top of page
صورة الكاتبAlaa B.H

مارك ج. سيدجويك: من أعلام الفكر اليميني الراديكالي

نقتبس هذه المادة من كتاب

Key Thinkers of the Radical Right: Behind the New Threat to Liberal Democracy

وهو من تحرير صاحب هذه المقدمة "سيدجويك". وسيدجويك باحث مهتم بالصوفية والدراسات الإسلامية سبق له التدريس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ويعمل حاليًا في جامعة آروس في الدنمارك. وتأتي هذه الترجمة لا من باب الاتفاق بل رأينا تقديمها للقارئ العربي لما توفره من مدخل سهل الفهم ويبتعد عن التعقيد لأبرز مفكري اليمين وما يتشاركونه إضافةً إلى الاتجاهات الحديثة اليوم مع صعود اليمين في العالم وفي أمريكا مع ترَمب وأوربا في الخصوص، أي من باب معرفة الخصم.

____________________


غالبًا ما ارتبطَت صورةُ اليمينِ الراديكالي بمثيري الشَغَب والمتطرفين العنصريين. ورغم أنَّ هؤلاء يضطلعون بدورٍ معين، إلّا أنَّ اليمين الراديكالي المعاصر لا يختزل إليهم. فثمَّة لهذا اليمين منتوج فكري تجهله الأكثرية، لكن أهميته تتزايد. لذا، يتمثل هدف كتابنا باستكشاف هذا المنتوج.

ومن البدهي أنَّ وجود مثل هذا الفكر ليس ظاهرة جديدة. إذْ يمكن أنْ نُدرِج في عِداده مفكرين بارزين من أيام الثورة الفرنسية إلى الحرب العالمية الثانية. بيد أنَّ أهوال الحرب ومعسكرات الاعتقال النازية قد ساهمت في رد فعل عام معادٍ لليمين الراديكالي؛ ما أدَّى إلى إزاحته من المشهد السياسي، كذا غيابه عن الحياة الفكرية. فيما أمسكت عقيدةٌ نيوليبرالية زمامَ حكم الغرب لعدة عقود، دون أي تهديدٍ يُذكر.

مع انطلاقة القرن الحادي والعشرين، كان الاتجاه السياسي العام يخبر تحولًا. ففي أوروبا، جذبت الأحزاب "الشعبوية" الاتجاه العام إلى صفها، ولم تعد العقيدة الليبرالية لفترة ما بعد الحرب تهيمن كالسابق. وفي الولايات المتحدة، انتهت سلسلة من التحديات التي واجهت الجمهوريين إلى انتخاب دونالد ترَمب في 2016، هكذا واجهت أمريكا بدورها تحدياتٍ أيضًا. وفي حين تتعدد أسباب هذه التطورات وتتعقد، إلَّا أنَّ الكتاب الحالي لا يهدف إلى أنْ يضيف إلى ما قد كُتِب في هذا المضمار. بل يهدف إلى تقديم إسهامٍ لفهم واحدةٍ من التبعات العامة للتحول تجاه اليمين: أي، فهم الأهمية الجديدة لأعلام الفكر اليميني الراديكالي.

لا يغيب عن البال أنَّ ثمَّة العديد من المشاكل ههنا تتصل بالتعريف والتصنيف. فمثلًا تشيع مصطلحات من قبيل "أقصى اليمين" و"اليمين المتطرف" وهي لشيوعها تفيدنا في التدليل على الظاهرة المعنية، لكنها أقل فائدة لناحية تعريفها أو تعيين حدودها. فما من اتفاق عامٍ حول أين ينتهي التيار السائد ويبدأ المتطرف، وفي حال وُجِد هكذا اتفاق يومًا، فإنَّ التحول الأخير سيطعن به. كذا تشيع مصطلحات من قبيل "الفاشية" و"النازية الجديدة"، بيد أنَّها تشير إلى أحزابٍ سياسية ظهرت وأفلت إبان ظروف تاريخية شديدة الاختلاف عن ظروف اليوم، بذا فقيمتها في السياق المعاصر محدودة. ورغم أنَّه قد تُستخدَم الرمزية النازية في بعض الأحيان بفعل ما تمتلكه صدمتها الثقافية المضادة من قيمة، إلّا أنَّه ما من حركةٍ جادة لإحياء الحزب النازي، ويصعب تخيل ما ستبدو عليه النازية الجديدة حقًا. ومن بين المفكرين المعاصرين ذوي الأهمية عند اليمين الراديكالي، ليس إلّا واحد (هو غريغ جونسون Greg Johnson) يعرب عن تعاطفه مع النازية.

من جهة ثانية، يمتلك اليمين الراديكالي مصطلحاته الخاصة. فغالبًا ما يُستخدَم مصطلح "اليمين الجديد"، ومؤخرًا برز مصطلح "اليمين البديل". كذا ثمّة القوميون، والهوياتيون، والليبرتاريون، والمحافظون الجدد، والمحافظون التقليديون، ومناهضو الجهاديين، والرجعيون الجدد. وصحيح أنَّ هذه التصنيفات تختلف في نواحٍ مهمة، بيد أنَّها تتشارك شيئا بالعموم.

أما هذا الكتاب فينهج في مقاربته نهجًا يتمثل بتجنب أسئلة التعريف والتصنيف، وذلك بتركيزه على مفكرين مقروءين على نطاق واسع في جميع الأوساط اليمينية، في الولايات المتحدة وأوروبا. ولقد اخترنا المفكرين هنا على أساس مجموعة من القواعد تعكس وجهة نظر المحرر إزاء الأهمية المتباينة لهؤلاء، كذا وجهات نظر مَن استشارهم المحرر من باحثين أمريكيين وأوروبيين يشتغلون على مسائل اليمين. كما أشرنا إلى كُتَّابٍ تروِّج لهم أبرز المواقع الإلكترونية اليمينية Arktos في أوروبا وCounter-Currents في أمريكا، وقد تطرقنا لهما في هذا الكتاب. كذا وجهة نظر مجموعة مختارة من المنخرطين في المشهد اليميني الراديكالي. وقد كان السؤال الأساسي هو هل يُقرأ هذا المفكر على نطاق واسع اليوم، بصرف النظر عن الفترة التي ينتمي إليها (أو نادرًا، "تنتمي إليها"). بذا لم يشمل الكتاب إلَّا أولئك الذين يحظون اليوم بجمهور عالمي كبير. وقد استبعدنا بالتبعية أولئك المفكرين المعاصرين ممن يكتبون بالفرنسية والألمانية ويحظون بمتابعة داخل حدود بلدانهم فقط. أما المفكرون المقروءون على نطاق واسع خارج أوساط اليمين الراديكالي، والمعروفون على نطاق واسع لهذا السبب أو ذاك، فقد قمنا باستبعادهم أيضًا. وهذا أمر مؤسف نوعًا ما، إذْ ينطوي استبعاد نيتشه وهايدغر على افتراض فجوة بين اليمين الراديكالي والمشهد الفكري العام تفوق ما هو قائم بالفعل. لكن لحسن الحظ تتوفر العديد من الاشتغالات الممتازة حول كلٍ من نيتشه وهايدغر في أعمال أخرى بالفعل.

