top of page
صورة الكاتبAlaa B.H

ما بعد الكينزية: المبادئ

تأليف: مايكل روبرتس

ترجمة: علاء بريك هنيدي

رابط المادة باللغة الإنكليزية: اضغط هنا


إنَّ للاقتصاد الكينزي، شأنه شأن الاقتصاد الماركسي أو الاقتصاد السائد، عدة فروع. فثمَّة اقتصاد كينزي يُنظَر إليه في إطار معالم اقتصاد التوازن العام، حيث تميل التغيّرات في الدخل والإنفاق؛ الاستهلاك والاستثمار؛ الفائدة والتوظيف، إلى توازنٍ بين التوظيف والتضخم ما دام ليس هناك "صدمات" خارجية تطال اقتصاد السوق. وإذا انخفضت الأجور ومعدلات الفائدة بما يكفي، سيتحقق التوظيف الكامل ونمو الاستثمار.


أطلقَت جوان روبنسون، إحدى أتباع كينز، على هذا الفرع اسم «الكينزية المبتذلة» “bastardised Keynesianism”. إذْ تمحو السمات الراديكالية كافّة من الاقتصاد الكينزي، وهذه السمات بالنسبة لروبنسون –شِبهِ الماوية على الصعيد السياسي– هي أنَّ التوظيف الكامل لا يمكن تحقيقه تلقائيًا في اقتصادات «السوق» الحديثة. فالأرجح أن يكون هناك توازن بطالةٍ مُقنَّعة؛ ومرد ذلك حالة عدم اليقين بشأن المستقبل بالنسبة للرأسماليين لدى اتخاذهم قرارات الاستثمار وغياب الرشد وسط «الفاعلين» الاقتصاديين مثل المستهلكين والرأسماليين.


باتت تُعرَف وجهة النظر الراديكالية هذه للاقتصاد الكينزي بمسمى ما بعد الكينزية، حيث كان أنصارها الرئيسيون معاصرين لكينز من أمثال روبنسون والماركسي الكينزي ميكل كاليكي؛ ولاحقًا الاشتراكي الكينزي هايمَن مينسكي. أما اليوم ثمَّة مدرسة كاملة للاقتصاد ما بعد الكينزي بمجلاتها ومؤتمراتها ومراكزها الفكرية.


تهيمن ما بعد الكينزية وتؤثِّر على رؤى وسياسات الجناح اليساري في الحركات العمالية في الاقتصادات الكبرى (Corbynomics وساندرز، إلخ) –إنها الجناح الراديكالي من الاقتصاد الكينزي بالعموم، والتي هيمنت بدورها على الحركة العمالية منذ كينز (باستثناء فترات من الثمانينيات حين أثَّرت نظريات "السوق الحر" النيوليبرالية على قادة العمال لبضع عقود).


وفي مدونتي، أَسَلتُ حبرًا كثيرًا لشرح أين يختلف الاقتصاد الماركسي عن الكينزي بجميع فروعه. برأيي، تفسر مقاربةٌ ماركسية للنظرية والسياسة على نحوٍ أفضل طبيعة الرأسمالية وأيُّها السياسات الصحيحة التي على الحركة العمالية تبنيها في صراعها ضد رأس المال ونضالها لمجتمعٍ أفضل للجميع. في الواقع، أعتقد أنَّ الاقتصاد الكينزي لا يمكنه تحقيق ذلك، ويرجع هذا أساسًا إلى كون تحليله للرأسمالية خاطئًا. علاوة على ذلك، فخلاصته السياسية ترى بأنَّه يمكن إصلاح الرأسمالية أو إدارتها لصالح الجميع مع بضع تعديلات سياسية حاذقة.


إنَّ النظرية ما بعد الكينزية، لكونها تبدو أكثر راديكالية (من حيث اعتقادها بعدم إمكانية إدارة الرأسمالية بسهولة لنفع الكل) ولكون العديد من شُرَّاحها يعتبرون أنفسهم اشتراكيين (أو حتى ماركسيين)، تُعدُّ على هذا النحو أكثر تضليلًا، إذْ تستند إلى رؤيةٍ راديكالية عن الكينزية، رغم أنَّ كينز بالكاد كان هذا الراديكالي الذي يظنه أتباع ما بعد الكينزية.


لذا، دعوني مرةً أخرى أنظر في أفكار الاقتصاد ما بعد الكينزي الأولية.


للقيام بهذا، سأعتمد على تدوينةٍ حديثة بعنوان «نظرة ما بعد الكينزية إلى العالم في خمسة مبادئ»، استنادًا إلى حديثٍ قدَّمه «أليكس» إلى معهد بيرغروين “Berggruen Institute” عبر تطبيق زوم.


