بالتفافة بارعة على المُشكلة برمّتها ونقلِ مسرح الحدث التَّوراتي في فلسطين إلى غربيّ شبه الجزيرة العربية).


عليه، نجد أنّ كلامَ السَّواح يُمثّلُ اشتباكاً صريحاً مع الصِّليبي من حيث أنّ هذا الأخير أرادَ تأريخَ الأُسطورة التَّوراتيّة وخلقَ جغرافيا حقيقيّةٍ لها تستوعبُها، بعد أن باءت كلّ محاولات الاستدلال الحقيقيّ والواقعيّ على أرض فلسطين بالفشل، بمعنى آخر إنّ نقدَ السّواح للصليبي غيرُ مَعنيٍّ أبداً لا بالأُطُر الجغرافية، ولا بحملِ أضغاثِ الأيديولوجيا المأزومة والخرافة الصهيونيّة عبئاً على ظهره ليسُوحَ فيها بين الفراغات والأمكنة، مُستعيناً على ذلك بأحابيلَ لُغويّةٍ فيها الكثيرُ من التَّخيُّلِ والقليلُ من العقل. على ضوءِ ما سبق، تستضيفُ المُتَلَمّس الكاتب علاء اللامي للحديث عن مؤلَّفه الأخير بشكل أقرب.

 

-2-

* حبّذا لو قرّبنا الجوَّ المعرفي للكتاب من القارئ، وعن علاقتِه باشتغالاتِك الأثرية (الأركيولوجيا)، بوصفِها التيّار الذي تنتصر له – أنتَ مثلاً تنتقدُ الاسمَ الأبرز لتيّار «التّوراة اليَمنيّة» الكاتب فاضل الرّبيعي وأنّه جاء من خلفية أدبية وصحفيّة، في حين أنّك لستَ بعيداً عن هذه الأجواء ولكَ في الأدب والشعر أعمالٌ!

** ربّما يكون من المفيد أن أوضح أنني لا أعتبر نفسي منحازاً من الناحية البحثية إلى تيار أو مدرسة محددة بعينها؛ كأن تكون الآثارية "الأركيولوجية"، أو اللسانية بمختلف أنواعها وتفرعاتها، أو الإناسية "الانثروبولوجية"...إلخ، إنما أحاول ضمن وخلال منهجيتي ومقارباتي لموضوعات كتبي، ومنها كتابي هذا والكتب التاريخية القريبة منه، الاستفادة من جميع المدارس والتيارات والمنهجيات البحثية القديمة والحديثة التي أراها أكثر فائدة وتأثيراً في تحريك وتعميق وتوسيع مقارابتي البحثية في عدة اتجاهات ضمن محور منهجي رئيس واحد يتفرع باستمرار، مع إيلاء علم الآثار أهمية خاصة بعد أن جرى إهمالُه أو اعتماده بشكل لا يتناسب مع أهميته وفائدته البحثية، مُستقبلاً ربما سأولي أهميةً مماثلة لعلم المورثات الجينية رغم صعوبة وتخصصية هذا العلم الحديث الصاعد والمتفاقم الأهمية وعدم الاكتفاء بالتفسيرات الإتيمولوجية التأثيلية والتي باتت كما قلت أشبه باللعب بالألفاظ والكلمات يعبث بها كل من يجيد القراءة والكتابة!


وكنت قد أشرت - وإنْ بشكل غير مباشر في هذا الكتاب - إلى أن واحدة من نقاط الضعف المنهجية لدى بعض الباحثين في موضوع جغرافيا التوراة، تعويلهم على المنهجية التأثيلية اللغوية "الإتيمولوجية"، دون سواها، وإلى درجة مبالغ في سطحيتها وخفتها؛ وضربتُ أمثلة على ذلك من كتب الصليبي والربيعي وغيرهما، حتى صارت هذه "التأثيلية" مثيرة للعجب والهزء! أضف إلى ذلك أن أصحاب نظريات التوراة العسيرية أو اليمنية ورغم كلامهم المكرر والناقد للرواية التوراتية ولكنهم لو أمعنَّا النظر بمقولاتهم فإنّهم توراتيون ومن النوع المحافظ جداً لأنهم يعترفون بتأريخية التوراة الكاملة أو الجزئية ولكنهم يشكّكون أو يرفضون جغرافيتها فقط لينقلوها الى إقليم عسير أو اليمن بقضّها التوراتي وقضيضها، وكتبهم تكتظّ بالاقتباسات التي تمتح التأييد لنظيرياتهم تلك من نصوص التوراة؛ بكلمات أخرى: فهم لا يرفضون تأريخية التوراة ولا يرون فيها رواية خرافية ذات أهداف أيديولوجية تبريرية سلطوية أحياناً وتأسيس دينية أحياناً أخرى، وبهذا هم لا ينسفون الأساس التوراتي للرؤية والرواية الصهيونيتين كما نفعل نحن معشرَ نقاد الرواية التوراتية الجذريين والرافضين لتأريخيتها والكاشفين لتلفيقيتها بل هم يحاولون عملياً أن يعطوها مصداقية أكبر وبذلك فهم لا يختلفون عن التوراتيين المحافظين في التاريخ والأيديولوجيا والانثروبولوجيا والثيولوجيا بل في الجغرافيا وحسب ولكنهم عبثاً يفعلون!