وككل الاختيارات، فاختيار هذا الكتاب لأعلام المفكرين هو اختيار اجتهادي على نحوٍ ما. فبالنهاية، ليست هذه الاختيارات شاملة بل تمثيلية. ويصح ذلك على الأخص حين يتصل الأمر بالمفكرين الأصغر سنًا، فمن جهة لا يشق علينا اليوم تحديد المفكرين الكلاسيك ممن كتبوا في أوائل وأواسط القرن العشرين، فيما قد تكون المهمة أصعب قليلًا مع المفكرين الحديثين (1)، لكنها تزداد صعوبة عند التعاطي مع مفكري اليوم، إذْ لدينا الكثير منهم، ومن المستحيل التنبؤ بمن سيظل منهم ذو أهمية.

يقدم هذا الكتاب، رغم القيود أعلاه، فكرةً جيدة عن فكر اليمين "الراديكالي" –مصطلح نستخدمه لأنَّ لديه من النظرة المسبقة ما هو أقل مقارنةً مع البدائل الأخرى. ويتحاشى الكتاب عن قصد إطلاق الأحكام القيمية والسياسية. فالمساهمون يكتبون هنا بصفتهم باحثين، لا ناشطين، وبالمثل فهدفه بحثي. هذا وقد حاولنا التواصل مع جميع المفكرين الواردين في الكتاب ممن يزالون على قيد الحياة لإعطاءهم فرصة اقتراح تصويبات لأي أخطاء قد توجَد. بطبيعة الحال، لم نتلقَ ردًا منهم جميعًا، والبعض لم يقبل حتى القراءة والتعليق، لكننا أخذنا في حسباننا تعليقات من استجاب لنا. ولا بد أنْ نشير إلى أنَّ مسؤولية كل فصل من الفصول تقع على عاتق كاتبه.

أما فيما يتعلق بتقسيم هذا الكتاب فقد أتى في ثلاثة أقسام. يبتدئ أولها مع أربعة مفكرين "كلاسيك": أوزوالد شبِنغلِر وإرنست يونغِر وكارل شميت ويوليوس إيفولا. واخترنا هؤلاء الأربعة لكونهم، إلى جانب نيتشه وهايدغر، واجبي القراءة عند مفكري اليمين اليوم. ولعلك ترى أنَّ ثلاثة منهم ألمان (كحال نيتشه وهايدغر) وقد كانوا جزءًا من مجموعةٍ غير رسمية عُرِفَت لاحقًا بأنَّها تشكِّل مجموعة "الثورة المحافظة"، مجموعة كان رابع الأربعة، أعني إيفولا الإيطالي، قريبًا منها. نشط هؤلاء، ما عدا شبِنغلِر، في فترة كانت بلادهم تحت الحكم النازي والفاشي، بيد أنَّ واحدًا فقط، هو شميت، كان عضوًا ناشطًا في الحزب النازي. فيما امتدحت النازية يونغر وأعماله، إلَّا أنَّه لم يدعمها لا هو ولا شبِنغلِر، أما إيفولا فقد دعم في تلك الأوقات كل من النازيين والفاشيين، لكنه لم يكن عضوًا في الحزب الفاشي. إذًا، من المهم هنا التمييز بين هذه المجموعة من المفكرين الكلاسيك وبين النازية والفاشية التي عاصروها. فمن بينهم جميعًا لم يكن سوى شميت نازيًا أو فاشيًا بحق، فيما جمعَ رباطٌ قوي إيفولا بالنازية والفاشية.

كتب هؤلاء الأربعة أهم أعمالهم، باستثناء شبِنغلِر، خلال فترة ما بين الحربين، بذا أتت ممهورةً بطابع الحرب العالمية الأولى إما بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. بينما كتب شبِنغلِر عمله الأهم "أفول الغرب" خلال الحرب، حين كان انتصار الألمان ما يزال أمرًا واردًا. بينما تأثر شميت بما شهدته جمهورية فايمار من اضطرابات، والتي كان بحكم عمله كمحامٍ دستوري، منخرطًا فيها عن قرب. واستمر هؤلاء في الكتابة في فترة ما بعد الحرب، باستثناء شبِنغلِر الذي وافته المنية في عام 1936، لكن وحدها أعمال إيفولا حافظت على الأهمية نفسها التي كانت لها خلال فترة ما بين الحربين. بطبيعة الحال، وُجِد العديد من المفكرين المشابهين خلال تلك الفترة، سواء كانوا منظرين رسميين للنازية والفاشية أو مفكرين أفراد مثل هيلاير بيلوك “Hilaire Belloc”. بيد أنَّ هؤلاء الآخرين لا يحظون اليوم بمقروئيةٍ واسعة. ومن المضحك أنَّ بيلوك يجري تذكره اليوم بوصفه مؤلف كتاب مواعظ للأطفال ولكتبٍ شعرية ما زالت تحظى بشعبية واسعة في بريطانيا، يمكن مقارنته بدكتور سوس “Seuss” في أمريكا.

تعود شهرة شبِنغلِر إلى كتابه "أفول الغرب" والذي اكتسب طابعًا سياسيًا بالصدفة. إذْ كان يرمي إلى إقامة فلسفةٍ للتاريخ عبر التحليل المقارن للثقافات والحضارات السابقة، وعلى هذا الأساس خَلُصَ إلى أنَّ الغرب قد بلغ من التطور درجةً صار معها أفوله أمرًا حتميًا، ستكون بداياته مع مطلع الألفية الثالثة. قدَّمَ "أفول الغرب" فكرتين ما زالتا تحظيان بدورٍ مركزي عند اليمين الراديكالي: الرؤى الأبوكالبسية للأفول، والتركيز على الثقافات والحضارات عوضًا عن الأمم والدول.

