top of page
صورة الكاتبأحمد حسَّان

مستقبل «المشاعة»: الخطة البديلة للنيوليبرالية أم نزع التراكم الأصلي لرأس المال؟

ﭼورچ كافينتزيس*

ترجمة: أحمد حسان


نُشر المقال في الأصل بالإنجليزية، بعنوان The Future of The Commons، عام 2010. ونشرت الترجمة في موقع مدى مصر في سلسلة مختارات مترجمة 20 يونيو 2021.



"لا يعني مفهوم المشاعة سوى نفيٍ قاطعٍ لمجمل نمط الإنتاج الرأسمالي. لكن خلال العقود الماضية، ترافق إحياء وانتشار مفهوم المشاعة الحديثة مع هيمنة النيوليبرالية، أشرس وأحدث أطوار الرأسمالية، مما نتج عنه استخدام المفهوم للتعبير عن حقائق متباينة ومتناقضة.
هنا يستعرض كافينتزيس، الأستاذ والمناضل البارز، هذه الإستخدامات ضد الرأسمالية أو لصالحها. ويحذر، بدءًا من العنوان، من التحايلات لاستخدام المشاعات لإنقاذ النيوليبرالية من نفسها بدل أن تكون وسيلة للخروج منها."

- المترجم

___________


«الحكاية كما تحكيها السلطة، فإن الحدث الذي يساوي شيئًا هو ذلك الذي يمكن تسجيله على جدول بياناتٍ يتضمن مؤشراتٍ محترمة للربح. وكل شيءٍ آخر يمكن الاستغناءُ عنه تمامًا، خصوصًا إذا كان هذا الكلُّ شيءٍ آخر يقلّل الربح.»

~ Don Durito, Neoliberalism: History as a tale.. badly told - Subcomandante Marcos, 2005.



شهدت «المشاعة» تحولًا مشهودًا خلال الأعوام الـ 15 الأخيرة، من كلمةٍ تشير على نحوٍ عتيقٍ تقريبًا إلى ميدانٍ مُعشِبٍ في مركز بلدات نيو إنجلند إلى كلمةٍ يستخدمها بصورةٍ متنوّعة مُطوِّرو العقارات، ومُبرمِجو «السوفت وير المجّاني»، والنشطاء البيئيون والفلاحون الثوريون لوصف أغراضٍ وحقائق بالغة الاختلاف، ومُتعارضة في الحقيقة.


أعتقد أن هذه الطفرة الجديدة في تفكير «المشاعة» ترجع إلى التقاء مجريين قادمين من منظورين متعارضين.


تأتي إعادةُ إحياءِ «المشاعة» من منظورٍ رأسمالي في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين مع تطوّر منظومةٍ من المفاهيم من قبيل «رأس المال الاجتماعي» و«المجتمع المدني» و«الحياة التشاركية / associational life» التي انضمت إليها مفاهيم شاملةٌ أقدم وأشد غموضًا من قبيل «المجتمع النوعي / community» و«الثقافة» و«الحضارة». ويمكن ملاحظةُ مؤشرٍ جيدٍ على هذا التحوّل المفاهيمي في إحلال عبارة «مجتمع الأعمال» الدافئة والمُنمَّقة محل «الطبقة الرأسمالية» المحدَّدة بحدةٍ في مصطلحات العلوم الاجتماعية.


كان الهدف الرئيسي لهذا التحول هو إنقاذ الرأسمالية من ميولها الشمولية المُدمِّرة -لنفسها التي أطلقتها النيوليبرالية. فمثلا، من يمكن أن يُلزِم نفسَه بالدفاع عن المجتمع الرأسمالي «حتى الموت»، إذا تصرّف كلُّ شخص كفاعلٍ نيوليبرالي تمامًا يستهدف تعظيمَ أدائه/ أدائها النفعي الخاص إلى الحد الأقصى؟ في نهاية المطاف، لن تُساوم تلك الكائنات، عند الضرورة، على حيواتها الخاصة بصورةٍ عقلانية من أجل «إنقاذ النظام». من هذا المنظور كانت المشاعة مفهومًا إضافيًا يتيحُ كلاً من نقد الأعمدة النظرية للفكر النيوليبرالي («مأساة المشاعة» عند هاردين وما يُسمَّى باسم «نظرية كوز / Coase Theorem») واقتراح نماذج أخرى للمشاركة في السوق، علاوة على النزعة الفردية والنزعة الإدماجية - الفئوية / corporatism.


كذلك تطوّرت إعادةُ إحياءِ المشاعة من منظورٍ مناهض للرأسمالية خلال الثمانينيات والتسعينيات أيضًا للتعامل مع أزمة الاشتراكية، والشيوعية، والنزعة القومية في العالم الثالث. فقد طرحت هذه الأزمة للتساؤل الإيديولوجيات التي زعمت أنها تقدم بديلًا للرأسمالية و/أو الإمبريالية من خلال استخدام الدولة وتوسيع مِلكيتها. لأن أزمة الانقسام بين ملكية الدولة والملكية الخاصة تنعكس في ما يُطلق عليه «انهيار الشيوعية» و«ذبول الدولة القومية» في وجه العولمة النيوليبرالية. إذ خلقت كلٌ من الإيديولوجيا الرسمية للاشتراكية / الشيوعية والقومية الانطباع الخيالي لـمشاركةٍ وإدارةٍ -مشتركة للثروة الاجتماعية من جانب المواطنين. وكانت الحقيقة، بالطبع، أن معظم «المشاركة والإدارة -المشتركة» لتلك الموارد كانت تقوم بها طبقةٌ حاكمة تتحدّد عضويتها الضيقة إما بمعايير بيروقراطية أو رأسمالية.


أدرك نقّاد الرأسمالية أنه رغم أن الشيوعية (والقومية) بهما القليل من «المشاعة»، فإن بهما الكثير من التطويقات / enclosures. وبعبارةٍ أخرى، أظهر التاريخُ أن وعدَ الشيوعية -أن تُتَّخَذَ القراراتُ «الاقتصادية» بواسطة «اتحادٍ حر» بين من يقومون بالإنتاج ومن يقومون بإعادة الإنتاج- لم يتحقق في الدول القائمة فعليًا والمحكومة بأحزابٍ شيوعية. على النقيض، إذ رغم أن هذه الدول أقامت مشروعيتها على أساس المشاعر والسلوك الخاصين بـ«المشاعة»، فإنها دمّرت تطورَ التربةِ الصالحة للتنسيق الجوهرية بصورةٍ مطلقة لأداء «المشاعة».


ردًا على هذه الأزمة السياسية، استخدم المناهضون للرأسمالية «المشاعة» لإظهار أن الأشكالَ الجماعية اللا-رأسمالية لتنظيم الحياة المادية حيّةٌ وتناضل في كل أنحاء العالم بمعنيين: (1) المشاعات السابقة على الرأسمالية ما زالت موجودة ويعتمد عليها بقاءُ مليارات البشر على قيد الحياة (وبالفعل فإن أشكال التعاون الاجتماعي المتضمّنة في هذه المشاعات تُتيح لمن «يحيون» على دولارٍ واحد يوميًا -وهي استحالةٌ حرفيًا- أن يحيوا فعليًا)؛ (2) صعود مشاعة جديدة، خصوصًا في فضاءات البيئة الطاقة وفي التشعبات الحاسوبية المعلوماتية. بعبارةٍ أخرى، تجمع «المشاعةُ» بين أشكال التنسيق الاجتماعي السابقة واللاحقة على الرأسمالية في نوعٍ من الطيّة / warp الزمنية التي تتجنب المنطق الشمولي للنيوليبرالية.1


مقولة «المشاعة» جذّابةٌ للعناصر المناهضة -للرأسمالية في حركة مناهضة- العولمة لأنها أتاحت لهم أن يقولوا للنشطاء إن المرء ليس بحاجة لانتظار «بداية تاريخٍ» أسطوريةٍ ما -بعد مسيرة قرونٍ عبر الحرب والحرمان- ليُحقِّق هدف «اتحاد حر» تعاوني للمنتجين (كما استشرف كلٌ من ماركس وأناركيّو الأممية الأولى).. فقد كان قائمًا بالفعل ويعمل (رغم أنه يعمل دائمًا فيما يطلق عليه المساحات الهامشية للاقتصاد العالمي وبكثير من التشوّهات).


وفي الحقيقة، فور أن يبدأ المرء في البحث عن المشاعات، تأخذ في الانبثاق، من مصايد المحار في مواجهة ساحل مين إلى الزراعة الحضرية في المدن -الكبرى للعالم الثالث (التي تُدرجُ أحيانا ضمن مصطلح، «الاقتصاد غير الرسمي») إلى اتحادات الري للمزارعين مثل عمّي ﭘانايوتيس في اليونان إلى قرى إدارة الغابات في ألمورا، بالهند.2 وفضلا عن ذلك، يجري تعميم المفهوم ويصبح أساسًا لتوسُّع استعاري بمنتهى السهولة، بحيث يمكن لمساحاتٍ من الحياة لم يتم تصنيفها من قبل على أنها مشاعة، الكلام مثلًا، والمجال الكهرومغناطيسي، والقمامة، والحمض النووي / DNA.. وأخيرًا، إذا لم ينتبه المرء جيدًا، يمكن للعناصر الأربعة الكلاسيكية (الأرض، والهواء، والماء، والنار) والعنصر الخامس الغنوصي (نووس / nousi) أن تصبح مشاعةً أيضًا.


وبسبب هذا التألق المزدوج للمفهوم -أنه يتعامل مع أزمات وحدود كلٍ من النيوليبرالية والاشتراكية/الشيوعية/القومية- نشهد شعبية المصطلح المدهشة والتشوش الذي يبعثه. وبصورة لا مناص منها، نجد أن الكثير من المُنظِّرين والمفاهيم قد استقرّوا في طيات هذه الملتقيات مثل مقولات ﭘيير بورديو عن رأس المال الاجتماعي والرمزي3، و«اقتصاد الهبة» الذي ناقشه ديريدا بكل بلاغة ومراوغة4، و«العدالة الاجتماعية» في دراسة جيلوبتر Gelopter عن المشاعة.5 أحد أسباب هذا التشوش هو غياب الإقرار بين النشطاء والمفكرين المناهضين -للرأسمالية بأن خطاب المشاعة بالغ الإزدواجية. لطالما نظرنا إلى النيوليبرالية باعتبارها الإيديولوجيا الوحيدة ذات المغزى في المجال ومن ثم افترضنا خطًأ أن خطاب المشاعة مناهض- للرأسمالية حتمًا.


وفي هذا المقال سأفحص وأشجب هذا التشوش، لأنه يقوِّض إمكانية الفحص الواضح لنوعيْ «المشاعة» المستمرين أو في طريقهما للميلاد في زمننا. مع هذا النزاع الدلالي والسياسي (مع «ضبابه»)، حان الوقت لنشحذ تفكيرنا وفعلنا ونسأل عن مستقبل «المشاعة». هل هي مفهومٌ مستهلَكٌ ومبالغٌ فيه للاستخدام أم أنه ما زال أداةً ضرورية لخلق عالمٍ لا -رأسمالي؟ والإجابة على هذا السؤال ملحَّةٌ بوجه خاص في هذه الفترة التي اختارت فيها إدارة أوباما «الخطة البديلة» للنيوليبرالية، أي، استخدام أدوات المشاعة «لإنقاذ» النيوليبرالية من نفسها.