أما بخصوص ملاحظتك حول إشارتي في الكتاب إلى خلفية الكاتب فاضل الرّبيعي الأدبية والصحفيّة فلم يكن القصد منها الانتقاص من الرجل بل هي أقرب إلى التعريف بخلفيات الباحث الذي تناولتُ بالبحث النقدي منجزه التأليفي، مثلما يفعل الناقد الأدبي حين يعرف بشاعره المنقود؛ فيقول إنه طبيب وشاعر في الوقت نفسه، في محاولة لتأكيد ملمح ما في نقده نتاجه الشعري؛ والربيعي يكتب ويتحدث في الإعلام بأسلوب لغوي أقرب إلى أسلوب الصحافة الأدبية والسّجالية السياسية منه إلى لغة البحث التخصصي الآثاري والتاريخي الذي يحتاج إلى لغة بحثية صارمة وتوثيق شديد الدقة، لغة ينبغي أن تنأى عن تهويمات اللغة الأدبية المفتوحة على التأويل والبلاغة أكثر من قربها إلى التعبير العلمي التجريبي المحايد وصعب التأويل، وهذا ما جعل تجربة الربيعي الكتابية "تتخذ شكل حملة إعلامية سجالية ذات نفحة أدبية وأيديولوجية دؤوبة وكثيفة، أكثر منها محاولة بحثية متأنية ومتعمقة"، كما قلت مستنتجاً في وصفي لتجربته في تلك الفقرة.


وأصارحُك القول إنني عانيت شخصياً من هذا الإرث أو الخلفية الأدبية والسجالية في محاولتي لامتلاك واستعمال أسلوب لغوي يليق بالانشغالات العلمية التي شرعت فيها، أسلوب لغوي ينأى عن "الأكدمة" المبالغة في التعقيد والتقعر الاصطلاحي من جهة، وفي ذات الوقت يحاذر من السقوط في التبسيط الصحافي المحايث للتسطيح والخطابة، لكوني من خلفيات أدبية وصحافية أيضاً، ولا أدري إلى أي درجة نجحت أو أخفقت في صناعة وامتلاك أسلوبي اللّغويّ والتعبيري العلمي في كتابة فصول هذا الكتاب.


*بشكل عامٍّ، هل تجدُ نفسكَ قد وُفِّقْتَ باختيار عنوان كتابكَ مُحدَّدَاً بـ«خارج» فلسطين، وإلى أيّ حدٍّ تُسَاءُ قراءةُ ذلك التَّحديد، وكأنّها دعوةٌ إلى عكس ذلك أي «داخل» فلسطين؟


** أعتقد أنني، كنت أقرب إلى التعبير عن مضمون الكتاب باختياري لهذا العنوان؛ فمقولة الكتاب الرئيسة أو قاعدته النقدية الأشخص هي رفض المضمون الذي يذهب أصحابُهُ إلى القول إنَّ الجغرافية التي احتضنت القصة التوراتية وتاريخ شعب بني إسرائيل القديم هو إقليم عسير في المملكة العربية السعودية أو اليمن، ضمن محاولة تفنيد هذه الرؤية والنظرية وتأكيد ما يخالفها وهو أن جغرافية التوراة الحقيقية هي وسط فلسطين ومحيط فلسطين الرافديني والمصري بوصفها قلب ما نسميه اليوم إقليم الشام والذي كان قديماً منطقة تنازع على النفوذ بين القطبين الرافديني والمصري، وأن القصة التوراتية بمجملها هي جزء صغير من تاريخ فلسطين الألفي وليس العكس كما تحاول الرواية التوراتية أن ترسخ - وقد نجحتْ في ذلك مع الأسف الشديد - مقولةً تفيد أن تاريخ فلسطين ليس إلا هامشاً و جزءاً من التاريخ التوراتي وما هي كذلك. وكان شاغلي الأول في كتابي السابق لهذا الكتاب والذي يحمل عنوان "موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ وحتى الفتح العربي الإسلامي"؛ والتي كانت دراسات الكتاب الجديد جزءاً منه قبل أن أقرر فصلهما في كتابين منفصلين بعد أن تضخم الكتاب الأول كثيراً، هو المساهمة في مهمة قلب هذه المعادلة التوراتية المتعسفة وتأكيد نقيضها القائل: إن تاريخ التوراة وحكاية شعب بني إسرائيل شبه المنقرض هي هامش وجزء صغير من التاريخ الفلسطيني الألفي.