وبالمثل، لم يقصد يونغر أنْ يكون سياسيًا، بل أتى ذلك صدفة. وتعود شهرته إلى عمله "عاصفة الفولاذ" “Storm of Steel”، وهو كتاب أدبي أكثر منه سياسي، يعرض فيه تجربته في الحرب في قالبٍ بطولي، في تناقضٍ صارخ مع أعمال أخرى مثل عمل إيريك ماريا ريمارك “Erich Maria Remarque”"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" “All Quiet on the Western Front”، وهو كتاب أدبي وذو أهمية سياسية أيضًا. لكن استنبطَ عمل يونغر تبعات سياسية واضحة من عاصفة الفولاذ: أنَّ ليبرالية القرن التاسع عشر قد ماتت. وهو بهذا الصدد يتفق مع شبِنغلِر. ويُؤخَذ يونغر اليوم عند اليمين الراديكالي مثالًا للرجولة والبطولة في النضال. وكان من بين أوائل مفكري اليمين الراديكالي الذين نجد عندهم ذلك التوجس من ظهور نخبةٍ عالمية كوزموبوليتية تفتقر إلى جذورٍ ثقافية محددة، توجسٌ يحظى بأهمية كبرى في أيامنا هذه.

في المقابل، كان شميت سياسيًا على نحو مباشر، وإنْ كان محور تركيزه هو القانون، وعلى الأخص القانون الدستوري. وانتقد العديد من افتراضات الليبرالية السياسية في عصره وهاجمها، وخاصةً الدولة البرلمانية الليبرالية. إضافةً إلى أنَّه كان باحثًا أكاديميًا متميزًا، وكانت حججه وأفكاره متكلِّفة بطريقةٍ لم تكنها حجج شبِنغلِر ويونغر. واشتغل عليها لاحقًا كل من اليسار واليمين على السواء. ولعل أكثرها أهمية عند اليمين الراديكالي تمييزه بين الصديق والعدو –كانت حجته هنا أنَّ ما تقف عليه السياسة إنما هو التمييز الأساسي بين "نحن" و"هم"، "الصديق" و"العدو"، وأنَّ على أي دولة في آخر الأمر تجسيد هذه القاعدة الأساسية للمجتمع. من جهةٍ أخرى، يشدد مفهوم شميت عن "السياسي" على الجماعة السياسية الفردية ضد الكونية الليبرالية، التي رآها كغطاء للمصالح الاقتصادية ومنذورةً للفشل، بالنظر لكونها تنكر القاعدة الأهم للجماعة السياسية، أعني التمييز بين العدو والصديق. بذا، يتابع شميت ويطوَّر الشكوك التي تطال نخبةً عالمية كونية كما رأيناها عند يونغر.

لم يكتفِ شميت بذلك بل طوَّر أيضًا تمييزًا بين "الحالة العادية" و"حالة الاستثناء" أو "الحالة الطارئة" شبه الأبوكالبسية ليجادل بأنَّ الجماعة تمتلك، أو تحتاج إلى، سيادة ما، وأنَّه في ظل ظروف معينة يكون أفضل تمثيل لهذه السيادة هو الدولة الديكتاتورية المحكومة لا بالقانون بل المراسيم. لكن غاية الأمر هي بلوغ "الحالة العادية"، حيث تستقر الأشكال السياسية كعلاقات قانونية. ولا يخفى ما تحمله هذه الحجج من إمكانيةٍ مناهضة للديمقراطية، حتى أنَّ شميت قد استخدمها لدعم الرايخ الثالث. وفي سياق متصل، شارك شميت في محاكمة اليهود إبان الحكم النازي. ومن المفارقة، أنَّ لديه علاقة فكرية وشخصية وثقى مع أفراد يهود، سواء قبل أو بعد الرايخ الثالث.

أما رابع الأربعة، إيفولا، فقد تناول السياسة بشكلٍ مباشر، وإنْ لم تكن نقطة انطلاقه سياسية بل فلسفية وروحية. فبرأيه، يفضي مفهوم "التقاليد" المستمد من الباطني الفرنسي رينيه غونون “René Guénon” رأسًا إلى تبعات سياسية سواء بالنسبة للسلطة السياسية (التي ينبغي أنْ ترتبط بالمتعالي أو التجاوزي) والمجتمع (الذي يجب أنْ يكون هرميًا). كذا يفضي إلى رؤية أبوكالبسية للأفول المحتَّم. وكانت تقاليده المفضلة هي التقاليد الوثنية، وهو موقف مناهض للمسيحية يحضر بقوة عند اليمين الراديكالي. وعلى هذا النحو، شكَّل مفهوم التقاليد أساس انخراطه في الفاشية والنازية، ولهذا السبب يُطلق على هذه الشريحة من اليمين الراديكالي تسمية "المذهب التقاليدي" “Traditionalism”. ظل هذا المفهوم أساس أعماله فترة ما بعد الحرب، والذي طوّر على أساسه نظرية نأيٍ عن السياسة “Apoliteia”، وخاصةً في كتابه "امتطاء النمر" وهو كتابه الأهم في فترة ما بعد الحرب. أما النمر الواجب امتطاؤه إلى أنْ يهدّه التعب فهو الحداثة. أما المقصود بالنأي عن السياسة “apoliteia” فهو أنَّ المرء إما ينكفئ عن السياسة كليًا، أو ينخرط في السياسة التي لا تؤثر عليه داخليًا. لكن تظل مسألة ما عناه إيفولا بالضبط، وما هي العلاقة بين “apoliteia” والعنف السياسي، مسألة جدالية. على أي حال، يكتسي هذا المفهوم أهمية عند اليمين الراديكالي، كما هو الحال مع فكرة امتطاء النمر، وهي فكرة تتناسب مع رؤية يونغر البطولية وكذلك مع أبوكالبسية شبِنغلِر وحالة الاستثناء عند شميت.