ومع الوظيفة المتناقضة المزدوجة التي أنتجت إحياء مقولة «المشاعة»، أود بوجهٍ خاصٍ أن أناقش التضمينات السياسية للتمييز بين نوعين من المشاعات: (1) المشاعات الموالية -للرأسمالية التي تتوافق مع وتُقوّي التراكم الرأسمالي و(2) المشاعات المناهضة -للرأسمالية المعادية، والمخرّبة للتراكم الرأسمالي. هذا التمييز بين المشاعات الموالية -للرأسمالية مقابل تلك المناهضة -للرأسمالية ليس مجرد تمييز على أساس القصد. ففي نهاية المطاف، حاولت بعض التجارب «الاشتراكية الطوباوية» في القرن التاسع عشر إحياء طبعات من المشاعات في المصنع، والحقل، والمنزل ارتبطت بأنبياء من قبيل سان سيمون، وفورييه، وأوين. وكما أُشيرَ دائمًا، كان قصدهم هو تجاوز رأسمالية عصرهم لكنهم لم يقيموا قطيعةً جادّةً معها.


هذه الجهود الطوباوية الصياغية formulaic لم تكن محط الاهتمام المناهض ـ للرأسمالية مؤخرًا. فما جذب الاهتمام هي المشاعات الكثيرة القائمة فعليًا و«الناشئة عفويًا» (أي، الموارد المُجمَّعة -مشاعيًا التي يديرها من يعملون بهذه الموارد) في كل أرجاء الكوكب. فما زال هناك الكثير من المشاعات القائمة على أساس أراضي الزراعة والرعي لإنتاج المحاصيل (في كل من المساحات الريفية والحضرية)، والمياه الجوفية، والري، وصيد الأسماك، والتعدين السطحي تجد جذورها في الحياة السابقة على الرأسمالية. وفي الحقيقة، إذا وضعنا في الاعتبار كل العمل والإنتاج الذي يجري خارج دوائر «الاقتصاد الرسمي» في مشاعة بالمعنى الواسع، لوجدنا أن مليارات الناس قد جنوا جزءًا من كفافهم باستخدام المشاعات.6


هذه الحقيقة بالغة الأهمية، حيث إن التنسيق الاجتماعي هو المسألة المحورية في خلق الحياة الاجتماعية. ومسألة ما إذا كانت تتحقق بقواعد ومشاعر النقود ورأس المال أو بقواعد ومشاعر المشاعة المناهضة -للرأسمالية هي مسألةٌ كبرى في عصرنا. لأن سلطة رأس المال لا تكمن في جهازه القمعي (رغم ضخامته)، بل بالأحرى في قدرته على إرعابنا بنقص قدرتنا على تنظيم وإعادة إنتاج حيواتنا خارج بنياته. وكما أخبرني جوستابو إستيبا Gustavo Esteva ذات مرة، وهو يلخّص ملاحظاته حول الاستخدام السياسي للـ«مراحيض الجافة»، (بالتقريب) «إذا لم نستطع تنظيم أنفسنا بحيث لا نعتمد على رأس المال والدولة لمنعنا من أن نختنق بفضلاتنا، فكيف نأمل في إحداث تغيير ثوري في حياتنا؟» ومن ثم فإن المشاعات القائمة منذ زمن بعيد وكذلك المشاعات الحديثة التكوين التي أشرت إليها أعلاه بالغة الأهمية لإظهار أننا لا يجب أن «نختنق بفضلاتنا» لأن البشر محكومون بصورةٍ بائسة بالتفكير الرأسمالي بحيث نعجز عن تنظيم إنتاج واستهلاك كفافنا خارجه.



المشاعة الرأسمالية: المشاعة بوصفها شركة


دعوني أتحول الآن إلى نوعي «المشاعة» على التوالي. أولًا، لنأخذ «المشاعة» الرأسمالية.


احتلت الاقتصاديات النيوليبرالية مكان الصدارة النظري والعملي مع أزمة السياسات الكينزية وسياسات الدولة الاشتراكية في سبعينيات القرن العشرين، بعد اكتشاف أن هذه السياسات لا يمكن استخدامها للسيطرة على الصراعات الطبقية سواءً في أوروبا، أو أمريكا الشمالية، أو العالم الثالث.7 شخّص الاقتصاديون النيوليبراليون «المشكلة» على أنها نتاج منح صكوك الملكية entitlements المتزايدة، ونزع -السلعية عن البضائع والخدمات الحيوية، والتجميع التعاوني للموارد الطبيعية، وهي الأمور التي تفاوضت عليها الدول تحت أقنعة عديدة في كل أرجاء العالم مع مختلف البروليتاريات القومية (ما سميناه نحن في هوامش منتصف الليل Midnight Notes «صفقات» أ، وب، وج).8 طبقا للمخطِّطين الاقتصاديين النيوليبراليين، يجب إلغاء هذه «الصفقات» كي تبقى الرأسمالية حية وكي يقلب نظامٌ جديد من القلقلة، وإعادة -التسليع، والخصخصة السلطةَ المتزايدة التي أقامها العمال في كل أنحاء العالم.9


هذه السيرورة، التي وصفناها نحن في هوامش منتصف الليل بأنها «التطويقات Enclosures» الجديدة، لها جوانب عديدة نظرية، وسياسية، ووجدانية ـ جمالية.10 لكن الجانب الأهم بالنسبة لحكايتنا هو الهجوم الذي شنّه البنك الدولي ضد المشاعات الزراعية في كل أرجاء العالم الاستعماري السابق (وسوف أُركز الآن على إفريقيا جنوب -الصحراء). بدأ هذا الهجوم بما أُطلِق عليه «تقرير بيرج Berg Report» الذي أوصى بإنهاء هيئات التسويق وأشكال الدعم التابعة للدولة والسماح للسوق بأن يُخصِّص الموارد بين «المزارعين الفلاحين».11 كان على القوة الدافعة لهذه السياسة أن تُحوِّل الزراعة الإفريقية إلى محاصيل التصدير التي يُفترَض أن المزارعين الأفارقة يتمتعون فيها بميزة نسبية في السوق العالمية. المشكلة مع هذه الصياغة أن المزارع الإفريقي، في الأغلب، لم يكن «مزارعًا فلاحًا» بمعنى كونه المالك الفردي للأرض التي يستخدمها. فأغلب الأرض الزراعية الإفريقية مملوكة جماعيًا ولذا فمن أجل «جعل الأسعار صحيحة» (وهو الحل الذي دعا إليه المُنظِّر النيوليبرالي روبرت بيتس/Robert Bates) ،12 يجب تسعير الأرض أيضًا. ومن ثم يجب خصخصتها.


صار مشروع خصخصة الأرض (في هذه الحالة ليس تحويلها من ملكية الدولة إلى الملكية الخاصة بل تحويلها من الملكية المشاعية إلى الملكية الخاصة) في إفريقيا جزءًا لا يتجزأ (رغم كونه غير ملحوظٍ عادةً) من برامج التكيُّف الهيكلي (SAPs) لأعوام الثمانينيات التي فرضها البنك الدولي على الحكومات الإفريقية غداة أزمة الديون.13


«بينما يتزايد السكان وتصبح الأرض نادرة، لا يعود ممكنًا الاعتماد على فترات راحة الأرض الطويلة للإبقاء على الخصوبة، وتُخفق الطبيعة العابرة لاستخدام الأرض في تزويد الأفراد بحوافز لتحسين أرضهم.. [منح تراخيص الملكية الدائمة سوف] يساعد أسواق الائتمان الريفية على التطور، لأن الأرض ضمانةٌ جيدة.»14


هذا الجهد لنزع -جماعية الأرض في إفريقيا عبّر عن هدف المشروع النيوليبرالي الذي تبناه البنك الدولي وغيره من وكالات التخطيط الكوكبي: رفض كل الحلول الجماعية لمشكلات إنتاج وإعادة إنتاج الاقتصاد. هذه الرؤية الأصولية تقريبًا جرى تبريرها بطرقٍ نظرية متنوعة، لكن الأسطورة التأسيسية الأشد إغواءً طرحها إيكولوجي، هو جارّيت هاردين Garrett Hardin، في مقاله الشهير بعنوان «مأساة المشاعات».15 تكمن قوة حجة هاردين في بساطتها. فقد طلب من قرّائه أن يتخيلوا ماذا سيفعل مجتمعٌ من الرعاة لديهم حقلٌ مشاع. ربما سيضع كلُّ راعٍٍ عددًا صغيرًا من الأبقار في المشاعة في البداية، لكنه سيخضع لإغراء وضع بقرةٍ إضافية لأنه سيستفيد مباشرةً من بقرةٍ مُسمَّنة بينما لن يؤثر عليه تدهور الحقل مباشرةً. وسوف تحفز هذه الفائدةُ الإضافية وضعَ بقرةٍ إضافية حتى يكون كل واحدٍ قد وضع في الحقل عددًا لا يمكن الحفاظ عليه من الأبقار، وبذلك يتم تدميره، وإذا لم يكن ثمة حقلٌ آخر متاحٌ، سيؤدي ذلك إلى موت كل الماشية. استنتج هاردين أن «هنا تكمن المأساة. فكل إنسانٍ محبوسٌ في نسقٍ يجبره على زيادة قطيعه دون حدود -في عالمٍ محدود».16


عندها مضى ليجادل بأن الطريقة الوحيدة للإفلات من المأساة هي خصخصة الحقل (أو جعل حكومةٍ وحشية تسيطر على استخدامه). في الحالة الأولى، فإن من امتلكوا جزءًا من الحقل سيجعلون «شغلهم الشاغل» ألاّ يطلقوا في الحقل سوى عدد الأبقار الذي لا يسبِّب تدهور قابليته للبقاء، لأنهم لم يعودوا «راكبين مجانيين» بل عليهم أن يتحمّلوا عواقب إجهاد التربة. (وفي الحالة الثانية، ستُملي الدولةُ عددَ الماشية التي يمكن أن يضعها كل راعٍ في الحقل، مع الإمكانيات الحتمية للاستبداد والفساد.)


أصبحت المقاربة النيوليبرالية للمشاعات التي ساندتها أمثولة هاردين هي الحكمة التقليدية للبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وخبراء التنمية خلال السبعينيات وأوائل الثمانينيات. وطبقًا لهم، فإنك حيثما رأيت مشاعة، تكون ثمة مأساة وشيكة. ووجدت هذه الحكمة إجراءاتها التشغيلية في برامج التكيف الهيكلي SAPs لفترة أزمة الديون تلك. لكن هذه المقاربة بلغت أزمتها الخاصة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. فقد جرت استجابة عنيفة لمحاولات خصخصة الأرض وغيرها من الموارد الطبيعية القابلة للاستخلاص هناك. وأوضح الأمثلة على هذا النوع من المقاومة تأتي من أمريكا أعوام التسعينيات، بالطبع. مثلًا، انتفاضة الزاباتيستا ضد إلغاء البند رقم 27 من الدستور المكسيكي في أول يناير عام 1994 و«حروب المياه» في كوتشابامبا، ببوليفيا عام 1999. إلاّ أن أسس النضال ضد خصخصة الأراضي الجماعية قد أُرسيت في أجزاء كثيرة من إفريقيا والأمريكتين قبل ذلك بكثير، خصوصًا في دلتا النيجر مع انتفاضة أفارقة الأوجوني ضد تاريخٍ من التدهور البيئي لأراضيهم المشاعية بسبب استخراج البترول.17 وبالنسبة للزاباتيستا، كانت «الانفجارات» البوليفية والنيجيرية اندلاعاتٍ لاحقة للمقاومة لخصخصة الأرض والموارد التي بدأت بالفعل خلال الثمانينيات، ذلك العقد الذي شهد شنّ حرب أراضٍ على نطاق العالم. فمن أعالي جبال الإنديز إلى أمريكا الوسطى والمكسيك جرى نضالٌ مسلح للسيطرة على الأرض (يُشار إليه عادةً في الولايات المتحدة باعتباره جانبًا من جوانب «مشكلة المخدرات»). وفي غرب إفريقيا جرى نضالٌ مسلح على مستوى بالغ الصغر ضد عمليات الاستيلاء على الأرض من جانب الدولة وبنوك التنمية (عادةً ما يُناقَش باعتباره «حروبًا قبَلية» عفا عليها الزمن). أما في جنوب إفريقيا، فإن المعركة على الأرض والسيطرة عليها، في كلٍ من المدينة والريف، متضمَّنة كجانبٍ من «النضال ضد التمييز العنصري»، بينما تُعتبَر في شرق إفريقيا «مشكلة قوميات».