* بشكل خاص، أثار مضمونُ كتابِك نقوداتٍ عدّة، فالكاتب الفلسطيني محمد الأسعد ذهبَ في مقالته التفنيديّة «الجغرافيا الفلسطينيّة ليست توراتية» إلى أنّكَ تُؤَسِّسُ قراءَتك على كتابات الآخرين من أمثال وليم أُلبرايت وجيوفاني بيتناتو وهؤلاء أساساً ينتمون لتيّار «علم الآثار التّوراتي»، وفي أحسن الأحول الجانب المُعقلن من هذا التّيار مثل إسرائيل فنكلستاين، ما عدا أنّكَ تعتمدُ الإسرائيليّات (الطبري وابن كثير) في مصادرِكَ الإسلاميّة، وكذلك لا تُحيطُ عِلماً باشتغالة عالم الآثار المصري أحمد كمال باشا (1851 - 1923) الذي أثبتَ عروبةَ اللغةِ المصرية القديمة في معجم من 22 مُجلّداً، فما ردُّك؟


** لا أميل إلى التعليق على النقود والكتابات الصحافية التي تخلو من أركان وشروط الكتابة البحثية كالتوثيق الدقيق والوضوح في الطرح والدقة في الصياغة والأمانة في الاقتباس؛ ولكنّني سأدلي ببعض الملاحظات حول هذه المقالة لأنك سألتني عنها: أعتقد أن المقالة التي نشرها السيد محمد الأسعد في صحيفة "العربي الجديد" مؤسفةٌ جداً، ولا تنتمي إلى النقد الجاد والرصين بل هي تفتقد حتى إلى الأمانة في الاقتباس وإلى انعدام الدّقة في قراءة الكتاب المنقود؛ وكأن همَّها الأول هو توجيه الاتهامات السياسية وليس القراءة النقدية المنتجة لكتاب لا دخل مباشراً له بالسياسة. فمنذ عنوان مقالته الذي يقول "الجغرافيا الفلسطينيّة ليست توراتية" ثمة اتهام ضمني لكتابي بأنه يريد القول إن "الجغرافيا الفلسطينية توراتية" وهذا سوء فهم كبير إذا تساهلنا ولم نقل إنّه افتراء خَطِر، فكتابي لا يقول ذلك، بل هو يقول بكل بساطة إن المكان الحقيقي للقصة التوراتية من حيث بَدءُها وجزءٌ من سيرورتها هو جزءٌ قد يصل إلى ربع مساحة فلسطين الكبرى، أو فلسطين التاريخية كما تسمى أحياناً، وهو تحديداً وسط فلسطين، ولفترة بضعة قرون من تاريخ فلسطين الألفي، وهذا إنْ دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على فشل كاتب تلك المقالة في قراءة الكتاب قراءة أمينة وفي فهمه فهماً صحيحاً.


وسأعطيك مثالين آخرين لتأكيد سوء الفهم الذي وقع فيه الكاتب؛ فهو مثلا يتهمني بتبني آراء بعض الكتاب والباحثين لأني أوردت أسماءهم واقتبست عنهم؛ دون أن يتعب نفسه قليلا ويقرأ لماذا فعلت ذلك وكيف، فيكتب مثلاً (ولكنّ القراءة الشاملة لهذه "القراءة النقدية" كشفت لي أنها لا تقوم على أساس احتكامٍ إلى وقائع وأدلّة وتوثيق محكم ومنهجيّة دقيقة، بل يؤسسها صاحبها على ما تقوله كتابات آخرين، وبعضهم ينتمي إلى ما يُسمى "علم الآثار التوراتي" الذي لا يمت للعلم بصلة، لأنّه يسعى إلى إثبات "صحّة" تصوّراتٍ مسبقة ثابتة في أذهان أصحابه مصدرها الخطاب التوراتي ولا تغايرها أيّ مكتشفات معاكسة من أيّ نوع، من أمثال وليم أولبرايت)، فهل ما يقوله الكاتب هنا صحيح وأمين؟ لنقرأ ما كتبتُهُ عن وليم أولبرايت في سياقه (وربما تميز وليم أولبرايت أكثر من غيره "باستخدامه خطاباً لاهوتياً تبريرياً مستخدماً علم الآثار الفلسطيني لدعم تاريخية المرويات الكتابية، وهو الخطاب الذي هيمن على دراسات العهد القديم حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي..")! هنا في هذا المقتبس، والذي ضمنته عبارة صائبة في نقدها لأولبرايت للباحث الفلسطيني محمود الصباغ وضعتها بين مزدوجتين صغيرتين، اعتبرتُ أولبرايت ضمن حَمَلَة الخطاب التوراتي اللاهوتي الذي أنقدُه وأفكّكُ مضامينه بقوة في طول كتابي وعرضه، وفي الفقرات التالية لهذه الفقرة وضّحتُ أكثر أنني أنحاز لا إلى خطاب أولبرايت التوراتي، بل إلى ما قدمه الباحث توماس طومسن! فهل قرأ كاتب المقالة هذه الفقرة التي ورد فيها اسم أولبرايت بشكل صحيح وأمين؟