أما القسم الثاني من الكتاب فيغطي سبعة من المفكرين "الحديثين": آلان دو بِنوا “Alain De Benoist” وغيوم فايّي “Guillaume Faye” وبول غوتفريد “Paul Gottfried” وباتريك ج. بوكانان “Patrick J. Buchanan” وجاريد تايلور “Jared Taylor” وألكسندر دوغين “Alexander Dugin” وبات ياؤور “Bat Ya’or” (اسم مستعار). جميع من ذكرناهم ما زالوا على قيد الحياة ويؤلِّفون الجيل التالي لجيل المفكرين "الكلاسيك"، لكنهم يكتبون في ظل ظروف مغايرة ويعالجون عالم ما بعد الحرب لا عالم ما بين الحربين، وجميعهم سياسيون بشكلٍ واضح.

إنَّ اثنين من المفكرين المعاصرين في هذا الكتاب فرنسيان، وهما دو بِنوا وفايّي، ويُعتبَران قامتين رئيسيتين فيما يُعرَف اليوم باليمين الجديد الذي ظهر في الستينيات بموازاة اليسار الجديد صاحب الشهرة الأكبر في الفترة نفسها، وظهر هذا اليمين الجديد بفعل نفس المحفزات التي أتت باليسار الجديد إلى الوجود. ويعد أنطونيو غرامشي -المفكر الإيطالي المنتمي لتيار الماركسية الجديدة والذي كان فكره شديد الأهمية للماركسية الجديدة واليسار الجديد عقب الحرب- ذا أهمية كبيرة عند اليمين الجديد الفرنسي، الذي اعتنق الرأي القائل بأنَّ الثورة الثقافية تستبق الثورة السياسية: بمعنى، حالما تتغير طريقة تفكير الناس حول مسائل معينة، فإنَّ تغيرًا سياسيًا واجتماعيًا يغدو حتميًا. غدَت هذه الفكرة، المعروفة بـ"الميتابوليتيك" “Metapolitics”، مركزية عند اليمين الجديد الفرنسي، وعند أقسام أخرى من اليمين الراديكالي لاحقًا. صار اليمين الجديد الفرنسي نقطة مرجعية عند اليمين الراديكالي في كل مكان في الغرب، وبخاصة عند المفكر الروسي الوحيد في هذا الكتاب ألكسندر دوغين.

ينهل دو بِنوا من أعمال نيتشه وهايدغر والمفكرين الكلاسيك لليمين الراديكالي، وبالأخص يونغر (الذي كان على معرفة به، وألهمه مفهومه عن الأناركي) وشميت (الذي استخدم مفهومه عن الصديق والعدو) وشبِنغلِر. يجاهر دو بِنوا، مثله مثل إيفولا، بوثنيته. كما يردد فهم شبِنغلِر للثقافات، وإنْ كان اهتمامه بالجماعات الصغيرة يفوق اهتمام شبِنغلِر. كذلك يستشعر القلق، مثله مثل يونغر، حيال ما يسميه "أيديولوجيا تماثل" متجانسة يروّجها المذهب المساواتي (2). لذا، يدفع في وجهها ما يدعوه "الحق بأنْ تكون مختلفًا" التي طوَّرها إلى فكرة "التعددية الإثنية" لاحقًا، فكرة أنَّ المجتمعات قائمة على الإثنية لا على الحيز المكاني أو المناطقي، ويسميها فايّي "الفضاءات الإثنية" (3). كان كل من فايّي ودو بِنوا قلقين من التهديدات التي قد تطال التقاليد والثقافة الأوروبية خلال الحرب الباردة، وقد رأيَا في أول الأمر إلى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة كتهديد. لاحقًا، صارت رؤية فايّي أنَّ التهديد يتمثل بهجرة المسلمين والإسلام، وغدا الاقتران بين هجرة المسلمين والتعددية الإثنية سمة من سمات الفكر اليميني الراديكالي، وواحدًا من الأسس الرئيسية للمذهب الهوياتي الذي يشدد على أهمية حماية الهويات الإثنية. مع ذلك، لم تكن هجرة المسلمين التهديد الوحيد الذي رآه فايّي بعين "الكوارث المتلاحقة" الأبوكالبسية (4) –والذي يمثِّل في الواقع حالة استثناء تتطلب استجابةً ديكتاتورية– بل التهديد الأكثر إلحاحًا.

بينما كان ثلاثة من المفكرين "الحديثين" في هذا الكتاب أمريكان، وهم غوتفريد وبوكانان وتايلور، وقد أرسوا، بطرقِ مختلفة، مواقف فكرية متكلفة إلى اليمين من التيار الجمهوري السائد، في مساحة شغلها سابقًا مجموعة من المحافظين "الستروسيين" الذين زعموا أنهم حملة لواء ليو ستروس والمحافظين الجدد. لكن ينتمي غوتفريد وبوكانان إلى "المحافظين التقليديين"، وهي شريحة مهمة في اليمين الراديكالي الأمريكي.

وفيما يتصل بغوتفريد، وهو الذي مكنته إجادة اللغة الألمانية من مواصلة المناقشات الأوروبية لما بين الحربين في السياق الأمريكي لما بعد الحرب، فقد جادل ضد ستروس مشيرًا إلى التاريخ والتقاليد على أنَّها سلاح ضد الليبرالية والتقدم. كما ردد أفكار شميت بصدد التوجس من نخبٍ ليبرالية عالمية، يعتبرها فارغة وبلا هدف على الدوام وأساس ما يسميه "الدولة الإدارية"، وتعمل ضد الأسس التقليدية للمجتمع (5). على هذا النحو، فإنَّ غوتفريد ينتمي للمذهب التقاليدي، وإنْ بمعنى مختلف عن انتماء إيفولا. وصار هذا الشكل البديل من المذهب التقاليدي ذا أهمية بشكل خاص عند اليمين الراديكالي الأمريكي و"اليمين البديل"، وهو مصطلح ربما ساعد غوتفريد على اختراعه.