يخبرنا أليكس بدايةً حول ازدياد شعبية «ما بعد الكينزية» عقب الانهيار المالي العالمي والركود الكوروني. يعتقد أليكس أنَّ ما بعد الكينزية قد غدت شائعة لأنَّ "أسواق المال تحبها، لكونها تقدم شرحًا جيدًا لكيفية عمل الاقتصاد، وهذا مفيد في حال كان راتبك يعتمد على فهم الاقتصاد".


لا أعتقدُ بأنَّ "محبة" المحللين الماليين لها كما يبدو، تُشكِّل سببًا وجيهًا للاتفاق مع ما بعد الكينزية. لكن أليكس يتابع ليشرح بأنَّ ما بعد الكينزية "توفر استدلالات سببية جيدة لفهم تأثير التدفقات المالية على الإنتاج وعلى الاقتصاد ككل. كما توفر نصحًا واقعيًا حول تأثير السياسة الحكومية على النتائج الاقتصادية. إنَّ الدين العام يختلف عن الدين الخاص، فعرض النقود لا يسبب التضخم، ولا بد للدين الخاص في نهاية المطاف من التجدد، فيما سيكون لهذا تأثيرات ملموسة ما لم يحدث".


إذًا، تخبرنا ما بعد الكينزية على نحوٍ أفضل، وفقًا لأليكس، عن كيفية عمل الاقتصاد الحديث ولِم يُعتَبَر الدين (لا سيما الدين الخاص) ذا أهمية. ويعتقد أليكس أنَّ أحد فروع ما بعد الكينزية، النظرية النقدية الحديثة، قد ساعدنا مؤخرًا على فهم عمل النقود في الرأسمالية، فكما يقول "نشأت النظرية النقدية الحديثة من الأجندات البحثية لما بعد الكينزية، وجلّ نموذجها الاقتصاد ما يزال ما بعد كينزي في بنيته". بذا ينطبق نقدي للنظرية النقدية الحديثة على ما بعد الكينزية أيضًا.


يطرح أليكس الآن ملاحظة مثيرة للاهتمام. "في اقتصادٍ رأسمالي، يتم الإنتاج بهدف الربح لا الاستعمال. على هذا النحو، تُقاس القيمة في الغالب باستخدام العرف الاجتماعي للمحاسبة. ويجري الإنتاج في استباقٍ يتوقع تدفقات النقود، مثلما هو الحال في الاستثمار والاستهلاك. من هذه الزاوية، فقيمة الأشياء تساوي قيمتها الدفترية، أكثر أو أقل، ويتصرف الفاعلون الاقتصاديون على أساس هذه القيم الدفترية. وما يعتقده ما بعد الكينزيين هو أنَّ هذا يمثل نقطة بدايةٍ جيدة للتنظير الاقتصادي، أي أنْ تستخدم الكميات ذاتها التي يستخدمها الفاعلون أنفسهم".


ما الذي يعنيه هذا؟ يبدو أنَّ أليكس يتبنى النقطة الأساسية في قانون ماركس عن القيمة: أي أنَّ الإنتاج الرأسمالي يستهدف الربح لا الاستعمال الاجتماعي. وينبغي علينا قياس القيم بالنقود كما يفعل الرأسماليون. يبدو هذا واعدًا. لكن أليكس ينتقل بعد ذاك مباشرةً للحديث عن تدفُّقات النقود والاستثمار والاستهلاك. فلا تحضر بعدئذٍ أيُّ إشارةٍ إلى دور الربح، بعد أنْ أخبرنا بأنَّ الإنتاج الرأسمالي يستهدف الربح لا الاستثمار أو الاستهلاك. برأيي، هذا أمرٌ متوقع من أتباع ما بعد الكينزية. إذْ سرعان ما يستغنون عن الربح من شروحاتهم النظرية، كما سنرى بعد قليل.


بعد الاستغناء عن دور الربح، يخبرنا أليكس أنَّ علينا بدلًا من ذلك النظر إلى الاقتصادات الحديثة من "منظور قائم على الميزانية العمومية للاقتصاد ككل. لدى الفاعلين الأفراد أصولًا والتزامات ومداخيل ونفقات. فأصلُ أحدهم هو التزامُ آخر، والعكس بالعكس. كل شيءٍ مترابط عبر استخدام هذه الأعراف".


بذا، ننتقل من المحرك أو الدافع الكامن وراء الاقتصادات الرأسمالية: الربح وما يحدثُ للأرباح والربحية إلى "دراسة تدفق المدفوعات وتراكم الأصول، لا تخصيص الموارد النادرة لتحقيق أكفأ غاياتها. تتجلى إحدى فوائد هذه المقاربة في أنَّها تستبعد بعض النتائج المستحيلة: لا يمكن للجميع تحقيق فائضٍ تجاري، إذا كان هناك عجز تجاري، يتعين على القطاع الخاص أو العام إدارة عجزٍ ليموّله".