المثال الثاني؛ يكتب كاتب المقالة بكل راحة بال (أما القول بأن الاسم "أورشليم" واردٌ في آثار مدينة إيبلا فلا يقلّ خطأً عمّا سبق، لأنّ القائل بهذا كان الإيطالي بيتيناتو في تقارير أخرجها للصحافة ودحضها فيما بعد رئيسُ البعثة الإيطالية باولو ماتيه). يكتب الأسعد ذلك دون أن ينتبه إلى أنني دحضت ما قاله بيتيناتو بقوة وفنّدتُ فكرتَه الرئيسة مستعيناً في ذلك بالنقد المهم والساخر للباحث بيتر كريغ لأطروحات بيتيناتو، وختمتُ نقدي على الصفحة نفسها التي اقتبس منها الكاتب بالقول: (وبعد مرور عقدين من السنوات على كلام كريغ هذا، لم يخرج باحث رصين أو مؤسسة علمية مهمة وذات صدقية بأي تأكيد أو تأييد لادعاءات بيتيناتو تلك وتمّ إهمالُها حتى من الباحثين التوراتيين أو المتديّنين المسيحيين المتلهفين لأية أدلة كهذه)! وفي التفاصيل أقول؛ لقد أوردتُ اسم جيوفاني بيتيناتو في معرض نقدي وتفنيدي لما ذكره عن وجود آثار تحمل اسم النبي إبراهيم وأنبياء آخرين وليس لتأييده أو للاقتباس منه لتأكيد شيء ما بل لدحض ما قاله، وقد كتبت بهذا الخصوص هذه الفقرة (أما ما قيل عن وجود أثر يحمل اسم "إبراهيم" في "ألواح إيبلا" التي قرأها العالم الإيطالي جوفاني بيتيناتو، والمنسوبة الى القرن الخامس عشر ق.م، وزعم أنه عثر فيها على ذكر أسماء الأنبياء التوراتيين ابراهيم واسماعيل وداود، فهذه الألواح لم تحظَ بتأكيد أو تأييد علمي رصين والضجة التي أثارتها في السنوات الأولى لاكتشافها أواسط السبعينات من القرن الماضي بين أوساط المؤيدين لتاريخية التوراة وخصوصاً سفر التكوين فيه انطفأت تماماً، ولم يعد يهتم بها حتى التوراتيون الباحثون بلهفة عن أي أثر حاسم من هذا النوع)، وسأكتفي بهذين المثالين فما قيل فيهما ينطبق على غيرهما، فهل هذا نقد يستحقُّ التوقف عنده بجدية وصاحبه لا يحسن قراءة ما ينقده ولا يقتبس منه بأمانة ولا يوثّق لما يقتبس ويذكر من آراء ووقائع؟


وأخيراً فإن مشكلة بعض الخائضين في هذا الموضوع التاريخي والآثاري - كما يبدو واضحاً - هي تكرار خطاب سياسي أيديولوجي ينفي مسبقاً أية صلة للتوراة واليهود وبني إسرائيل بفلسطين، ويشكّك بوجود أيّ أثر أو دليل على وجودهم فيها ويرفضه، وقد وجد أن الحل الأسهل أمامه هو أن يقوم بنقلهم هم وتوراتهم إلى عسير أو اليمن للتخلص منهم على طريقة النعامة، وهذه طريقة مضحكة وضارة في آنٍ واحد دع عنك إنّها لا تمتُّ للعلم والمنهجية العلمية بصلة وتتعكز دائماً على حجة تزوير الوثائق والآثار المادية أو الأخطاء في الترجمة وهذه أمور لا يمكن نكران وجودها في أي حقل معرفي علمي ولكنَّه لا يمكن أن يكون الأسلوب الوحيد في السجال والتأليف العلمي ثم أن الآثار المزوّرة والمترجمة بشكل خاطئ معروفة ومعلنة ومنها مثلاً الأدلة التي أسست لخرافة أنّ مدنية أور السُّومرية والتي يسمّيها التّوراتيون "أور الكلدانيين" في جنوب العراق هي مسقط رأس النبي التوراتي إبراهيم!