أما بوكانان فقد كان فاعلًا سياسيًا محنكًا ومراسلًا تلفزيونيًا بوسعه ترجمة الحجج الفكرية إلى شيءٍ بالوسع تسخيره كأساس للتحشيد السياسي. وكان يؤمن، مثله مثل غوتفريد، بأنَّ المجتمع الأمريكي لا يقوم على مبادئ كونية مجردة (كما يعتقد الجمهوريون) بل يقوم على تاريخه، على إرثه الأوروبي الأبيض (لا البروتستانتي الأنغلوساكسوني الأبيض “WASP” وحسب). وقد رأى بأنَّ هذا الإرث مهدد بالهجرة الجماعية، لا هجرة المسلمين (كحال فايّي) بل المكسيكيين. كما أنَّه يخشى موتًا أبوكالبسيًا للغرب (موت الغرب عنوان أحد أهم كتبه) بفعل الانهيار الديمغرافي، الذي يكمن وراءه تأثير غرامشي ومدرسة فرانكفورت. في حين ردد غوتفريد أفكار شميت بصدد التوجس من نخبٍ ليبرالية عالمية و"الدولة الإدارية"، انصب نقد بوكانان على الطبقة الإدارية "المجردة من الانتماء المكاني". وقد جمع في آخر المطاف بين ثلاثة مكونات مؤثرة: تأكيدٌ على الجماعة الأوروبية البيضاء؛ العداء للنخب العالمية؛ القلق من الهجرة. وستُثبِت هذه الخلطة لاحقًا –خلال حملة ترَمب الانتخابية في العام 2016– أنَّها خلطة رابحة.

على النقيض من غوتفريد وبوكانان، تتمحور كتابات تايلور حول العرق، وهي مسألة تشغل أجزاء من اليمين الأمريكي في فترة ما بعد الحرب بشكل أكبر من اليمين الأوروبي. ويعكس ذلك خصوصيات التاريخ الأمريكي، والتأثير المستمر لكتابات أمريكية ظهرت في فترة ما بين الحربين تناولت العرق وتحسين النسل على الطريقة النازية، ككتابات ماديسون غرانت “Madison Grant” ولوثروب ستودار “Lothrop Stoddard”. وهما مفكران لا يحظيان بشهرة خارج الولايات المتحدة. تختلف المقاربة التي يتبعها تايلور، وعدد آخر من المفكرين الأمريكيين من اليمين الراديكالي، عن نظيرتها عند المفكرين الكلاسيك في فترة ما بين الحربين، سيما شبِنغلِر الذي انتقد فكرة عرقٍ آري وارتأى مقاربة الموضوع من زاوية "الثقافات" المستقلة، كذا تختلف عن نظيرتها عند إيفولا الذي انتقد بالمثل الأساس البيولوجي للعقيدة العرقية النازية. ورغم أنَّ تايلور يعترف بأهمية الثقافة والأساس التاريخي لأي أمة، إلَّا أنَّه يشدد على الجينات. وبصرف النظر عن الاختلاف بين هذه النظرة إلى العرق ونظرة اليمين الجديد الفرنسي إلى الإثنية، يُقدَّم تايلور بوصفه من أتباع المذهب الهوياتي وكاتبًا أقام صلاتٍ باليمين الراديكالي الأوروبي ويُكِنُّ تقديرًا خاصًا لأعمال فايّي. أما موقفه بخصوص الهجرة الجماعية فيشابه موقف بوكانان، أي أنَّه يقف ضدها أيضًا.

مثلما اعتمد تايلور على تقاليد أمريكية بحتة، فالحال أنَّ ألكسندر دوغين يعتمد على تقاليد روسية تتمثل بالتقاليد الأوراسية، بالإضافة إلى هايدغر ومفكري الثورة المحافظة وأتباع المذهب التقاليدي واليمين الجديد الفرنسي، بالأخص دو بِنوا الذي استعار منه تشديده على التعددية الإثنية. وقد استفاد من الفكر الكلاسيكي والفكر الفرنسي الحديث بما يلائم الأوضاع الروسية، إذْ إنَّ روسيا دولة متعددة الإثنيات أكثر من كونها أمةً متجانسة، كما استفاد من هذا الفكر بما يلائم العلاقات الدولية المعاصرة. وتحظى رؤيته الأوراسية بجاذبية خارج روسيا، في بلدانٍ لا يروق لها العالم أحادي القطب. ولعله اليوم أكثر تأثيرًا خارج روسيا مقارنة مع تأثيره داخلها، ويرجع ذلك لفعالية نشاطه وفكره.

لم يكن فايّي المفكر الوحيد الحديث الذي ركز على الإسلام والهجرة. بل يضاف إليه بات ياؤور، وهي مفكرة تختلف جذورها الفكرية تمام الاختلاف عن تلك التي لباقي مفكري اليمين الراديكالي، كما أنَّها تختلف عنهم في كونها أنثى. إذْ إنَّ جميع مَن تناولهم هذا الكتاب كانوا ذكورًا، وهذا ليس من قبيل المصادفة كما سيتضح لاحقًا. طوَّرت بات ياؤور أفكار "عوروبا" “Eurabia” و"الذمية" “dhimmification”، وهي تمثيلات للتهديد الذي يُعتقَد أنَّ الدول الإسلامية والهجرة تدفع به في وجه أوروبا، وهو تهديد يأخذ عند البعض طابعًا أبوكالبسيًا بينما يعد محوريًا عند أكثر أقسام اليمين اليوم. ويرجع مصدر هذا التهديد في جانبٍ منه إلى المسلمين العرب، لكن مصدره الأهم هو تلك "الشبكات الإدارية الأكبر من أنْ تُرى" (6)، يُقابلها عند شميت وغوتفريد وبوكانان النخب الليبرالية العالمية. غدت فكرة أنَّ التهديد البعيد يأتي من الإسلام، فيما التهديد المباشر يأتي من نخب المرء الليبرالية، فكرةً أثيرة عند قطاعات من اليمين الراديكالي. واعتمدت بات ياؤور على كُتَّابٍ معادين للإسلام من أمثال الصحفية الإيطالية أوريانا فالاتشي “Oriana Fallaci”، لكن ما كان له كبير أثر في عملها هو دورها في الصراعات الإسرائيلية وموقعها في السياسة الإسرائيلية. من جهة أخرى، كانت أعمالها مصدر إلهامٍ للإرهابي النرويجي آندرِس بِهرينغ بريفيك “Andres Behring Breivik”. إنَّ المدى الذي بلغه الخوف من "الأسلمة" -أحد أشكال الذمية عند بات ياؤور- والتبعات السياسية لهذا على الاتجاه السياسي العام، لهو مثال بليغ على الاشتغال الميتابوليتيكي.