إذًا، جرى إرجاعنا سريعًا إلى المتطابقات الماكروية عند تحليل الاقتصادات، أي أنَّ الدخل=الإنفاق؛ عجوزات القطاعين العام والخاص وفوائضهما؛ الموازين التجارية، إلخ. لا إلى الربح أو منشأ الربح.


"مبدأنا التالي، أنَّ كل شيء إنما هو توقع". يخبرنا أليكس عن مبدأ رئيسي عند ما بعد الكينزية، ألا وهو النظر إلى "التوقعات". "توجِّهُ التوقعاتُ الأفعالَ، وهذه بدورها تخلق الواقع. ولعل النموذج الأبسط عن الدورة السببية الكينزية هي القول إنَّ الطلب المتوقع يسوق الاستثمار، والاستثمار يسوق التوظيف، والتوظيف يسوق الأجور، والأجور تسوق الاستهلاك، والاستهلاك يسوق الطلب، والطلب يبرر الاستثمار. يسوق الطلب المتوقع الاستثمارَ لأن الأعمال التجارية لا تستثمر في قدرة إضافية أو في تعيين مزيدٍ من العمال إلا حين تعتقد بأن مزيدًا من الأشخاص سوف يريدون شراء منتجهم في المستقبل أكثر مما يشترون في الوقت الحالي. في حال توقعوا الطلب ذاته، أو أقل، فلن يكونوا بحاجة للاستثمار على الإطلاق. يمكنهم مواصلة العمل بالمعدات والتجهيزات ذاتها".

إذًا ها نحن ذا. في ظل الرأسمالية، لا يسوق الربحُ أو الربحية الاستثمارَ، إنما "التوقعات"، وليس حتى الربح المستقبلي [أي المتوقع –م]، بل "الطلب المتوقع". هذا ما يسوق الاستثمار الذي يفضي بدوره إلى التوظيف والأجور.


لكن أهذا هو التتابع السببي في الإنتاج والتراكم الرأسماليين؟ لقد بيَّنت في تدويناتي السابقة المعادلات الماكروية الرئيسية في المتطابقات الما بعد كينزية، وأدرجها هنا مرةً أخرى.


الدخل القومي=الإنفاق القومي الدخل القومي=الأرباح+الأجور الإنفاق القومي=الاستثمار+الاستهلاك بذا، الأرباح+الأجور= الاستثمار+الاستهلاك


في حال افترضنا أنَّ العمال ينفقون كامل أجورهم على الاستهلاك، ويستثمر الرأسماليون كامل أرباحهم، فإننا نحصل على:

الأرباح=الاستثمار


بحسب النظرية ما بعد الكينزية، فإنَّ الاستثمار يسوق الأرباح، لا العكس. ويسوق "الطلب المتوقع" الاستثمار (يقول أليكس) ويسوق الاستثمار الأجور والأرباح.


أو كما قال ميكل كاليكي صاحب هذه المعادلة: "ينفق العمال (الاستهلاك) ما يحصلون عليه (الأجور)؛ ويحصل الرأسماليون على (الأرباح) ما ينفقونه (الاستثمار)".


برأيي، من الواضح أنَّ وجهة النظر هذه عن الاقتصاد الرأسمالي مغلوطة. فبدلًا من سَوق الاستثمار للأرباح كما ورد بعاليه، يخبرنا الواقع أنَّ الأرباح هي من تسوق الاستثمار. وعليه، لا يأتي الاستثمار الرأسمالي نتيجة لمستوى "الطلب المتوقع"، أو بعض الرؤى النفسية الذاتية عند مستثمرين لديهم ما أسماه كينز "أرواح حيوانية"، بل يأتي نتيجة مقياسٍ موضوعي (غالبًا الربحية) سابق للاستثمار. لكن لا تريد ما بعد الكينزية، حالها حال كينز، وضع الأرباح في المقدمة، بل تختزلها إلى إحدى نتائج الاستثمار (أو في الحقيقة، إخفاءها من التحليل كليًا). للاستزادة في هذا الشأن، اقرأ الفصل الثالث الممتاز لخوسيه تابيا في كتاب العالم في أزمة.


يُحيلُ أليكس إلى عمل هايمَن مينسكي، وهو منظِّرٌ ما بعد كينزي يعتمد بشدة على "التوقعات" لشرح القرارات الاستثمارية. "أسهب هايمَن مينسكي في الحديث عن هذا: إذا ما ظننت بأنَّ سعر أصلٍ ما سيرتفع بشدة، ستشرع في شرائه لتحقيق ربح. بل ويمكنك اقتراض النقود بضمانته واستخدامها لشراء المزيد. مع ارتفاع السعر، تزداد بالتبعية كمية النقود التي يمكنك اقتراضها بضمانته، ويبدأ السعر في التحليق. كانت حادثة شركة GameStop الشهر الفائت نسخة عن هذه استخدمت خيارات الشراء بدلًا من القروض بالهامش، لكنها مماثلة من حيث المبدأ. تأتي المشكلة عند مينسكي حين ينقطع الاقتراض: ما من شيءٍ لدعم الأسعار وينهار كل شيء. في بعض الأحيان، يمكن للتوقعات المتطرفة أن تولد جنونًا في الأسواق المالية قد يكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد".