ورغم أنني كررَّت أنَّ "بني إسرائيل" أو "العبرانيين" هم شعب شبه منقرض - لم أقل منقرض تماماً كما قال الراحل كمال صليبي بسبب وجود بقية منه تتمثل باليهود العرب أو المزراحيم - ولا علاقة لهم باليهود الإشكناز والخزر في غالبيتهم الساحقة الموجودين اليوم في فلسطين المحتلة، وبناء على ذلك فإنّ مزاعم الصهاينة في أحقيّتهمُ الإلهية التوراتية بفلسطين تعتبر ساقطةً تاريخياً وأنثروبولوجياً وحتى سُلالياً كما أثبتت الدراساتُ الجينية الوراثية ولكنْ ما أسهل توجيه الاتهامات دون دليل موثق!

إنّ محاولة نفي جغرافية التوراة في جزء من فلسطين، والاحتفال الأيديولوجي الصّاخب والمجاني بالّنظريات العسيرية واليمنية - مع وافر احترامي لجهود الباحثين الذين أسّسوا لها أو تبنَّوها لاحقاً - ليس من العلمية في شيء، ولا يمكن الدفاع عنها بهذه الطريقة غير الأمينة في قراءة ما يكتبه الآخرون، بل بالرد الرصين والمتماسك وبذكر الأدلة والأسماء والتواريخ والتوثيق الدقيق لما يقال؛ فلا يكفي أن يقول الكاتب مثلا "وقد فند العلماء هذه النظرية منذ زمن بعيد" أو "وقد أثبتوا أن هذا الأثر مزور" بل ينبغي أن تذكر أيّة نظرية أو أثر تقصد، ومن هم أولئك العلماء وفي أيّ كتاب وردَ تفنيدُهم مع ذكر رقم الصفحة وفق التقليد الأكاديمي المعهود والذي يعرفُه حتى طالب الثانوية وعدم الاكتفاء بالهجاء الإنشائي والخطابات الأيديولوجية فهذا ليس محلها مهما كانت مشروعة ومفيدة في التحشيد الجماهيري. ولعل الأكثر إضراراً بقضايانا العربية في ميدان الكتابات التاريخية والاجتماعية هو الخطاب الصوتي المحتكم الى الغريزة والانفعال والبلاغة لا إلى العقل والدليل والمنهجية العلمية الموثقة. والغريب أن الباحثين المعنيين بنقدي في هذا الكتاب لم يكلّفوا أنفسهم عناء الرد على ما أوردتُه من آراء وأدلّة وحجج فإذا كان الرّاحلون عن عالمنا كالباحث كمال الصليبي معذورين لعدم الرّدّ لهذا السبب فما حجة الآخرين الأحياء؟


الملفت أن الكاتب محمد الأسعد في مقالته تلك، يحتج مثلاً بأن توماس طومسون وكيث وايتلام نقَدَا الخطاب التوراتي أيضاً كما فعل علاء اللامي دون أن ينقدا أو يحاولا تفنيد نظريات صليبي أو الربيعي وغيرهما، فمن قال لنا إنَّ طومسون ووايتلام اطَّلعا أصلاً على كتابات القائلين بجغرافيا التوراة العسيرية السعودية أو اليمنية ووافقا عليها؟ أم أن سكوت طومسون أو وايتلام عن نظرية أو كتاب ما يعتبر حجةً وتأييداً لمؤلّفه؟ وبالمناسبة، فكتاب وايتلام الذي أطريتُه بإنصاف في مقدمة كتابي صدرت ترجمته قبل أربعين عاماً وليس بالأمس القريب، ولم يهتمَّ به الباحثون العرب إلا نادراً رغم أهميّته الفائقة والتي هي مدعاةٌ إلى أن يهتمَّ الإخوة الرسميون وغير الرسميين الفلسطينيون به ويعيدوا طباعته ونشره، بل ويمكنُهم حتى الاستفادة منه في برامجهم التعليمية والتثقيفية!


أما بخصوص ما ذكرتُه في سؤالك عن عالم الآثار المصري أحمد كمال باشا وكونه "أثبتَ عروبةَ اللغةِ المصرية القديمة في معجم من 22 مُجلّداً"، فلا يمكنني الحكمُ عليه أو تقييمُه لأنني لم أطّلع عليه ولكنّي أرجّحُ - مجرد ترجيح - أنه لو كان ذا قيمة ورصانة علمية تأثيلية وتطبيقية لحظي باهتمام ما وذاع صيتُه وتُرجِم إلى اللغات الأجنبية من قبل الباحثين "المصرياتيين"، ولكن ومن الناحية التطبيقية فإنّ الكلمات المشتركة بين العربية والفرعونية نادرةٌ جدّاً ومن الصعب المشابهة بين الألفاظ الفرعونية والأخرى العربية حتى من حيث المذاق الصوتي والنبري، وربما لا يختلف هذا المعجم كثيراً عن كتاب الليبي علي فهمي خشيم الذي حاول فيه تأكيد "عروبة اللغة الأمازيغية" وقد قرأته بإمعان فلم يقنعني البتة بأدلّته ونظريته. وأرجّح أن هذه النظريات لا تخلو من النّزعة القوموية الإثنية التي تريد تعريبَ كلّ شيء في الوجود فالأمازيغ عرب والفراعنة عرب والأكراد عرب وهذه النزعة الآيديولوجية "الإثنية" لا حظَّ لها من العلمية وآملُ أن لا يكون معجم أحمد كمال باشا من هذا النوع.