أما القسم الأخير من هذا الكتاب فهو مخصص لخمسة من المفكرين "الناشئين". وبطبيعة الحال، يستحيل الجزم حول أي من هؤلاء الخمسة سيبرز ويحقق مكانة وأهمية مماثلة لما حققها مفكرو القسم الأول والثاني من هذا الكتاب. ينتمي هؤلاء الخمسة إلى الجيل الشاب، ويخاطبون جمهور اليوم، عبر الإنترنت غالبًا، وجرى اختيارهم لكونهم يمثلون بعضًا من الاتجاهات التي يطورها اليمين الراديكالي اليوم. وهؤلاء هم مِنسيوس مولدباغ “Mencius Moldbug” (اسم مستعار) وغريغ جونسون “Greg Johnson” وريتشارد ب. سبِنسَر “Richard B. Spencer” وجاك دونوفان “Jack Donovan” ودانييل فرايبيرغ “Daniel Friberg”. وجميعهم أمريكان ما عدا فرايبيرغ فهو سويدي. وتعكس غلبة الأمريكان واقع أنَّ اليمين الراديكالي الأوروبي ما زال، نوعًا ما، واقعًا تحت سطوة الجيل السابق من المفكرين، بالأخص اليمين الجديد الفرنسي ودوغين. كما تعكس أيضًا واقع ما يستغرقه كاتبٌ يكتب بلغة أجنبية غير الإنكليزية ليجري ترجمته إلى الإنكليزية ويصبح من الممكن أنْ يحظى بمقروئية عالمية، وهي أحد شروط الاختيار في هذا الكتاب. وفرايبيرغ، مثله مثل العديد من السويديين، يجيد الإنكليزية إجادته للسويدية وقد تزايدت كتابته بالإنكليزية.

في السابق كان كل من مولدباغ وجونسون ليبرتاريان، وتحوَّلا عنها نحو موقف أكثر راديكالية. وفي حين ينهل مولدباغ من تحليل غرامشي للنخب الثقافية المهيمنة، فإنَّ جونسون ينهل بشكلٍ مباشر من اليمين الفرنسي والميتابوليتيك (وكذلك من هايدغر والمذهب التقاليدي). ويحذر مولدباغ، مثله مثل باقي مفكري اليمين، من النخب التقدمية وعقيدتها الكونية وبلاغتها المساواتية اللتان تخفيان حكمها و"حلقة التغذية الراجعة" التي هم جزء منها، يسميها مولدباغ "الكاتدرائية" (7). أما فيما يتصل بإدانة الديمقراطية بشكلٍ مباشر وصريح فيذهب مولدباغ أبعد من اليمين الراديكالي، مُفضِّلًا عليها الهرمية (كإيفولا).

أما جونسون، وهو مدير موقع Counter-Currents، فلعله المفكر المعاصر الأكثر راديكالية من بين المفكرين المعاصرين، من زاوية إثنية وعرقية على وجه الدقة. وهو يجاهر بعدائه للسامية، وهذا أمر غير مألوف، لا يشبهه فيه سوى شميت إبان فترة الرايخ الثالث. وبالإضافة لسيره في ركاب السردية التقاليدية حول الأفول الحتمي، يرى جونسون خطرًا مروعًا يطلق عليه "أرمجدون ديمغرافي" (8)، ويدعو صراحةً إلى ترحيلٍ قسري للسكان وتطهيرٍ عرقي غير مميت لليهود والأمريكان السود بما يسمح بقيام "دولة عرقية" بيضاء، فيما يحصل السود على دولتهم العرقية في الجنوب الأمريكي وينتقل اليهود للعيش في إسرائيل. أما فيما يتصل بالتعاطف مع النازية، فوحده جونسون من بين المفكرين المعاصرين يُعرِبُ عن تعاطفه معها. أخيرًا، فإنَّ موقعه الإلكتروني Counter-Currents قد جذب في أحد أشهر 2017 مائتي ألف زائر اطلعوا على مليون ونصف المليون من صفحات المحتوى.

أما سبِنسَر، مثله مثل غوتفريد، يزعم أنَّه مخترع مصطلح "اليمين البديل" (والذي أسس موقع AlternativeRight.com)، ولعله أشهر شخصية في اليمين الراديكالي في أمريكا، ويرجع ذلك إلى حدٍ كبير إلى الفضيحة التي أعقبت استخدام التحية الفاشية بالاقتران مع صيحات "يحيا ترَمب" خلال حدث نظَّمَه أواخر 2016. وتتشابه مواقفه إلى حدٍ بعيد مع مواقف جونسون، ويوافقه على التطهير العرقي أيضًا. كما أنَّه يجمع تأثيراتٍ أوروبية وأمريكية، وعمل سابقًا مع غوتفريد وتايلور. ويحذو حذو بوكانان في التشديد على الإرث الأوروبي الأبيض لأمريكا، ويزعم أنَّه يستلهم في عمله أفكار نيتشه وجماعة الثورة المحافظة وإيفولا واليمين الجديد الفرنسي ودوغين.

من جهة أخرى، لئن كان مولدباغ وجونسون وسبِنسَر يشبهون في بعض النواحي شخصياتٍ "قومية بيضاء" معروفة، إلّا أنَّ دونوفان يشذ عنهم بشكل واضح: فهو مثلي الجنس، ويعطي أولوية للجندر على حساب العرق أو الإثنية (9). بطبيعة الحال، اهتم اليمين الراديكالي بمسائل الجندر قبل دونوفان. فعند يونغر وإيفولا ارتبطت المناقب العسكرية بالرجال، فيما كان الجندر مسألة رئيسية صراحةً عند شبِنغلِر، الذي رأى طور النضوج لأي ثقافة باعتباره طورًا يتسم بـ"الرجولة والصرامة والسيطرة والحِدَّة" (10) وربط الأنوثة بالأناركي. أما إيفولا فقد ربط الذكر بالترقي البطولي والعلو أما الأنثى فبالأرضي والسفلي. كما كتب إيفولا عن ميتافيزيقيا الجنس باعتباره وسيلة للنفاذ إلى المتعالي أو التجاوزي. كذا تناول المفكرون المعاصرون والحديثون النسوية، التي يعدها بوكانان أحد أسباب الانهيار الديمغرافي لأوروبا الغربية وما يترتب على ذلك من مخاطر موت الغرب، بينما يرى تايلور أنَّها قد أدت إلى ولادات خارج الرباط الزوجي وما ينجم عن ذلك من مشاكل اجتماعية في أمريكا. كذلك، يهاجم جونسون النسوية. لكن هؤلاء لا يعرِّجون على الجندر إلَّا عَرَضًا، فيما يُعتبَر عند دونوفان مركزيًا.