قادت هذه المقاومة إلى إعادة تقييمٍ للمشاعات من جانب مُحَكِّمي الحكمة المؤسسية، بقيادة البنك الدولي ودارسي المشاعات الأكاديميين. وجرى التحول الحاسم في تقرير التنمية العالمية لعام 1992 الذي دافع مؤلفوه إلى مدى محدود عن المشاعات الإفريقية:


«تقليديًا تكمن ملكية الأرض في إفريقيا جنوب الصحراء في الجماعة النوعية، لكن يُخصص للمزارعين الحقُ في استخدام قطع أرضٍ معينة. هذه الحقوق تمنح أمنًا كافيًا لزراعة المحاصيل، وحين تُورَّث للأطفال، تحفِز اهتمامًا طويل الأمد بإدارة الأرض. ربما يكون للمزارعين حقوقٌ محدودة في نقل الأراضي التي يستخدمونها للآخرين دون تصريحٍ من العائلة أو أعيان القرية، وقد يكون لأناسٍ آخرين حقوق استخدامٍ تكميلية على نفس الأراضي ــ أن يرعوا فيها الماشية خلال فصل الجفاف أو أن يجمعوا الفاكهة أو الحطب. إلاّ أن تلك التقييدات لا يبدو بعد أن لها تأثيرًا ملحوظًا على الاستثمار في تحسين الأرض أو على إنتاجيتها.»18


وفي نفس الوثيقة، امتدح مسؤولو البنك الدولي (كاشفين عن مفارقةٍ لا واعية) المؤسسات الاجتماعية المتناهية الصغر مثل الجمعيات القروية أو الرعوية باعتبارها مستعدةً لإدارة مواردها الخاصة بصورة أفضل من ’السلطات الكبرى‘ (بما في ذلك البنك الدولي ذاته، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن!).


وهكذا، مع وضع اللمسات الأخيرة في منتصف التسعينيات على اتفاقيتي التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA ومنظمة التجارة العالمية WTO، بتحيزاتهما النيوليبرالية لصالح ملكية الأرض الخاصة القابلة للتبادل، كان البنك الدولي، صاحب ’ما من بديل‘ (TINA)، يستكشف بعنايةٍ بديلًا، ما أسمّيه ’خطةً بديلة‘، أو بعبارةٍ أخرى، موقفا سياسياً لتجنُّب الاستجابات العدائية لخصخصة الأرض حين تصبح تلك الاستجابات مفرطة القوة والعدوانية. والعنصر الرئيسي لهذا البديل هو قبول المشاعات الزراعية أو الغابية كإجراءِ طوارئٍ على الأقل، كمؤسسةٍ انتقالية حين تصبح تمرّداتُ المُحرومين من الأرض أو تدميرُ الغابات مُزعزِعةً للاستغلال العام لمنطقةٍ أو سكانٍ.


مثلما يستخدم الرأسماليون التعاون ليربحوا يمكن أيضا استخدام المشاعة من أجل التراكم الرأسمالي. وكما أبرز ماركس منذ زمن طويل، يشتري الرأسماليون قوة عمل العمال الأفراد، لكن حين يشتري الرأسمالي قوة عمل مائة عاملٍ يعملون معًا:


«فإنه (هكذا) يدفع لهم قيمة مائة قوة عمل مستقلة، لكنه لا يدفع مقابل قوة ـ العمل المشتركة للمائة. بكون العمال مستقلين عن بعضهم البعض، يكونون منعزلين. يدخلون في علاقات مع الرأسمالي، لكن ليس مع بعضهم البعض. لا يبدأ تعاونهم إلاّ مع سيرورة العمل، لكنهم حينها يكونون قد كفوا عن الانتماء إلى أنفسهم ... ولأن هذه القوة [التعاونية] لا تكلِّف رأسَ المال شيئًا، بينما من جهةٍ أخرى، لا يُطوِّرها العامل إلاّ حين ينتمي عمله إلى رأس المال، فإنها تبدو كقوةٍ يملكها رأس المال بطبيعته ــ كقوةٍ إنتاجية كامنة في رأس المال.»19


هذا ’الوهم‘ كمصدر للطاقة المضادة ـ للثورة يكاد يوازي في الأهمية صنمية السلعة، فيما أعتقد، لأنه يبدو أنه يمنح رأس المال فضل تنظيم الإنتاج وإعادة الإنتاج. ’كيف سنحيا معا إذا لم نَبِعْ أنفسنا لرأس المال؟‘، هو السؤال الأكثر زعزعةً للاستقرار الذي لابد أن يجيب عليه أي مناهض ـ للرأسمالية أمام جمهورٍ بروليتاري غالبا ما يكون متشككًا وكلبيًا.


وفي الحقيقة، لم يكن ماركس ذاته مُشجِّعًا جدًا في تاريخه المختصر للتعاون الذي يقدمه في فصله عن ’التعاون‘. إذ يبدو أنه ينسب لرأس المال الفضل في إحياء خبرة التعاون الإنتاجي (رغم أن ذلك بانعطافةٍ غريبة) الذي كان غائبًا عن التاريخ البشري طوال دهور:


«التعاون في سيرورة العمل، مثلما نجده في بداية الحضارة الإنسانية، بين شعوب الصيد أو، لنَقُل، كملمحٍ سائد للمجتمعات الزراعية الهندية، يقوم من جهة، على الملكية المشاعية لشروط الإنتاج، ومن جهةٍ أخرى، على حقيقة أنه، في تلك الحالات لم يكن الفرد قد فصل نفسه كثيرًا عن الحبل السري لقبيلته أو جماعته النوعية بقدر ما تفعل النحلة عن عشّها. وكلا هذين الشرطين يميزان هذا الشكل من التعاون عن التعاون الرأسمالي.»20


وفيما بين الحقبة الباكرة، المنسية تقريبًا لجماعة المشاعة وبين الرأسمالية الحديثة، يوحي ماركس (بصورةٍ زائفة، في الحقيقة، كي يُعبِّد الطريق لنتيجته الثورية/التطورية في الفصل الثاني والثلاثين من المجلد الأول) بأن فترةً طويلة مرت سادت فيها الزراعة الفلّاحية الفردية والإنتاج الحرفي واختفى فيها التعاونُ بدرجةٍ كبيرة بوصفه قوةً منتجة. وذلك سببٌ آخر يفسّر لماذا يبدو التعاون، طبقًا لماركس، مُقتصرًا على الرأسمالية: ’لا يبدو التعاون الرأسمالي كشكلٍ تاريخي خاص من التعاون؛ بل إن التعاون ذاته يبدو كشكلٍ تاريخي خاصٍ بـ، ومميزٍ نوعيًا، لسيرورة الإنتاج الرأسمالية‘.21


مثلما يمكن لرأس المال أن ينسب لنفسه القوى الإنتاجية لتعاون آلآف العمال، يمكنه أيضًا أن يمتص القوى الجماعية communal من المنظمات التي ’تدير‘ مورد تجميع ـ مشترك. وقد جعلت أبرز منظّري الاستخدام الرأسمالي للمشاعات، إلينور أوستروم Elinor Ostrom، شغلها الشاغل في عشرات الكتب والمقالات أن تبيّن كيف يمكن لفاعلٍ ’اقتصادي عقلاني‘ تمامًا هو ’مُتَمَلِّكٌ‘ لمورد تجميعٍ مشترك أن يُقرِّر على أساس تحليل التكلفة ـ النفع أنه سيكون أفضل بتغييرٍ في القواعد يُقنن الموردَ من خلال نظام ملكيةٍ مشتركة بدلاً من الخصخصة أو منح مشكلة التخصيص للحكومة. 22 بمعنى، أن المشاعة لا تتطلّب تطوير أشكالٍ لا ـ رأسمالية من المشاعر والسلوك في مشاعييها. فبإمكان اللاعبين العقلانيين تمامًا وفق نظرية ـ اللعب الذين لم يقعوا في ورطة سجينٍ (أي، لم ’يتم استلابهم عن بعضهم البعض أو لا يمكنهم التواصل بفعالية‘23) أن يتوصلوا إلى نتيجة أن تنظيم تملّكهم للمورد جماعيًا سيُعظِّم العائد، أو، على الأقل، لن ينتهي إلى ’مأساة المشاعات‘.


وفي الحقيقة، فإن الكثير من أمثلة المشاعات التي تستخدمها أوستروم ومعاونوها هي أجزاءٌ لا تتجزأ من النظام الرأسمالي، من صيادي المحار لولاية مين إلى المزارعين الذين يستخدمون أنظمة الري في الهند إلى مطوِّري العقارات الذين يتملكون مشاعيًا المياهَ الجوفية لجنوبي كاليفورنيا. ليس ثمة تضاربٌ في هذا الفهم لهذه الأنواع من المشاعات مع الأداء السلس ’للسوق‘. ومن المؤكد أن دراسة ’مباديء التصميم التي توضحها مؤسسات مورد الملكية المشاعية (Common Property Resource CPR) الطويلة الأمد‘ التي استخدمتها أوستروم منذ بداية دراساتها للمشاعات إلى الوقت الحاضر لا تبيّن أن ثمة أي تضارب ضروري مع الرأسمالية. وفي الحقيقة، تبدو أنها نفسُ نوعِ القواعد المستخدمة في تكوين الشركات الضخمة. مثلا، فإن المبدأ الأول وهو ’يجب أن يتم بوضوح تحديد الأفراد أو أهل البيت الذين لهم حقوق سحب وحداتٍ من مورد الملكية المشاعية، كما يجب تحديد حدود مورد الملكية المشاعية ذاته‘ والمبدأ الرابع وهو ’المراقبون، الذين يراجعون بنشاط شروط مورد الملكية المشاعية وسلوك المتملكين، مسئولون أمام المتملكين أو هم المتملكون‘ يقومان على رؤية أن المشاعة هي شكلٌ من الشركة الرأسمالية.24 والمطلب الضروري الأساسي لمثل تلك الشركة هو ببساطة أن تكون ’تكاليف الإجراءات‘ ــ تكاليف الوقت والجهد المبذولين في (1) ’ابتكار والاتفاق على قواعد جديدة‘، (2) ’تبنّي استراتيجيات تملُّك جديدة‘، (3) ’مراقبة والحفاظ على نسقٍ مُدارٍ ـ ذاتيًا عبر الزمن‘ ــ لأغلب المتملكين أقل من منافعها المتوقعة.25 ويتمشى هذا مع تحليل ر. ه. كوز R. H Coase لـ’طبيعة الشركة‘. فقد جادل عام 1960 بأنه ’في نظام تنافسي سيوجد حدٌ أمثلٌ للتخطيط حيث أن أية شركة، ذلك المجتمع المخطَّط الصغير، لن يمكنها أن تواصل الوجود إلاّ إذا قامت بوظيفة التنسيق بتكلفة أدنى مما يمكن أن يجري إذا تحقق التنسيق بواسطة تعاملات السوق وكذلك بتكلفةٍ أدنى مما يمكن لشركة أخرى أن تقوم بنفس الوظيفة‘.26 وإذا أعدنا صياغة ما قاله مع استبدال ’المشاعة‘ بـ’التخطيط‘، نقول ’للحصول على نظامٍ اقتصادي كفء من الضروري ليس فقط أن يكون لدينا أسواق بل كذلك مساحات [مشاعة] ضمن منظماتٍ ذات حجمٍ مناسب‘.27 وبصورة حتمية بالنسبة لكوز، فإن ما يحدِّد الخليط المناسب من السوق والتخطيط هو الحبكة السحرية deus ex machina للاقتصاديين الرأسماليين: أي المنافسة.