وأخيراً فكتُبُ الطّبري وابن كثير هي موسوعات تاريخية فضفاضة لا غنى عنها لأيّ باحث جاد وليس صحيحاً أنهما قائمتان على الإسرائيليات فقط وينبغي لمن يوجّه هذا الاتهام أن يحدّد بالضبط الاقتباس المشوب بالإسرائيليات وأين وردَ حتى يتسنّى ليَ الردُّ عليه لا أن يكتفي الناقد بالقول (كما أن المؤلّف يعتمد على تفسيرات أمثال الطبري وابن كثير للقرآن الكريم، وهي تفسيرات منقولة عمّا يسمى "الإسرائيليات" ولا يمكن أن تكون شواهد علمية)، كما فعل الأسعد. لقد استعنتُ بكتب التراث ومنها تاريخ الطبري والبداية والنهاية لابن كثير مثلاً للردّ على مزاعم يوسف زيدان الزاعمة أنّ المسجد الأقصى ليس في مدينة القدس بل في منطقة الجعرانة على مسافة 25 كم من الحرم المكّي، وللرد على أحد المتصهينين الكويتيين هو عبد الله الهدلق الذي حاولَ تعضيد الوعد التّوراتي لليهود بأرض فلسطين بآيات من القرآن، وهذا أمرُ طبيعي فإذا لم أرجع إلى أمهات الكتب التراثية العربية المسلمة في التاريخ والتفسير فإلى أي كتب يجب أن أرجع إذن، إلى كتب المستشرقين والمؤرخين الأجانب مثلاً؟


*استعرتَ من عبد الواحد فاضل مُصطَلَح «جزيري» في محاولة لكسر هيمنة المصطلح التَّوراتي «سامي/ السَّاميّة» على الدّرس الإناسي (الأنثربولوجي) لكنّكَ وفي ذات السياق نبّهتَ أنّ أورشليم أو بالأحرى: أورشليمنا الكنعانيّة هي قُدسُنا العربية. لاشكّ إنّ هذا قد يصطدمُ مع الأُطر المقدّسة في الثقافة العربية، فإذا كان فعلُ التسمية هو جزء من الصِّراع على احتلال المكان، فماذا لو تكلّمنا عن البُنى الثقافية العربية سواء ذات الوعي الدّيني أو الأكاديمية منها، ودورِها في خلق وتطويع الخضوع لمثل تلك التسميات والمصطلحات؟


**لا أدري أين المشكلة في القول إن مدينة أورشليم والتي هي كنعانية من حيث التأسيس والاسم والسكان والهوية، هي نفسها القدس العربية اسماً وهويةً وسكاناً إذا اتفقنا على أنها كما تؤكّد جميع النظريات الرصينة علمياً والسائدة حتى الآن؛ بدأت كنعانية جزيرية "سامية" ثم تحولت الى عربية جزيرية "سامية" بوصف العرب هم التجلي أو التمظهر السلالي الأخير للجزيريين "الساميين" في فلسطين وعموم المشرق العربي؟ أليست المشكلة الحقيقية هي في خضوعنا للابتزاز الذي مارسته وتمارسه الحركة الصهيونية العنصرية ودولتها "إسرائيل"، اللتان تريدان إقناع العالم بأن أورشليم مدينة عبرانية وإسرائيلية اسماً وهوية وسكاناً، وهي لم تكن كذلك قط؟ ألم يسمِّ العرب قبل الإسلام وفي صدره هذه المدينة باسمها الروماني المؤقت لفترة من الزمن "إيلياء" نسبة إلى اسم عائلة الإمبراطور هادريان "إيلياء كابيتولينا"؟ بالمناسبة؛ للربيعي رأي طريف ومُسلٍّ بهذا الصدد، أسوقه هنا لترطيب الأجواء كما يقال، فهو يعتقد أن إيلياء "هو اسم مؤنث للإله العربي الذكر (أيل – ءيل) الذي ينصرف إلى اسم الله" وقد وثَّقتُ قوله هذا!