برأي دونوفان، فمصدر التهديد بنهاية العالم يرجع إلى النسوية و"الحضارة العالمية" (11)، وإلى النخب الليبرالية المدفوعة بمصالحها الاقتصادية. أما الجماعة السياسية عنده -القائمة على التمييز بين الصديق والعدو كما طرح شميت- تتألف من عصابة أعضاؤها من الذكور فقط أو العشيرة. يجاهر دونوفان بوثنيته، مثله مثل إيفولا ودو بِنوا، وينتمي إلى مجموعة الوثنية الجديدة التي تنهل من تعاليم إيفولا. وقد كتب باستحسان عن اليمين الأوروبي الجديد، بيد أنَّه ربما متأثر أكثر بما يسميه "الفاشية الأبدية" “Ur-Fascism”، وهي الفاشية التي وجدت في دولٍ مختلفة بين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي (12). ولقد تعاون دونوفان لبعض الوقت مع جونسون وCounter-Currents. ورغم كون أفكار دونوفان غير مألوفة في بعض النواحي –خاصةً أنَّ المجاهرة بالمثلية ليست أمرًا مرحبًا به في الأوساط اليمينية–، إلّا أنَّها بمعنى من المعاني ذروة اتجاهات أخرى نلحظها عند أعلام الفكر اليميني الراديكالي.

أما آخر المفكرين الناشئين فهو فرايبيرغ، سويدي الجنسية كما سمعنا. تشكِّل الميتابوليتيك محور أفكاره، وتكون أوضح في نشاطه العملي. إذْ تروِّج منظمته "رابطة الشمال" “Nordiska förbundet” للمذهب التقاليدي في السويد ومنطقة الشمال، ويدير موقعًا بديلًا عن موقع ويكيبيديا يدعى ميتابيديا، الذي سرعان ما حوى ثلاثمائة ألف مقالة بستة عشر لغة. وتعد دار النشر آركتوس “Arktos” التي يمتلكها وتنشر باللغة الإنكليزية الناشرَ الأكبر لأدبيات اليمين الراديكالي والمذهب التقاليدي. وفي العام 2017، تحالف مع سبِنسَر رسميًا.

يتشارك هؤلاء الأعلام شيئًا بالعموم. فهم اليوم يُقرَؤون من نفس الشريحة ويَقرأ بعضهم كتابات بعض ويحيلون إلى بعضهم البعض. ويتشاركون موضوعات رئيسية. وتتمثل هذه الموضوعات بـ: (1) الرؤى الأبوكالبسية؛ (2) الخوف من النخب الليبرالية العالمية؛ (3) تبعات التمييز الشميتي [نسبة إلى كارل شميت –م] بين العدو والصديق (والتي تتضمن التعددية الإثنية)؛ (4) فكرة الميتابوليتيك.

تبدأ الرؤى الأبوكالبسية مع كتاب شبِنغلِر أفول الغرب. أما يونغر فقد كتب عن حربٍ كانت في جوهرها أبوكالبسية، فيما اكتست رؤية شميت للتحول من الحالة العادية إلى حالة الاستثناء مشحة أبوكالبسية نوعًا ما. وبنفس السياق، كانت رؤية إيفولا لحداثة ما بعد الحرب رؤية أبوكالبسية بدورها، كذا كانت مخاوف دو بِنوا من انقراض الحضارة الأوروبية إبان الحرب الباردة. كذا مخاوف انقراض الحضارة الأوروبية (أو ربما اليهومسيحية) بفعل الهجرة الجماعية للمسلمين، كما نجدها في كتابات فايّي وبات ياؤور. وبالمثل نجد رؤى أبوكالبسية شبيهة في عمل بوكانان موت الغرب وفي أعمال دوغين الذي سار على هدي إيفولا، وفي أعمال كل من مولدباغ وجونسون ودونوفان.

غالبًا ما ترتبط الأبوكالبسية بالنخب الليبرالية، وهذا قلقٌ ابتدأ مع توجس يونغر من النخبة الكوزموبوليتية العالمية التي تفتقر إلى جذرٍ [ثقافي محدد –م] وتواصلَ مع اشتباك شميت ضد الكونية الليبرالية. ونجد هذا القلق نفسه، في فترة ما بعد الحرب، عند دو بِنوا وتوجس بوكانان من "الدولة الإدارية" وعند غوتفريد ولاحقًا عند "كاتدرائية" مولدباغ ومن ثم عند اليمين برمته. يفضي تمييز شميت بين الصديق والعدو إلى تصورٍ للجماعة السياسية لا يتفق والتصورات الكلاسيكية عن الدولة ولا عن الأمة. وفي فترة ما بعد الحرب يعتبر هذا التصور -سواء اسُتقِيَ من شميت مباشرةً أم لا- واحدًا من أهم مصادر مفهوم اليمين الجديد الفرنسي عن التعددية الإثنية، وهو مفهوم يتشاركه بصورٍ مختلفة بوكانان وغوتفريد ودوغين، والذي أصبح مفهومًا مهيمنًا في اليمين البديل لاحقًا، والذي جمع إليه الكتابات الأمريكية حول العرق خلال فترة ما بين الحربين.

أما أكثر المفاهيم حضورًا وهيمنة، أقله في فترة ما بعد الحرب وأيامنا هذه، فإنَّه مفهوم اليمين الفرنسي الجديد عن الميتابوليتيك، الذي طوَّره دو بِنوا وفايّي وغيرهما عن غرامشي، واستخدمه لاحقًا مولدباغ وجونسون بالأخص، وشكَّل أساس أفكار ونشاط فرايبيرغ.

من جهة أخرى ثمَّة إلى جانب الموضوعات الأربع الرئيسية أعلاه عددٌ من الموضوعات الأخرى، أقل شهرة وتكرارًا. نجد إحداها –احترام النضال البطولي الذي ابتدأ مع يونغر– في امتطاء نمر الحداثة كما كتب إيفولا، ونجدها مرةً أخرى في عصابات القتال عند دونوفان. وترتبط هذه الموضوعة بآراء شبِنغلِر وإيفولا حول الجندر وهذه الآراء بدورها تتصل بمعاداة النسوية عند بوكانان وتايلور وجونسون ودونوفان. أما الموضوعة الثانية فهي مفهوم التقاليد الذي ظهر مع غونون وطوَّره إيفولا واستخدمه دوغين ومولدباغ ودونوفان، لاحظ أنَّ هذا المفهوم لا يجب الخلط بينه وبين المذهب التقاليدي لغوتفريد وبوكانان. فمذهب إيفولا التقاليدي يتصل بوثنيته وبالوثنية التي نجدها عند دو بنوا ودونوفان أيضًا.