مُتَمَلِّكو مشاعات أوستروم (الاشتقاق الدلالي قدرٌ، أليس كذلك!) لا تجمع بينهم مشاعر التضامن والجاذبية المتبادلة، بل ’رأس المال الاجتماعي‘. إنهم الفاعلون النظريون المعياريون للاقتصاد الكلاسيكي الجديد، لكنهم يملكون رأس مال اجتماعي. والحقيقة، لن يكون ثمة أي مشاعات، بدون ذلك المزيج الذي لا أدري كنهه je ne sais quoi من القدرة على اتباع القواعد وابتكارها وكذلك من القدرة على تقديم الثقة والتبادلية للآخرين. فكل شيء سيقع في مأزق سجينٍ ويقترب بسرعة من مأساة استنزاف المورد. لكن اعتماد أوستروم على رأس المال الاجتماعي (على المشاعية داخل الرأسمالية) لتوضيح السلوك المشاعي هو جزءٌ من نزوعٍ بين المثقفين الرأسماليين تطوّرَ كمُكمِّلٍ للنيوليبرالية.


لقد خلق الانتصار الظاهري للنيوليبرالية باستهدافها إضفاءَ الطابع الكلي على حكم رأس المال ردَّ فعله الخاص، أي، الاقتناع بأن ثمة ’مشاعة‘ ضرورية للرأسمالية ذاتها. ومن هنا تم تقديم مقولة ’رأس المال الاجتماعي‘ وأهمية ’الجماعة النوعية‘ و’الثقة‘ لتحتل مكان الصدارة في نفس لحظة الانتصار المزعوم للسوق.28 وفي الحقيقة، أدّى ذلك إلى إعادة ـ الإقرار بمستوى اجتماعي بدئي ur-level سابقٍ على العقد و ’السوق‘ يُبَنيِنهما (الأمر الذي ناقشه لأول مرة ديفيد هيوم في اسكتلندا خلال القرن الثامن عشر) ويمثل أمرا لا غنى عنه sine qua non للتراكم الرأسمالي.


كشف أصدقاء الرأسمالية هؤلاء أن النيوليبرالية هي ألد أعداء الرأسمالية ذاتها، خصوصا حين لا يسيطر عليها تهديدُ بديلٍ. فالرأسمالية يمكنها أن تبلغ، نظريا وعمليا، ما أسميه ’حدّ ميداس‘ (حين تقوم كل التبادلات على أساس تعظيم المنفعة الخالصة إلى الحد الأقصى دون أي قلقٍ على قواعد التبادل العادل الضعيفة الإقرار، ومن ثم تكون مُتخمةً بالغش والخداع، أو بعبارة أخرى، بالنزعة الفردية المسعورة). مثل تلك الحالة المُعمَّمة تهدِّد بقاء النسق ذاته كما تبيِّن الأزمات الدورية التي ينتجها ’فقدانُ الثقة‘ على نحوٍ مُعمَّم منذ أيام انفجار فقاعة بحر الجنوب حين بلغ النسق أحد حدود ميداس الأولى. وخمن البعض أن هذا الحد قد تم بلوغه مرةً أخرى فيما سُمِّي بحقبة ’الدوت. كوم‘ لأواخر التسعينيات حين كان مديرو شركتي إنرون وتايكو (بين الآلاف غيرهم) يوجهون جلّ اهتمامهم إلى قيمة محافظ سنداتهم هم أكثر مما يوجهونه إلى التعافي الطويل الأمد للشركات الكبرى التي يديرونها. وليس ثمة الكثير من الشك في أن حدّ ميداسٍ أخطر قد تم بلوغه مرة أخرى في أزمة الرهون العقارية ’الثانوية‘ عام 2007 التي أدت إلى تجميد الائتمان وإلى انكماشٍ عالمي عام 2009. وقد منحت هذه الحقبة ما يمكن تسميته بالكائنات المتناقضة، أخلاقيين رأسماليين أو أخلاقيي الأعمال، فورةً جديدة في التوظيف في التحسر على ’وضع العالم‘ ورسم قواعد جديدة لتوليد الثقة في مُنفِّذي إرادة الرأسمالية.


يجب تلطيف المنافسة بالأسنان والمخالب، فقبل أن يتم تطوير العقود، والوعود، وعلاقات السوق، وكل آليات الرأسمالية الأخرى الواعية ـ بذاتها، يتطلب الأمر حسًّا مشتركًا، كما أشار ديفيد هيوم منذ زمن طويل: ’هكذا يجذب رجلان مجدافي قاربٍ بتوافقٍ مشترك، من أجل مصلحة مشتركة، دون أي وعدٍ أو عقد‘.29 إلاّ أن هذه المصلحة المشتركة ليست شيئًا مفروغًا منه. إذ يجب تنميتها ويمكن أن تنهار حين توجد خلافات ضخمة بين الجانبين في قارب التجديف. قد يجدّفان معا بالطريقة التي يصفها هيوم، لكن إذا كان لأحدهما أن يتلقى جائزةً ضخمة عند الوصول إلى الشاطيء بينما لا ينال الآخر شيئا مقابل جهده سوى إنقاذ رقبته، فلن يكون الاتفاق اللاواعي نتيجةً سهلة، لأن الشخص الذي لا يلقى تعويضًا قد ’يدخل في إضراب‘ ويتوقف عن التجديف تمامًا. يصدق هذا بوجهٍ خاص في مجتمع طبقي تكون فيه علاقة الملكية غير متماثلة من الناحية الجذرية (ويصبح فيه العدل ظلمًا)، مع أكثرية بدون ملكية وأقلية متخمة بالملكية. لكن هذا القلق يؤثر أيضًا على العلاقات بين الرأسماليين.


فور الإقرار بإنتاجية المشاعة بوصفها شركة، يمكن أن يبدأ التخطيط لتحديد أكبر طاقة رأسمالية لها. وهذا بالضبط ما يرى فيه البنك الدولي غرض دعمه لـ’إدارة الموارد الجماعية ‘ (بينما يتمسك بقوة بالنموذج النيوليبرالي الكلي على المستوى ـ المُكبّر). وفي الحقيقة، يُدرِج البنك الدولي الآن بانتظام ’جماعات إدارة الملكية المشاعية‘ ضمن مؤسسات ’المجتمع المدني‘ التي يهتم بدعمها باضطراد. وبالطبع، يجب أن تتكامل تنظيمات المشاعات هذه ضمن المشروع الأكبر لجعل العالم آمنًا للنيوليبرالية. وفي الواقع، أخذ إدماج البنك الدولي للملكية المشتركة ضمن نطاقه يكتسب زخما منذ عام 1992. وفي عام 1995 أنشأ ’مجموعة إدارة موارد الملكية المشاعية‘ (CPRNet) التي تجد منطقها العقلاني فيما يلي:


تهتم مجموعة إدارة موارد الملكية المشاعية CPRNet بأنظمة إدارة الموارد التي تتطلّب عملا تعاونيا ــ على أساس ـ جماعةٍ عادةً. مسترشدةً بالاعتبارات الواردة أعلاه، وكذلك بالحاجة إلى تسخير إمكانات موارد الملكية المشاعية CPRs كمكوِّنٍ هام قائم بذاته في استراتيجيات التنمية، تستهدف مجموعة إدارة موارد الملكية المشاعية CPRNet:

  1. تحفيز الوعي بموارد الملكية المشاعية وأهميتها ضمن مجموعة البنك الدولي بوصفها صيغا مؤسسية، لكن أيضا كموارد تجري إدارتها جماعيا، وقابلة كذلك للتنمية المؤسسية المُحفَّزة لموارد الملكية المشاعية؛

  2. زيادة فهم التفاعل الدينامي بين مختلف أنماط أنظمة حقوق الملكية على المستوى المحلي، وأهمية ذلك للاستهدافٍ الصائب لعمليات استثمار مجموعة البنك الدولي؛

  3. العمل كدارِ مَقاصّةٍ للمعلومات والبيانات حول موارد الملكية المشاعية التي تنتمي إلى عمليات مجموعة البنك الدولي؛

  4. خلق شراكات بين موظفي مجموعة البنك الدولي والممارسين الخارجيين، أفرادا أو منظمات، من خلال إقامة والحفاظ على قنوات اتصال فعلية (بما في ذلك، مثلا، البريد الإلكتروني، والنشرات وموقع الشبكة العنكبوتية)، حيث أن التواصل مع الممارسين المحليين جوهري لعمل مجموعة البنك الدولي؛

  5. ربط موظفي مجموعة البنك الدولي التي تحتاج إلى مُدخلات تشغيلية نوعية متعلقة بحقوق الملكية مع الممارسين والخبراء الخارجيين؛

  6. تحديد الخصائص البارزة وشروط صلاحية مؤسسات إدارة الموارد الطبيعية؛ و،

  7. تحديد وتسهيل السياسات الاستباقية النشطة والعمل الإجرائي الذي يستهدف حماية موارد الملكية المشاعية.30

ومنذ ذلك الحين، جرى تدفق هائل للأبحاث والوثائق النظرية غيّرت الملكية المشاعية من كونها أثرًا غابرًا إلى خيارٍ حي في أدبيات ’التنمية الاستراتيجية‘ للبنك الدولي.