أعتقد أن الصواب هو في أن نرفضَ هذا الابتزاز الصهيوني ونعيدَ الأمور الى نصابها فأورشليم المدينة التي بناها وسماها أجدادنا الكنعانيون - وتحديداً فرعهم اليبوسي - والتي سيطر عليها العبرانيون لبضعة قرون في عهد الملك التوراتي داود الذي لم يتأكد وجودُه التأريخي آثارياً، في 996 ق.م، وبقيت تحت سلطتهم حتى أزالَ الملك الرافديني الكلداني نبوخذ نصر مملكتهم يهوذا في عام 586 ق.م، وخلال فترة سيطرتهم أبقى العبرانيون على اسم المدينة الكنعاني نفسه، ثم احتلها الرومان الوثنيون ثم المسيحيون وغيّروا اسمها الى إيلياء لفترة، ثم حرّرها منهم العرب المسلمون وسمَّوها القدس، وهي ذاتها المدينة التي نتحدّث عنها، وهي أورشليم القدس فلا هي عبرانية ولا هي إسرائيلية كما تريد الحركة الصهيونية أن ترغمنا وترغم العالم على القول. وأخيراً فلا أعتقد أن هذا الرأي إذا أُخِذَ به "قد يصطدمُ مع الأُطر المقدّسة في الثقافة العربية" إذ لا دليلَ لدينا على أنّ هذه "الأطر المقدسة في الثقافة العربية" كما سميتَها في سؤالك تستمرئ الابتزازَ وتوافق على السرقة التاريخية الصهيونية لتراثنا ومدننا الكبرى وهويتنا؛ أمّا الفعل الأخير فسيكون للتثقيف بما هو علمي ومؤيد لخطابنا التحريري النقدي التقدمي في جميع الميادين ومنها الميدان التاريخي والآثاري، لسبب بسيط هو أنَّ الحقيقةَ ثوريةٌ دائماً وتستمدُّ قوتَّها من ذاتها الصادقة.


*في الوقت الذي يبدو فيهِ كِتابُكَ أقرب إلى تبنّي مُساهمةِ السّواح النقديّة، ألا تجد أنّ نقديتَك لما هو ديني جاءت دونَ مستوى نقد السَّواح للدين، إذِ اقتصرتَ على نقد الخرافة التوراتية، ولم تُنبّه على خطورة الوعي الديني المُتفشّي في أوساط عربية وإسلاميّة، رغمَ أنّك تزعمُ في مقدمة الكتاب أنّه في سبيل "توعية الشباب العربي"، أوَليسَ نقدُ الدين هو أساسُ كلّ نقد وهذه ثمرة وعي مادّي نفتقرُهُ اليوم؟

**لي تحفظاتي الرئيسة - والتي لم أخض فيها كلها في كتابي لانعدام العلاقة والمناسبة غالباً - على منهجية السواح وبعض زملائه ممن يشددون النكير على العنصر الدّيني في موضوع لا صلةَ له بالديني وهو الإنثروبولجيا والأركيولوجيا. فنقد الدين والظاهرة الدينية، والكلام في النظريات الدينية والفلسفية موضوعه غير هذا الموضوع، وميدانه العلمي غير هذا الميدان، ولكنّ بعض الزملاء الباحثين، وفي فورة علمانيّتهم ذات النزعة الاستشراقية الأورومركزية يخلطون الأمور ببعضها، ويركزون هجومهم ونقدهم على الدين الإسلامي - وليس على جميع الأديان بالمناسبة - ويحمّلونه وزر جميع المصائب والكوارث التي حلَّت وتحلُّ بالشعوب العربية، وهذا الصنف من النقد صنف أيديولوجي قشري لا علاقة له لا بالفلسفة ولا بالثيولوجيا "الإلهيات" ولا بالمثيولوجيا "الأساطير". وأستدركُ هنا أنني لا أرفض مقاربة هذه الجوانب الدينية وعلاقاتها بالموضوع التاريخي والآثاري والإناسي إن وُجِدت، وَوُجِد المبرّرُ البحثي والسياقي، ولكنّي ضد توظيف هذه العلوم لخدمة فكرة أيديولوجية سياسية غالباً وليس لدراسة ونقد وتحليل الظاهرة الدينية كظاهرة تاريخية شديدة الأهمية في حياة البشر.


*أنهيتَ سجالَكَ مع تيار التّوراة اليمنيّة في الفصل الخامس، وانتقلتَ إلى مستوى نقدي آخر أكثر حدّة في الفصلين السادس (نقد طروحات يوسف زيدان) والسابع نقد التيّار الذي يُمكنُ وصفُه بالتيار الموازي لـ"يمنيّة التوراة"، يُمثّلُه عربيّاً محمد آل عيسى (المْسَيَّح؟) المُمَثّل الرّسمي للمُستشرقة الراحلة باتريسيا كرون وزميلِها مايكل كوك وما جاءا به في كتابِهما «الهاجرّيون» صدر أواسط السبعينات (تر: نبيل فيّاض) وفكرة الكتاب تقوم على التشكيك التاريخي بوجود نبي للإسلام اسمه مُحمّد أصلاً، أو حتّى مدينة مكّة، إذ يزعمون أنّ الإسلام بدأ في مدينة البتراء! فهل يُمكنُ الحديث عن مناخ فكري عالمي واحد التقى فيه هذان الشّتيتان المتوازيان: تيار التوارة اليمنية وتيار الهاجرية على ما بينهما من تناقض سياسي؟