ختامًا، ثمَّة هواجس أمريكية متكررة تتصل بالعرق نجدها عند تايلور ومولدباغ وجونسون وسبِنسَر وتتردد أصداؤها عند دونوفان. أما في أوروبا فثمَّة هاجس الهجرة الجماعية والإسلام، نجده عند فايّي وبات ياؤور وفرايبيرغ. تمتزج هذه الهواجس، وهي غائبة عند المفكرين الكلاسيك، مع هواجس التهديدات الأبوكالبسية والنخب الليبرالية والتمييز بين الصديق والعدو.

تحظى اليوم قضايا العرق والإسلام والنخب بأهمية خاصة، أكثر مما تحظى به الموضوعات المشتركة عند أعلام المفكرين، وذلك لكونها تتردد وتتمتع بصدًى على مستوى الشارع والسياسة الانتخابية. ومما لا شك فيه أنَّ الرؤى الأبوكالبسية للأفول قد اضطلعت بدورٍ معين في الانتخابات الأمريكية لعام 2016، لكنها لا تتمتع بتلك الجاذبية الكبيرة. أما هاجس الجندر فإنَّ له بعض الصدى، لكنه أقل جاذبية، فيما احترام المناقب العسكرية والإحالة إلى التقاليد التجاوزية والمتعالية ليس لها أي جاذبية عند الناخبين المعاصرين.

على أي حال، لربما ما زالت هذه الهواجس تحظى بأهمية ما عند الفاعلين السياسيين الذين يتمتعون بجاذبية واسعة، لدرجة أوصوا بقراءة إيفولا على مواقعهم الإلكترونية، أتكلم هنا عن موقعين إلكترونيين أوروبيان بالتحديد هما موقع حزب غولدن داون “Chrysí Avgí” اليوناني وحزب يوبيك “Jobbik” الهنغاري. لم يفز الحزب الأول يومًا بأكثر من سبعة في المائة من أصوات اليونانيين، لكن الحزب الثاني حظي بعشرين في المائة من أصوات الهنغاريين في 2014. وكان قائد الحزب، أي حزب يوبيك، غابور فونا “Gabor Vona” قد كتب مقدمةً لمجموعة إيفولا التي نشرتها دار آركتوس ومالكها فرايبيرغ. لربما لم يسمع أي من ناخبي الحزبين باسم إيفولا، ولعل قلة منهم ستتشارك أفكاره حول الجندر أو الحرب أو الوثنية، لكن فكره ما زال يحظى بأهمية غير مباشرة في السياسة الهنغارية واليونانية، كما يحظى دون شك بأهمية في بلدانٍ أخرى سياسيوها أكثر حذر فيما ينشرونه على مواقعهم الإلكترونية وما يكتبونه من مقدمات للكتب ولأي الناشرين. ففي الولايات المتحدة، اكتفى ستيف بانون "كبير الاستراتيجيين" في إدارة ترَمب بالإحالة غير المباشرة لإيفولا ودوغين وأعرب مرة واحدة، ليس إلّا، عن تقديره لغونون، الباطني الفرنسي ملهم كل من إيفولا ودوغين (13). إذًا، يحظى أعلام الفكر الواردين هنا بأهمية في أي مكان يطل فيه اليمين، في أمريكا كما في فرنسا واليونان وروسيا وهنغاريا.


هوامش:


1- أحد مصادر إلهام هذا الكتاب هو عمل كورت لينك وغونتر ميوتر وهنريك ريكاردو أوتِن "أعلام اليمين الجديد". يناقش المؤلفون الألمان في هذا العمل، الذي تُرجِم إلى الفرنسية ولم يُترَجم إلى الإنكليزية بعد، ستة مفكرين من أعلام اليمين الجديد، ناقشنا منهم في هذا الكتاب ثلاثة. أما الثلاثة الآخرين فقد كانوا هايدغر، للأسباب الواردة سابقًا، وجورج سورل وهانز فراير، وهذان على الرغم من أهميتهما بالأخص في السياق الألماني ليسا مقروءَين على نطاقٍ واسع عالميًا.

Kurt Lenk, Günter Meuter, and Henrique Ricardo Otten, Vordenker der Neuen Rechten [Key Thinkers of the New Right] (Frankfurt: Campus Verlag, 1997).

2- Alain de Benoist, Vu de droite (Arpajon: Editions du Labyrinthe, 2001), xii.

3- Guillaume Faye, Pourquoi nous combattons: manifeste de la résistance européenne (Paris: L’Æncre, 2001), 119.

4- Guillaume Corvus, La convergence des catastrophes (Paris: Diffusion International Éditions, 2004).

5- Paul Gottfried, After Liberalism: Mass Democracy in the Managerial State (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1999).

6- Bat Ye’or, Eurabia: The Euro-Arab Axis (Madison, NJ: Farleigh Dickinson Press, 2005), 20.

7- Mencius Moldbug, “OL9: How to Uninstall a Cathedral,” UR, June 12,2008, https://unqualified-reservations.blogspot.com/2008/06/ol9-how-to-uninstall-cathedral.html.

8- Greg Johnson, “November 9, 2016,” accessed December 14, 2017, https://www.counter-currents.com/2016/11/november-9–2016/.

9- لقد رفض تعبير "شاذ جنسيًا" “gay”.

10- Oswald Spengler, Der Untergang des Abendlandes: Umrisse einer Morphologie der Weltgeschichte (Munich: C. H. Beck, 1922), 1:107–108.

11- Jack Donovan, The Way of Men (Milwaukie, OR: Dissonant Hum, 2012), 139.

12- Donovan, “Anarcho-Fascism,” Jack Donovan, March 3, 2013, archived March 3, 2017, https://web.archive.org/web/20170331060008/http://www.jack-donovan.com/axis/2013/03/anarcho-fascism/.

13- Jason Horowitz, “Steve Bannon Cited Italian Thinker Who Inspired Fascists,” New York Times, February 10, 2017, https://www.nytimes.com/2017/02/10/world/europe/bannon-vatican-julius-evola-fascism.html; Joshua Green, Devil’s Bargain: Steve Bannon, Donald Trump, and the Nationalist Uprising (New York: Penguin Press, 2017), 204–207.

Comments


bottom of page