المشاعة المناهضة ـ للرأسمالية: القراصنة، والهوبو Hobbies ، والهاكر Hackers


الآن وقد اتضح وجود مفهومٍ جيد ـ التطور للمشاعة الرأسمالية، لنقارن الاستخدام الرأسمالي للمشاعة، مع الاستخدام المناهض ـ للرأسمالية؛ فثمة مفهومٌ آخر للمشاعة يتعارض مع التراكم الرأسمالي. وفي الحقيقة، لابد من تطويق هذه المشاعات المناهضة ـ للرأسمالية حتى يمكن فصل المنتجين عن وسائل الإنتاج والكفاف للإبقاء على سيرورة التراكم. وتجد هذه المساحات المناهضة ـ للرأسمالية أساسها في كلٍ من الزمن قبل ـ الرأسمالي وبعد ـ الرأسمالي ويُجمِّد فعلُها سيرورَة نزعِ ـ التراكم.31


خلال الثمانينيات وأوائل التسعينيات أعاد تجمّع هوامش منتصف الليل (بين آخرين) طرح مقولة التطويقات enclosures والتراكم الأولي باعتبارها صالحةً للتطبيق على العصر الحاضر. نظرنا بشكل مضطرد لبرامج التكيف الهيكلي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها من الهجمات على المشاعات في كل أرجاء العالم على أنها عودةٌ للجهود العتيقة لمعاودة فصل العمال عن وسائل إنتاجهم وكفافهم. كانت هذه التطويقات القديمة جزءًا جوهريًا مما دعاه ماركس باسم ’التراكم الأوّلي‘. لأن رأس المال يواجه معضلة ’البيضة أم الدجاجة‘: فالمرء بحاجة إلى رأس المال قبل أن يتمكن من مراكمته. كيف إذن استطاعت الرأسمالية أن تنطلق من الأساس؟ كانت إجابة ماركس هي: السلب، والنهب، والسرقة (محققا بذلك القولَ المأثور لخصمه العتيد برودون بأن ’المِلكية سرقة‘). فمثلا، كان نهب ثروة هنود الأزتيك والإنكا خطوةً جوهرية في أصل الرأسمالية. لكن الأكثر أهميةً من النقود بالنسبة للتراكم الرأسمالي كان منبع القيمة المضافة الجديدة: العمال. كان يجب مراكمتهم أوليًا كذلك، وفي الحقيقة كان يجب إعادة إنتاج علاقة رأس المال ـ العامل ذاتها على نطاقٍ واسع. لكن ذلك كان سيصبح مستحيلًا لو كان العمال يسيطرون على وسائل الإنتاج والكفاف. فلماذا سيدعون الرأسماليين يستغلونهم، إذا كان بإمكانهم أن يستخدموا قوة عملهم من أجل ’سلطتهم، ومتعتهم، وربحهم‘؟ وخلال القرن السادس عشر، في كلٍ من أوروبا، والأمريكتين، وإفريقيا تمكّن العمال المحتَمَلون للرأسمالية فعليًا من مقاومة دفعِهم إلى سيرورة التراكم حيث كان في متناولهم الوصول (عادةً من خلال حقوق المشاعيِّ) إلى موارد الكفاف الناشئة عن كونهم أعضاء في قريةٍ أو قبيلة. كان على رأس المال أن يفصل هؤلاء العمال المحتَمَلين عن المشاعات بعنفٍ كي يحوِّلهم إلى عمال فِعليين (سواء مأجورين أو مُستَعبدين) حتى يصبح رأسمالـيـة. كان غزو الأمريكتين، وحركة التطويقات ومطاردة ـ الساحرات في أوروبا وتجارة العبيد في إفريقيا هي الرافعات الأساسية لإشباع ’شهوة قوة العمل‘ لدي رأس المال (بتعبير سيلـﭬيا فيدريتشي).32


لكن سيرورة الفصل هذه لا تنتهي أبدًا طالما بقيت الرأسمالية، لأن العمال من خلال نضالاتهم عادةً ما يعيدون التوصُّل إلى الكفاف بطرقٍ عديدة. فمثلا، مع نهاية الاستعمار في إفريقيا تمت إعادة توزيع الكثير من الأراضي التي كانت محجوزةً للمستوطنين الأوروبيين على الشعب المُستَعمَر السابق؛ ومع نضالات المصانع لأعوام الثلاثينات في الولايات المتحدة أقيم احتياطيٌ جماعي (تديره الدولة) جعل بإمكان العمال الأكبر سنًا أن يتقاعدوا (معاشات الضمان الاجتماعي). وفضلًا عن ذلك، توجد العديد من المشاعات السابقة على الرأسمالية (من الهند إلى غرب إفريقيا إلى المكسيك) تحيا (أو حتى يُعاد إحياؤها، مثلما في حالة تروستات الأرض والمشاعات الزراعية في نيو إنجلند) حتى يومنا هذا لم يستطع رأس المال تصفيتها تمامًا.33 هذه المشاعات عملت بطريقةٍ مناهضةٍ للرأسمالية موضوعيًا، لأنها أتاحت للعمال المحتَمَلين رفضَ أن يصبحوا عمالًا فعليين، أو، إذا أصبحوا بالفعل موضوعًا للاستغلال، أن يمنحهم التوصلُ إلى وسيلةٍ ما للإنتاج والكفاف المزيدَ من القدرة على مقاومة الاستغلال الواقع عليهم.


وفي الحقيقة، تتشكّل مشاعاتٌ عند كل نقطةٍ في تاريخ الرأسمالية (ويتم تجريمُها بشكلٍ لا يتغير تقريبا في حينه). تنشأ الكثيرُ من هذه المشاعات من تملُّك تكنولوجياتٍ جديدة من جانب العمال وتُشير إلى شكلٍ مستقبليٍ من الإنتاج وإعادة الإنتاج. ثلاثُةٍ أمثلة على تلك المشاعات ’ما بعد ـ الرأسمالية‘ هي تلك التي أقامها قراصنة الأطلنطي في القرن الثامن عشر، وهوبو hobos أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لطائفة الهوبوهيميا Hobohemia في الولايات المتحدة، ومبرمجو وقراصنة حركة السوفت وير المجاني لأواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين في كل ربوع الكوكب.34 في نهاية المطاف، انتزع القراصنةُ ملكية أشد الآلات تقدمًا في عصرهم، السفينة العابرة ـ للمحيطات، وأداروها على أساس قواعد جماعية جديدة واستخدموها لنهب من ينهبون الثروة الأمريكية. وبالمثل انتزع الهوبو ملكية السكك الحديدية وأراضي السكك الحديدية لأغراضهم الخاصة، وطوّروا شفرات جديدة لتملُّك تلك الآلات والأراضي. وأخيرًا، يقوم مبرمجو وقراصنة حركة السوفت وير المجاني بنزع ملكية التكنولوجيا الأشد تعقيدا لعصرنا، ويخلقون قواعد جديدة لتشاركها (من قبيل ’ترخيص المشاعات الإبداعية‘)، ويستخدمونها لتقويض سلطة محتكري السوفت وير الكبار مثل مايكروسوفت إنكوربوريشن. وجميعهم لهم تكوين طبقي محدود نسبيًا، في الحقيقة؛ فنشطاؤهم في الأغلب ذكور وبيض. لكن تلك ليست بأية حال الأمثلة الوحيدة على خلق مشاعاتٍ جديدة في قلب الرأسمالية ولدينا أمثلة عديدة لأفارقةٍ، وسكانٍ أصليين أمريكيين، ونساءٍ، يقيمون مشاعاتٍ تفترضُ مسبقا وجود الرأسمالية.


ثمة عددٌ كبير من الأمثلة على خلق مشاعةٍ خارج المجال الرأسمالي يصبح فيها زمنُ المستقبل هو زمنُ الحاضر. وسأعطي مثالا واحد في هذا المقال، يجد جذوره في تكنولوجيا كانت ذات حينٍ محوريةً لتطوُّر الرأسمالية: الآلة الحرارية. (أعتقد أنه سيكون له استبصاراتٌ مفيدة بالنسبة للـ’مشاعات الجديدة‘ التي تتشكل حول تكنولوجيا آلة تورينج)ii. ترتبط المشاعة التي سأناقشها بإقامة ’الهوبوهيميا‘ في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.35 كان ’الهوبو‘ المقيمون في هوبوهيميا عمالاً نازحين ذكورا ’بيض‘ في أمريكا الشمالية في تلك الفترة استخدموا السكك الحديدية وممتلكات السكك الحديدية كمشاعةٍ لهم. ورغم أنهم كانوا رُحَّلاً بصورة فردية، بمعنى أنهم لم يكونوا يسافرون في عربات قطارات الشحن في مجموعاتٍ كبيرة دائمة التحدّد (كما كان يفعلُ عادةً عمال شرق أوروبا، والعمال الصينيون، والمكسيكيون)، فإنهم كانوا في الوقت ذاته جماعيين تمامًا في إعادة إنتاجهم، حيث أن جزءًا أساسيًا من حياة الهوبو كان ’الدغل‘، أي، الموضع ’القائم على مقربةٍ وثيقة من نقطة تقاطع سكك حديدية، حيث يجري تجميع القطارات أو تتوقف لاستبدال الأطقم أو الآلات‘.36 يتجمع الهوبو في الأدغال حين يكونون على الطريق. فهي أماكن يمكنهم فيها أن يطهوا ’حساء موليجان ‘iii، وينظفوا أنفسهم وثيابهم، ويناموا في أمانٍ نسبي، ويتشاركوا معلوماتهم حول أماكن وجود شرطة السكك الحديدية أو الوظائف، ويقنعوا زملاءهم بآرائهم السياسية.


ورغم أن بعض الأدغال كانت مؤقتة كان بعضها الآخر دائم الوجود، رغم أن تواتر المقيمين كان مرتفعًا. كانت تتناثر على شرايين سكك حديد الأمة وتقدّم نقاطا عُقَدِية لإضفاء الجماعية العملية على شبكة السكك الحديدية. عموما كانت الأدغال مضيافةً وديموقراطية (رغم أنها نادراً ما تحدّت خطوط اللون والـﭼندر [نوع الجنسين] التي تقسم الطبقة العاملة حينها كما تفعل الآن).37


كانت تُدار على أساس عددٍ من ’قوانين الدغل غير المكتوبة‘ التي تحظرُ أفعالًا من قبيل إشعال النار ليلًا في الأدغال المعرَّضة للغارات، وتبديد الطعام أو تدميره بعد الأكل، وترك القدور أو غيرها من الأدوات قذرةً بعد الاستعمال، وهكذا دواليك. وكان يتم فرض هذه القواعد داخليًا بصرامةٍ من جانب صُنَّاع ـ القواعد الهوبو أنفسهم مثلما يدافعون عن الدغل من الغزو الخارجي من جانب الشرطة، ولجان الأمن الأهلية، والكلو كلوكس كلان.


وتتعامل لجانُ الدغل مع انتهاكات القواعد وتقرِّر العقوبات. فمثلًا، في إحدى المناسبات التي يذكرها نِيلس أندرسون Nels Anderson، عالم اجتماع الهوبو الأسبق، تم ضبط ’خاطفٍ‘ بينما يسرق زميلًا نائمًا؛ فتشكلت لجنةٌ على الفور واختير رئيسٌ ليقرّر ما يجب عمله. قررت اللجنة ضرورة جلد الخاطف ... لكن ’لم يتقدم أحد؛ امتنع الجميع عن استخدام الحزام أو العصا‘!38 وبعد فاصلٍ مرتبك، وافق شخصٌ فتيٌّ على منازلة الخاطف، وتم ترتيب مباراة ملاكمة، حيث هُزِم الخاطف بالضربة القاضية. وحين استعاد وعيه طُرِد من الدغل. ’بحلول الساعة الحادية عشرة [ليلا] انتهت الإثارة. وأعلن رجالٌ مختلفون أنهم متّجهون إلى المكان الفلاني وأن عملية الشحن ستبدأ في الموعد الفلاني. وأجاب شخصٌ آخر على ذلك بأنه ذاهبٌ أيضا في ذلك الطريق وهكذا انطلقوا معا‘.39