** ربّما يكون من قبيل الافتعال وانعدام الدقة من جانبي القول بوجود عامل أو مبرر مباشر يعلّلُ نشرَ تلك النقود لكتابات زيدان وآل عيسى ضمن كتاب ينقد بشكل أساسي الجغرافيا التوراتية خارج فلسطين؛ ولكن، ولأن العنوان يحتمل وجود "دراسات أخرى" من ذات الجنس التاريخي النقدي، ولأن مناخ الكتاب عموماً هو مناخ نقدي سجالي فقد أدرجتهما فيه. ويمكن أن أوافق جزئياً على أن هناك "مناخا فكريا عالميا" فعَّلته الاستشراقية الأورومركزية السّائدة والمسلحة بنوع من العلمانية القشرية والمفرغة من الفكر التنويري الأوربي ذاته والذي يجعل الإنسان العام وليس الإنسان الآري الأبيض في مركز انشغالاته، علمانية متطرفة ولا تقلُّ عدوانية عن بعض الاتجاهات السلفية التكفيرية الدينية وتستهدف الثقافات المحلية في الكوكب والشرقية منها خصوصاً ضمن سياق العولمة الإمبريالية المتفاقم والهادف لتسييد نمط الحياة والثقافة الاستهلاكية المسطحة الغربية الأميركية.


*في الفصل الثامن والأخير، عالجتَ موضوعة الأبحاث الجينيّة وحقيقة اليهود الأشكناز السلاليّة، وقد يُلاحِظُ القارئُ تنافُراً بين المرجعيات الأجنبية المُعتمدة في هذا الفصل وغياب الاشتغالات العربية! وعكس ذلك في سائر فصول الكتاب حيث اقتصرت مرجعياتُها على المراجع العربية أو ما تُرجِمَ إليها (وهي ليست مباشرة بطبيعة الحال إسرائيل فلنكستاين مثلاً)، فهل يُمكنُ إرجاع ذلك إلى أنّ موضوعة "التوراة اليمنية" مُهمَلة ولا تشكّل همّاً جدّيّاً للردّ عليها في الدّوائر الغربية صحافةً وأكاديميا، حتى انحصرَ النقاش بيننا العرب فقط؟


** ربما تصلُح إجابتي عن السؤال السابق للتكرار هنا بخصوص الدراسة عن الأبحاث الجينية واليهود الإشكناز، فقد كان الهدفُ التعريفَ بهذا الموضوع الذي من النادر أن نقرأ عنه باللغة العربية. أما بخصوص المراجع والمصادر التي اعتمدتها فكانت تلبي الحاجة البحثية أنى كانت دون إفراط في الاقتباسات على طريقة بعض الكتاب الذين يجعلون من مؤلفاتهم "كشاكيل للمنوعات" المقتبسة من عشرات الكتب التي لا يجمع بينها جامع، كتب نقرأ فيها مقتبسات كثيرة وطويلة لكتاب آخرين تُحْشَرُ أحياناً حشراً، دون سياق نقدي أو تفكيكي يُذكر، ولكننا لا نجد فيها ما يريد مؤلف الكتاب قوله. مصادري ومراجعي في غالبيتها عربية أو مترجمة إلى العربية ولم أعمد، إلا في مناسبات نادرة وبسبب الحاجة الماسة، إلى ترجمتي الشخصية من الإنكليزية والفرنسية لبعض النصوص القصيرة لأنّني لستُ مُترجماً محترفاً وإجادتي هاتين اللّغتين الأجنبيتين متواضعة والتّرجمة مسؤولية كبيرة.


*ما مشاريعُك القادمة، وإن كانت على صلة بنفس الموضوع، أم أنّ الكتاب قد طوى صفحة السّجال فيه؟


**هذه الأيام، أضع اللّمسات التوثيقية واللغوية الأخيرة على مخطوطة كتابي الجديد "ملفات ساخنة في التراث والتاريخ - نقدُ الخطابينِ الاستشراقيِّ العنصريِّ والسلفيِّ الانتحاريِّ ودراسات أخرى"، وآملُ أن أنتهيَ منه في الأسابيع القادمة. وهذا الكتاب من حيث المنهجية والمواضيع هو استمرار للكتابين السّابقين في الموضوع التّاريخي ولكنْ ضمن حياض أوسع هي حياض التاريخ العربي الإسلامي مع انزياحٍ في الاهتمامات نحو الموضوع التّراثي.

Comments


bottom of page