من خلال التنظيم المعقَّد للحركة، ونقاط تبادل المعلومات وإعادة الإنتاج العُقدية، خلق الهوبو شبكةً باتساع الأمة تستخدم الملكية الخاصة لشركات السكك الحديدية كمشاعةٍ لها. صحيح أنهم كانوا يعبِّرون عن مُثلٍ عليا سياسية عديدة مختلفة ــ ربما تحدِّد نقابة عمال العالم الصناعيين (IWW) المثل الأعلى السائد بينها ــ لكن إنجازهم الفعلي كان إظهارَ أن السكك الحديدية وأراضيها يمكن إضفاء الجماعية عليها. ولم يكن ذلك إنجازا ضئيلا، إذ كان عليهم أن يواجهوا صناعةً تمتلك أهم صيغة نقلٍ بالنسبة لاقتصاد القارة في حينه وبلغت لتوّها ذروة توسّعها مع مدِّ ميل السكة الحديد رقم 254,037 عام 1916. 40 ومع خطوط السكك الحديدية، كان المعيارُ الآخر لسلطة شركات السكك الحديدية هو تنازلاتُ الأراضي الهائلة التي منحتها لها الحكومة من الحرب الأهلية فصاعدًا والتي جعلتها المتحكّم في اتجاه إقتصاد الأمة غربي نهر المسيسيبي. ويُقدّر هوارد زن Howard Zinn أن الحكومة الفيدرالية قد منحت شركات السكك الحديدية نحو 100 مليون آكرiv خلال الحرب الأهلية وحدها.41


لم يكن الهدف ’الاقتصادي‘ الرئيسي لإضفاء الجماعية على أراضي وقطارات بضائع السكك الحديدية ثوريا بشكل مباشر. فعادةً ما كان الهوبو يركبون القطارات ليتبعوا الحصاد، أو ليذهبوا إلى وظيفةٍ بعيدة تم التعاقد عليها، مثلا، في إحدى وكالات التشغيل في شارع ويست ماديسون، بشيكاجو (الذي يُدعى ’الجذع الرئيسي‘)، أو، في مفارقةٍ كافية، للذهاب إلى موقع إنشاءات سككٍ حديدية تتناقله الشائعات، لأن مدّ خطوط السكك الحديدية كان عملا قياسيا للهوبو. لكن حضور الهوبو القومي كان هائلا، لأن مئات الآلاف من الرجال يمرون من أحد أقاليم الهوبوهيميا أو آخر (خطوط السكة، أو الدغل، أو الجذع الرئيسي) على مدار العام. وفضلا عن ذلك، لا شك أن قدرا كبيرا من سياسة الهوبو كانت مناهضة للرأسمالية، ولم تكن خطوط السكك الحديدية تجلب العمال إلى حصادٍ أو طفرة بناءٍ فحسب، بل تجلب أيضا سِربا من المؤيدين لمعركة ’حرية تعبير‘ أو إضرابٍ عام. وبالتالي، كانوا يشكلون تحديا جماعيا في قلب رأس مال الولايات لمتحدة. كان لابد من تطويق مشاعات الهوبو لقطارات الشحن وأراضي السكك الحديدية، لأن الهوبو، في نهاية المطاف، كانوا يُضفون الطابع الجماعي على الأراضي الجماعية لسكان أمريكا الأصليين التي تم أولا غزوها وتأميمها بواسطة الحكومة الفيدرالية ثم جرت خصخصتها من خلال مِنَح الأراضي لشركات السكك الحديدية.


كان مسار التطويق معقّدا، يتضمن قمعا فجاً وكذلك تحولاتٍ تكنولوجية وإيديولوجية.42


كان القمع بديهيا خلال فترة غارات ﭘالمر v.Palmer في البداية، أصبحت نقابة عمال العالم الصناعيين IWW هدفا للملاحقة الحكومية والتصفية الجسدية لزعمائها. ثانيا، تم قتل عدد هائل من ’منتهكي‘ السكك الحديدية وجرحهم خلال تلك السنوات، فمثلا، قتل 2,553 عام 1919 و2,166 آخرون عام 1920، 43 غالبا بمساعدة بنادق شرطة السكك الحديدية. ثالثا، عادة ما كانت زيادة النشاطات المناهضة ـ للراديكالية لعصابات الكو كلوكس كلان وغيرها من فرق الموت لأعوام العشرينات موجَّهةً ضد أدغال الهوبو.


ترافق مع هذا العنف المناهض ـ للهوبو تحوّلٌ تكنولوجي في صيغة النقل، كانت السيارة والشاحنة قد بدأتا تحلان محل قطار الركاب والشحن بوصفهما الشكل السائد للنقل بينما تتوسع شبكة الطرق السريعة وتتدهور السكك الحديدية. وولّدت حركةُ القوى العاملة على الطريق السريع علاقاتٍ مختلفةٍ تماما مع الصراع الطبقي عما فعلت السكك الحديدية، وبذلك قضت على الهوبوهيميا.


أيديولوجيًا، هوجم الهوبو بوصفهم نماذج منحرفة من ’الرجال البيض‘ أصبحوا ’مشردين‘ ومفتقرين إلى ضوابط ’المنزل‘، ومن ثم كانوا خطرين على رأس المال. ورأت الحكومة الفيدرالية، خصوصا مع الصفقة الجديدة، أن ’مشكلة الهوبو‘ تقبل الحل بخلق ’أحياء ضواحي باعتبارها الشكل السكني السائد للأمة‘. 44 ومع حلول الحرب العالمية الثانية تمت بشكل نهائي هزيمة الجهد لتحويل السكك الحديدية إلى مشاعة.


كشفت الهوبوهيميا عن طابعها المُميِّز المناهض ـ للرأسمالية من خلال جهود رأس المال والدولة العنيفة لتطويقها، وتجريمها، واستئصالها. ولم يكن من قبيل الصدفة أن الدعابة الأساسية لطبقة أصحاب الأعمال خلال تلك الفترة كانت أن IWW، اسم التعبير السياسي الأشد تماسكا عن طبقة الهوبو العاملة، يمثل الحروف الأولى من عبارة ’I Won't Work!‘ [أنا لن أعمل!] في هذه الحالة مثلما في حالة قراصنة الأطلنطي، نجحت جهود التطويق هذه؛ وما زالت لجنة المحلّفين مُنعَقِدةً بشأن جهود مشاعيّي السوفت وير.


نزاع وتشوّش المشاعات: الزاباتيستا ضد لايـﭫ 8


لكن، في حالات كثيرة، لا يكون واضحا عادةً حين ’تمتزج‘ مشاعةٌ بالأسواق بتلك الطريقة ما إذا كان لها تأثيرٌ إيجابي أم سلبي على التراكم. وفضلا عن ذلك، فمثلما تستخدم الرأسمالية الأشكال ما قبل ـ الرأسمالية من إعادة الإنتاج الاجتماعي كنماذج تخصّها (مثلا، العائلة البطريركية للعهد القديم في فترة الإصلاح البروتستانتي من التطور الرأسمالي)، ’يرتدّ‘ العمال أيضا ليطالبوا بـ’حقوقٍ وحريات‘ عتيقة وكذلك بنماذج لإعادة إنتاج النضال. وبالتالي، يمكن لأكثر الحركات ’ما بعد ـ حداثية‘ أن تستحضر تنظيماتٍ مشاعية مازالت موجودةً في الذاكرة الجماعية. لنفكر، مثلا، في جيش الزاباتيستا للتحرير القومي الذي زعم لنفسه ميراثِ، وتكتيكاتِ، وأشكالِ تنظيم مقاومةِ هنود المايا الطويلة ضد الاستعمار الإسباني بينما يستخدم اتصالات الإنترنت بسرعة الضوء.


وفي الحقيقة، فإن التمييز بين مشاعةٍ مؤيدة ـ للرأسمالية ومشاعةٍ مناهضة ـ للرأسمالية هو أمر رهيفٌ عند تطبيقه في الممارسة، لكنه يمكن أن يضيء بعضاً من النزاعات السياسية المهمة اليوم فيما يُسمَّى ’حركة العدالة الكوكبية‘. فمفهوم مشاعةٍ مناهضة ـ للرأسمالية، على سبيل المثال، مهمٌ في سياسة التمرد المناهض ـ للنيوليبرالية في الأمريكتين منذ انتفاضة الزاباتيستا عام 1994 بينما مفهوم المشاعة المؤيدة ـ للرأسمالية مهم في سياسة ﭼيفري ساكس Jeffrey Sachs، وعناصر البنك الدولي، وآخرين عديدين في حملة لايـﭫ8 Live8 (دعاة ما أسمِّيه باسم ’الخطة البديلة‘ للنيوليبرالية) الذين يرون فيها الحد الأوسط الضروري بين نيوليبرالية راكدة وأخرى ناجحة. وفي الحقيقة، أصبحت هذه الاستراتيجية لاستخدام المشاعة لإنقاذ النيوليبرالية من نفسها هي سياسة إدارة أوباما.


وثمة طريقةٌ جيدة لفهم رهافة التمييز بين المشاعة المؤيدة ـ للرأسمالية وتلك المناهضة لها هي دراسة تحليل كلود ميّياسو Claude Meillassoux لنمط الإنتاج المنزلي الذي يمثّل مجتمع القرية (بتنظيمات إدارته المشاعية) باعتباره إحتياطي عمالة يتم استغلاله من خلال سيرورة الهجرة بدل أن يتم استغلاله من خلال إنتاج السلع المباشر.45 ورغم ذلك، ليس هذا هو الدور الوحيد للمشاعة، لأن وجود قريةٍ يمكنها أن تزوِّد العمال بالطعام خلال إضرابٍ هو قوةٌ ضخمة ضد صاحب العمل. وللحقيقة، ليس من السهل التمييز عموما بين جانبي مشاعةٍ في الممارسة. هل تؤدي إلى المزيد من السلطة للعمال ضد رأس المال أم تؤدي إلى قدرةٍ أفضل لرأس المال على استغلال العمال؟ هذا سؤال رهيفٌ له إجاباتٌ رهيفة تعتمد على السياق والشواهد. لكن المؤكد بالنسبة لملايين المهاجرين أن تحويلاتهم لعائلاتهم وقراهم الأصلية تبيِّن ماديا أن وجود مشاعةِ موطنهم تمنحهم القوة على النضال في البلد الذي هاجروا إليه. وكما يكتب ستيفن كولاتريللا Steven Colatrella:


«الالتزامات الاجتماعية المنسوجة في بلد الأصل يجب فهمها على وجه الدقة من خلال الإرسال المنتظم للتحويلات. إذ بالمقابل، يعرف المهاجر أنه هو أو هي لديه دائما مكان يعود إليه لاحقا، خصوصا إذا كان الحفاظُ عليه راجعا إلى مدفوعات تحويلاته أو تحويلاتها. بهذا المعنى، تمثّل شبكة مجتمعات المهاجرين العابرة للقوميات باتساع العالم ليس فحسب منظومةً من الصلات وطرق التواصل المختلفة عن شبكة إنتاج القيمة والتحقق الرأسمالية، بل وسيلةً بديلة لتنظيم العمل الكوكبي، والاتصالات، والعلاقات التجارية، رغم أنه بديلٌ متناقض.»46


وبالتالي، لابد من تصحيح رؤية ميياسو الأحادية بعض الشيء للمشاعات الإفريقية بالإقرار بما يشير إليه كولاتريللا باعتباره ’شبكة مجتمعات المهاجرين العابرة للقوميات عبر العالم‘. أحد أقطاب هذه المجتمعات هو مشاعة القرية (في إفريقيا في حالة فرنسا) أو الإخيدو vi(في المكسيك في حالة الولايات المتحدة) وهي أيضا تجعل من المجال الفضائي ـ الزمني بين الأقطاب نوعاً من المشاعة كذلك.


يقدم الزاباتيستا مثالا جيدًا على إشكاليات المشاعة. فقد ربطوا انتفاضتهم رسميا بالتطويق الذي كان يُعِدُّه مُخطِّطو نافتا [معاهدة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA] لسكان الإخيدو ejido المكسيكيين. فقد كانت نافتا تتطلب إلغاء البند رقم 27 من دستور عام 1917 الذي يُعدُّ تنويعةً من الشعار الكلاسيكي: الأرض لمن يفلحها! لكن النية ليست كافيةً لتحديد ما إذا كان نضالٌ بعينه من أجل المشاعة يُميلُ الميزانَ بحيث يكسب العمالُ بالفعل قوةً في النهاية. وحده الفحصُ الدقيق على الأرض هو ما يمكن أن يكشف، مثلا، ما إذا كانت الاستيلاءات الضخمة على الأراضي التي أعقبت تمرد يوم رأس السنة عام 1994 في تشياباس والمشاعات الجديدة التي أُقيمت بهذه الطريقة مناهضة ـ للرأسمالية بصورةٍ حاسمة. وفي حالة الزاباتيستا ثمة الكثير من الدلائل تؤكد أن هذا الجهد كان محوريا في مساندة سكان الإخيدو الفلاحين في كل أرجاء المكسيك (وليس في تشياباس فحسب) على عدم التخلي عن أرضهم أو بيعها مقابل ’أغنية‘. في الحقيقة، كان للانتفاضة تأثيرٌ عميق على حركات شعوب السكان الأصليين والمحرومين من الأرض الآخرين في كل أرجاء الأمريكتين فيما وراء المكسيك.47


ثمة استخدامٌ ماكيافيللي للالتباس بين المشاعة الرأسمالية وتلك المناهضة ـ للرأسمالية في الطريقة التي ’اختطف‘ بها جيفري ساكس، وبونوBono viii، ومُنظِّمو لايف8vii حركةَ مناهضة ـ العولمة ليقدّموا حكومات الثمانية الكبار ج8G 8 لا بوصفها مُستَعمِرةً ومُضطهِدةً لإفريقيا بل كمُحرِّرةٍ للشعوب الفقيرة.48


يقوم الجزءُ الإيديولوجي من العملية على رفض النزعة النيوليبرالية الشمولية المذهبية كما يمارسها صندوق النقد الدولي، مُمثَّلةً في تقديم نفس برامج التكيف الهيكليSAP إلى البلدان الكبيرة والصغيرة في أمريكا الجنوبية وإفريقيا كأن التفاصيل الإمبيريقية لسياقاتها وأزماتها المختلفة ليست مهمة. وبدلا من ذلك، في التمهيد لاجتماع الثمانية الكبار في جلينيجلز، قدّم جيفري ساكس نفسَه كنوعٍ جديدٍ من الاقتصادي، كـ’إقتصادي إكلينيكي‘ يعالج ’مريضا إقتصاديا ــ إقتصادا تبتليه الأزمات ــ كي يصف له روشتة برنامج علاج‘. ينتقد ساكس بشدّة مذهبية صندوق النقد الدولي النيوليبرالية المذهبية التي شعارها ’مقاسٌ واحد يناسب الجميع‘:


«خلال ربع القرن الأخير حين كانت البلدان الفقيرة تناشد العالم الغني المساعدة كانت تُرسَل إلى طبيبِ نقود العالم، صندوق النقد الدولي. كانت روشتة صندوق النقد الدولي الأساسية هي شدّ حزام الميزانية للمرضى الأفقر من أن يملكوا أحزمةً. وأدّى التقشف الذي يقوده صندوق النقد الدولي إلى أعمال شغبٍ، وانقلابات، وانهيارٍ للخدمات العامة. وفي الماضي، حين ينهار برنامجٌ لصندوق النقد الدولي وسط فوضى اجتماعية وبؤس اقتصادي، كان صندوق النقد الدولي يسجّله ببساطة على أنه قلّةُ ثباتٍ وقلة كفاءة الحكومة.»50


وساكس ليس وحيدا في مهاجمة الشمولية والأصولية النيوليبرالية؛ إذ يتشارك اقتصاديون من أمثال ستيفن ليـﭬيت Steven Levitt صاحب كتاب فريكونوميكس Freakonomics الشهير مع ساكس الرغبةَ في التخلص من المذهب النيوليبرالي من أجل ’التفكير بمعقولية في كيف يتصرف الناس في العالم الواقعي‘.51 وفي الحقيقة، صعدت حركةٌ كاملة في الاقتصاد لرفض النيوليبرالية بوصفها مذهبا ولإعادة تدويرها بوصفها ’أداة‘ لتحليل ’الأمراض‘ الاقتصادية (مثلما في نموذج ساكس) أو ’أسئلة‘ اقتصادية (مثلما في نموذج ليفيت). لكن هذا ليس رفضا للرأسمالية ولا حتى للمذهب النيوليبرالي، بل حركة منهجية تستهدف إنقاذها من نفسها ومن أعدائها. الجهد برمته، في الحقيقة، هو تحويل النيوليبرالية إلى فهم مشترك وإخراجها حرْفيا من دائرة الصراع الإيديولوجي والسياسي الخطر.


لكن لأول وهلة، عند قراءة أعمال هؤلاء المؤلفين يغمر المرء شعورٌ أوّلي بالارتياح. بعد عقدين من انتقادات النيوليبرالية منذ أولى النضالات ضدها في إفريقيا والأمريكتين إلى الاستنفارات المناهضة ـ للعولمة فيما بعد ـ سياتل، يبدو أن مراكز السلطة تستجيب أخيرا. هذا صحيح، لكن الاستجابة ليست إذعانا. بل إنها تملّصٌ من النقد بعد اعتراف شكلي pro forma به.


انتقادات دكتور ساكس للنيوليبراليين المذهبيين لها قصدٌ سياسي. إذ تستهدف إقناع مناضلي حركة مناهضة ـ العولمة بنبذ تشاؤمهم ’بصدد إمكانات الرأسمالية بوجهٍ إنساني، التي يمكن فيها لجمُ القوة الملحوظة للتجارة والاستثمار بينما تعترف بـ، وتُعالج أوجهَ القصور من خلال أفعالٍ جماعية تعويضية‘.53 إنه يدعو صراحةً إلى تحالفٍ مع حركة مناهضة ـ العولمة، لأن ساكس هو جزءٌ من شريحة المُخطِّطين الرأسماليين الذين يؤيدون نزع ـ التسليع المؤقت عن الأشياء التي يمكنها إشباع احتياجات الفقراء الحيوية في إفريقيا. وخطته لـ’جعل الفقر تاريخا‘ تتطلب نزع ـ التسليع على المدى ـ القصير (أي، حتى 2025 على الأقل) بأن يقدم للفقراء تعليما مجانيا، وبرامج تغذيةٍ مجانية، ومعداتِ محاربةِ ملاريا مجانية، ومياهِ شربٍ مجانية، وتجهيزاتٍ صحيةٍ ووقودٍ للطهي.


وهو أيضا نصيرٌ للمنافع العامة ويدعو إلى الاستثمار الحكومي في المنافع العامة مثل ’رأس المال البشري (الصحة، والتعليم، والتغذية)، والبنية التحتية (الطرق، والطاقة، والمياه والتجهيزات الصحية، والحفاظ على البيئة)، ورأس المال الطبيعي (الحفاظ على التنوع البيئي والأنساق الإيكولوجية)، ورأس المال المؤسسي العام (إدارة عامة جيدة التسيير، ونظام قضائي، وقوة شرطة)، وأجزاء من رأس مال المعرفة (البحث العلمي في الصحة، والطاقة، والزراعة، والمناخ، والإيكولوجيا)‘.54


وأخيرا، يعارض دكتور ساكس وجهة النظر، التي روّجها هرناندو دى سوتو Hernando de Soto، ذابح ـ المشاعة، والقائلة بأن الخصخصة ومنح صكوك ملكية الأرض هي ’لغز رأس المال‘ الحقيقي المؤدي إلى التنمية الاقتصادية. يتشكك ساكس في زعم دي سوتو الملغز ويشير إلى حقيقة أن الصين وفيتنام، اثنتان من أسرع بلدان العالم نموا ’لم تحلاّ بالتأكيد مشكلة الصكوك titles وتحويلات الملكية deeds !‘.55 يجادل بأنه: ’رغم حقيقة أن جزءا كبيرا من نظرية السوق ـ الحرة الاقتصادية قد غلَّبت الرؤية [الدارونية الاجتماعية] لـ[’الطبيعة الدامية الأسنان والمخالب‘]، فإن الاقتصاديين من آدم سميث فصاعدا قد أقروا بأن المنافسة والصراع هما جانبٌ واحد من الحياة الاقتصادية، وبأن الثقة، والتعاون، والعمل الجماعي في تقديم المنافع العامة هي الجانب المقابل‘.56


وبالتالي، أصبح ساكس واحدًا ممن طوّروا (مع باحثين مثل أوستروم وبينفانجر Binswanger) ’خطةً بديلة‘ نيوليبرالية المقصود منها استخدام ’رأس المال الاجتماعي‘ الخاص بالمشاعة لمواجهة التهديد الذي يمثّله ’الفقراء‘ على الرأسمالية. السؤال بالنسبة لهم هو، ’كيف يمكن لمشاعةٍ و/أو نفعٍ عام أن يصبح مفيدا لتراكم رأس المال؟‘ وهم لا يفترضون، مثلما يفعل النيوليبراليون المذهبيون، أن هذه النواتج للاختيار الجماعي وإرساء ـ القواعد تتضمن حتميا خفضا للتراكم.


مضى ساكس ليتحالف مع آلة بلير الانتخابية، ومع بونو ولايف8 ابتكر استراتيجيةً ناجحة لإرباك حركة مناهضة ـ العولمة. وبالنظر إلى الوراء، أرى أن مفتاح هذه الاستراتيجية هو الخلطُ بين المشاعات الرأسمالية وتلك المناهضة ـ للرأسمالية. وتكثَّف هذا الخلطُ مع بداية حملة أوباما لرئاسة الولايات المتحدة التي بدأت بعدها بعام. فكما كتب في كتاب الحملة، جسارة الأمل عام 2006، كانت النيوليبرالية (ما أطلق عليه إيديولوجيّو إدارة بوش إسم ’مجتمع الملكية‘) تؤدي إلى كارثةٍ سياسية للرأسمالية في الولايات المتحدة بخلق انقساماتٍ طبقية حادة، وطبقةٍ عاملة غير تنافسية، وطبقةٍ رأسمالية فاسدةٍ وغير مسئولة. كانت إجابة أوباما على شرور رأسمالية الولايات المتحدة وما زالت مماثلةً لإجابة ساكس بالنسبة لإفريقيا: لابد من تحمُّل الأفعال والمؤسسات الجماعية من أجل تمكين الرأسمالية من الأداء. كتب:


«مثل من جاؤوا قبلنا، لابد أن نسأل أنفسنا ما مزيج السياسات الذي سيؤدي إلى سوقٍ حرة دينامية وأمنٍ اقتصادي واسع المدى، وتجديدٍ في ريادة الأعمال وحراكٍ صاعد. ويمكن أن يرشدنا في كل هذا قول لينكولن المأثور البسيط: أننا سنصنع جماعيا، من خلال حكومتنا، تلك الأشياء وحدها التي لا يمكننا أن نصنعها بنفس الجودة، أو لا يمكننا أن نصنعها على الإطلاق، فردياً وبصورةٍ خاصة.»57


وحين صار أوباما رئيسا، صاغ إدارةً مستعدة لتطبيق هذا القول المأثور مستخدمةً تريليونات الدولارات من الأرصدة الحكومية للقيام بطيفٍ واسع من الأفعال التي تبدو ’تعاونية‘، و’اشتراكية‘، و’مشاعية‘ بالنسبة لنيوليبراليٍ مذهبي، من انتزاع السيطرة على القطاع المصرفي إلى المطالبة بإعادة هيكلةٍ نوعية لصناعة السيارات. لكن هدف هذه الأفعال هو إعادةُ الاقتصاد إلى حالة الحد الأدنى من تدخّل الدولة، السابقة على الأزمة، وليس نشرُ مشاعاتٍ دائمة.


وهكذا، ما لم نكن واضحين بشأن الاستخدامات المتضاربة لمفهوم المشاعة، فإن كل شيءٍ يتخثر بضبابية بحيث يبدو أن لايف8، وأصحاب حملة ’أنهوا الفقر‘، والرئيس أوباما هم حلفاء لحركة الزاباتيستا! ويمكن فهم النزاعات (والترددات) السياسية خلال اجتماعات مجموعة الثمانية على أنها صدامٌ (ومزجٌ) بين سياساتٍ يحفزها هذان المفهومان المتصارعان (لكنهما مُشوَّشان) للمشاعة. ويمكن قول الشيء نفسه عن حملة أوباما وإدارته.


الأمر الأهم بالنسبة للمناهضين ـ للرأسمالية هو مستقبل المشاعة، أو بعبارةٍ أخرى، ما إذا كانت ’المشاعة‘ سيتم التنازل عنها لأولئك الذين يريدون تطويقها دلاليا واستخدامها لغاياتٍ نيوليبراليةٍ أبعدٍ أم أننا سنواصل صبَّ نضالنا في ’المشاعة‘ من أجل شكلٍ آخر من الحياة الاجتماعية يتجاوز تنسيق رأس المال؟


لكن، بمعنى من المعاني، يتم خلقُ المستقبلِ خارجَ زمنِ رأس المال عن طريق المَشْيَعة commoning، ومن هنا فإن السؤال الذي طرحناه في البداية ــ ’هل للمشاعة مستقبل؟‘ ــ هو إساءةُ تعبيرٍ؛ فالسؤال الحقيقي هو: ’هل يمكن أن يوجد مستقبلٌ بدون المشاعة؟‘

الهوامش

هوامش المترجم:

  1. نووس: العقل أو الفهم عند الإغريق.

  2. آلة تورنج: آلة هي النموذج الأولي للحاسوب. ابتكرها عام 1936 عالم الرياضيات البريطاني آلان تورينج.

  3. حساء موليجان: خليط خضروات ولحم مسلوق.

  4. الآكر: يساوي 40% من الهكتار أي حوالي 4047 مترا.

  5. غارات بالمر: تسمّى كذلك غارات بالمر الحمراء. نفذتها عامي 1919 و1920 وزارة العدل الأمريكية في محاولة للقبض على الأناركيين والشيوعيين الأجانب وترحيلهم إثر القلاقل الاجتماعية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى. قادها المدعي العام ميتشل بالمر وتمثل ذروة حقبة ’الرعب الأحمر‘ في الولايات المتحدة.

  6. الإخيدو: المشاعة المكسيكية التقليدية.

  7. لايف 8: سلسلة حفلات موسيقية أقيمت يوم 2 يوليو 2005 في بلدان مجموعة الثمانية وجنوب إفريقيا قبل مؤتمر مجموعة الثمانية بين 6 و8 يوليو من نفس العام.

  8. بونو: بول ديفيد هوسن الشهير باسم بونو. موسيقي ومغني أيرلندي في فرقة يو تو الأيرلندية.


هوامش المؤلف:

  1. Peter Linebaugh, The Magna Carta Manifesto: Liberties and Commons for All, Berkeley, University of California Press, 2007; Massimo De Angelis, The Beginning of History: Value Struggles and Global Capital, London, Pluto Press, 2007.

  2. Elinor Ostrom et al., Rules, Games, and Common-Pool Resources, Ann Arbor, The University of Michigan Press, 1994.

  3. Craig Calhoun et al., Bourdieu: Critical Perspectives, Chicago, University of Chicago Press, 1993.

  4. Jacques Derrida, Counterfeit Money, Chicago, University of Chicago Press, 1992.

  5. Mark Gelopter, 'Integrating Scale and Social Justice in the Commons' in Joanna Burger et al. (eds)Protecting the Commons: A Framework for Resource Management in the Americas, Washington, D.C., The Island Press, 2001.

  6. Serge Latouche, In the Wake of the Affluent Society: An Exploration of Post-Development, London, Zed Books, 1993; Veronika Bennholdt-Thomsen and Maria Mies, The Subsistence Perspective: Beyond the Globalised Economy, London, Zed Books, 1999; Silvia Federici, 'Women, Globalization and the International Women's Movement', in Terisa E. Turner and Leigh S. Brownhill (eds), Gender, Feminism and the Civil Commons. A special issue of the Canadian Journal of Development Studies, Volume XXII, 2001, pp. 1025- 1036.

  7. Midnight Notes Collective, Midnight Oil: Work Energy War, 1973- 1992, New York, Autonomedia, 1992.

  8. p.m., Bolo-Bolo. New York: Autonomedia, 1995, pp 36- 49.

  9. George Caffentzis, 'The work/energy crisis and the Apocalypse' in Midnight Oil Collective (eds), Midnight Oil, op. cit..

  10. Midnight Notes Collective, The New Enclosures, Boston, Midnight Notes, 1990.

  11. World Bank, Accelerated Development in Sub-Saharan Africa: An Agenda for Action. Washington, D. C., The World Bank. ["The Berg Report"], 1981.

  12. Robert H. Bates, Essays on the Political Economy of Rural Africa, Berkeley, University of California Press, 1983. Doi: 10.1017/CBO9780511558740

  13. George Caffentzis, 'The fundamental implications of the debt crisis for social reproduction in Africa' in Mariarosa and Giovanna Dalla Costa (eds), Paying the Price: Women and the Politics of International Economic Strategy, London, Zed Books, 1995.

  14. World Bank, Sub-Saharan Africa: from Crisis to Sustainable Development, The World Bank, 1989, p 104.

  15. John Mihevc, The Market Tells Them So: The World Bank and Economic Fundamentalism in Africa, London, Zed Books, 1995; Garrett Hardin, 'The Tragedy of the Commons', Science 162 (1968): 1243-8.

  16. Ibid., p 1244.

  17. Bill Weinberg, Homage to Chiapas: The New Indigenous Struggles in Mexico, London, Verso, 2000; Vandana Shiva, Water Wars: Privatization, Pollution and Profit Boston, South End Press, pp 102- 103: Ken Saro-Wiwa, Genocide in Nigeria: the Ogoni tragedy by Ken Saro-Wiwa, Port Harcourt, Saro International Publishers, 1992.

  18. World Bank, World Development Report 1992, Washington, D.C., The World Bank, 1992, p 144.

  19. Karl Marx, Capital, Vol. I., London, Penguin, 1976, p 451.

  20. Ibid., p452.

  21. Ibid., p453.

  22. For example, Elinor Ostrom, 'Reformulating the Commons' in Joanna Burger et al. (eds), Protecting the Commons: A Framework for Resource Management in the Americas, Washington, D.C., The Island Press, 2001,pp 23- 28; Ostrom Elinor, Governing the Commons: The Evolution of Institutions for Collective Action, Cambridge, Cambridge University Press, 1990; Ostrom et al., Rules, Games, and Common-Pool Resources, Ann Arbor, The University of Michigan Press, 1994.

  23. Ostrom, Protecting the Commons, op. cit., p21.

  24. Ostrom, Governing the Commons, op. cit., p90.

  25. Ostrom, Protecting the Commons, op. cit., p23.

  26. R.H. Coase, Essays on Economics and Economists, Chicago, University of Chicago Press, 1994, p8.

  27. Ibid.

  28. See, for Example, Francis Fukuyama, Trust: The Social Virtues and the Creation of Prosperity, New York, The Free Press, 1995; Amitai Etzioni (ed), New Communitarian Thinking: Persons, Virtues, Institutions and Communities, Charlottesville, University Press of Virginia, 1995.

  29. David Hume, An Inquiry Concerning the Principles of Morals, New York, Liberal Arts Press, 1957, p123.

  30. World Bank, The World Bank Group's Common Property Resource Management Network: Guide to CPRNet. Info.worldbank. org/etools/docs/library/97605/…/guide-3b.pdf,1995, last accessed December 17, 2009.

  31. George Caffentzis, Three Concepts of Time and Class Struggle, unpublished paper, 2006.

  32. Silvia Federici, Caliban and the Witch: Women, the Body, and Primitive Accumulation, New York, Autonomedia, 2004.

  33. Brian Donahue, Reclaiming the Commons: Community Farms and Forests in a New England Town, New Haven, Yale University Press, 1999.

  34. Marcus Rediker, Villains of All Nations: Atlantic Pirates in the Golden Age, Boston, Beacon Press, 2004; Todd Depastino, Citizen Hobo: How a Century of Homelessness Shaped America, Chicago, University of Chicago Press, 2003; Lawrence Lessig, The Future of Ideas: The Fate of the Commons in a Networked World, New York, Random House, 2001.

  35. Cf., Nels Anderson, The Hobo. The Sociology of the Homeless Man, Chicago, The University of Chicago Press, 1923, and Depastino, Citizen Hobo, op. cit.

  36. Anderson, The Hobo, op. cit., p 16.

  37. Depastino, Citizen Hobo, op. cit., pp81-85.

  38. Anderson, The Hobo, op. cit., p24.

  39. Ibid., p25.

  40. William Greenleaf (ed), American Economic Development Since 1860: Documentary History of the United States, Columbia, University of South Carolina Press, 1968, p79.

  41. Howard Zinn, A People's History of the United States: 1492-present, New York, HarperCollins, 2003, p238.

  42. Depastino, Citizen Hobo, op. cit., pp 171- 194.

  43. Anderson, The Hobo, op. cit., pp 161- 162.

  44. Depastino, Citizen Hobo, op. cit., pp219.

  45. Claude Meillassoux, Maidens, Meal and Money: Capitalism and the Domestic Economy, Cambridge, Cambridge University Press, 1981.

  46. Steven Colatrella,Workers of the World: Africaan and Asian Migrants in Italy in the 1990s, Trenton, NJ, Africa World Press, 2001, p 193.

  47. Midnight Notes Collective, Auroras of the Zapatistas: Local and Global Struggles in the Fourth World War, New York, Autonomedia, 2001.

  48. For a good, painfully honest blow-by-blow account of the way it was done see Paul Hewson, '"It's the Politics Stupid": How Neoliberal Politicians, NGOs, and Rock Stars Hijacked the Global Justice Movement at Gleneagles and How We Let Them', in David Harvie et al. (eds), Shut Them Down! The G8, Gleneagles 2005 and the Movement of Movements, New York, Autonomedia, 2005.

  49. Jeffrey Sachs, The End of Poverty: How We Can Make It Happen in Our Lifetime, London. Penguin Books, 2005, p75.

  50. Ibid., p 74.

  51. Steven D. Levitt and Stephen J. Dubner, Freakonomics: A Rogue Economist Explores the Hidden Side of Everything, New York, HarperCollins, p 205.

  52. Caffentzis, Three Concepts of Time and Class Struggle, op. cit.

  53. Sachs, The End of Poverty, op. cit., p357.

  54. Ibid., pp251-252.

  55. Ibid., pp 321.

  56. Ibid., p327.

  57. Barack Obama, The Audacity of Hope: Thoughts on Reclaiming the American Dream. New York, Three Rivers Press, p 159.


Comments


bottom of page