إذًا، وفقًا لأليكس (ومينسكي) فإنَّ «التوقعات المتطرفة» تخلق "جنونًا في أسواق المال" يتسبب في انهيارِ كامل الاقتصاد كما حدث في الأزمة المالية العالمية عام 2008. لكن لِم ينهار كل شيء بعدما كان يسير في أحسن حال –جلي أنَّ ذلك بسبب «التوقعات المتطرفة»؟ لكنها إجابةٌ تطرح فقط سؤال لمَ تكون التوقعات جيدة عند نقطةٍ ما ثم «متطرفة» عند أخرى. ما الذي يجعلها متطرفة؟


لا ريب أنَّ المينسكيين [نسبة إلى مينسكي –م] سيقتبسون عبارة مينسكي الشهيرة عن أنَّ "الاستقرار يبذرُ عدم الاستقرار". مرةً أخرى، هذه ليست سوى عبارةٍ حاذقة لتغطية حقيقة أنَّ النظرية ما بعد الكينزية تفتقر إلى نظريةٍ عن الأزمات المالية، خلا أنَّها تَحدُث حين تصبح الأمور «متطرفة».


من وجهة نظري، لدى النظرية الاقتصادية الماركسية إجابةً، تعتمدُ على نظرةٍ موضوعية لقوانين الحركة في ظل الرأسمالية، وعلى وجه الخصوص، التغيرات في ربحية رأس المال الإنتاجي (خالق-القيمة). ففي حال كانت الربحية منخفضة في القطاعات الإنتاجية، يحاول الرأسماليون مواجهة ذلك بعدة طرق، إحداها الاستثمار فيما أسماه ماركس رأس المال الوهمي. لكن الأرباح المالية لم تزل تعتمد على ربحية القطاعات الإنتاجية، وإذا انخفضت الربحية إلى حدٍ ينخفض معه مقدار الربح أو القيمة الجديدة (الأجور والأرباح)، عندئذٍ ينجم عن ذلك أزمة في القطاع الإنتاجي تنتقل بدورها إلى القطاع المالي. لقد قدمتُ وباحثين ماركسيين آخرين دلائل إمبريقية كثيرة لتفسير الركودات، وعلى الأخص تفسير الأزمة المالية العالمية وما ترتب عليها من ركود عظيم، لا كـ«لحظة مينسكي» حين ينقلب الاستقرار المالي فجأةً إلى عدم استقرار، بل كـ«لحظة ماركس» حين تهوي الأرباح منخفضة إلى حدٍ يتحتم معه تخفيض قيمة وسائل الإنتاج والعمل، بما في ذلك الأصول الوهمية.


في الواقع، كما بيَّن غوغليلمو كاركيدي (انظر الصورة أدناه)، حين تبدأ كل من الأرباح المالية وأرباح القطاع الإنتاجي بالإنخفاض، فإنَّ هذا يتسبب في حدوث هبوطٍ اقتصادي مفاجئ. هذا ما يدلّل عليه هبوط ما بعد الحرب في الولايات المتحدة. لكن أزمةً مالية في حد ذاتها (مقاسة بهبوط الأرباح المالية) لا تفضي إلى هبوطٍ مفاجئ في حال استمرت أرباح القطاع الإنتاجي بالارتفاع. انظر في هذا ما كتبه كاركيدي في الفصل الثاني من كتاب العالم في أزمة، الصفحات من 59 إلى 62.


غير أنَّ أليكس يتابع في وجهة النظر الما بعد كينزية ليقول "يخلق الطلبُ العرضَ عبرَ سوقه الاستثمار. ثم يخلق الاستثمارُ كلًا من المدخرات ورصيد رأس المال، في حين يخلق رصيد رأس المال بدوره الموارد". من جديد، ما من تفسير، أيًا كان، لسبب أنَّ تباطؤ الطلب أو انخفاضه يُفضي إلى انهيار الاستثمار. يقول أليكس "يسوق الاستهلاك، لا المدخرات، الاستثمار ويُعينُ المجتمع على الاستعداد للمستقبل". غير أنَّ الدليل الإمبريقي على العكس من ذلك. إذْ في كل ركودٍ شهدته الولايات المتحدة منذ العام 1945، كان الاستثمار هو مَن تراجع أولًا، في حين أنَّ الاستهلاك بالكاد قد هوى. وبصورة حاسمة، فإنَّ الأرباح هي من أفضَت بالاستثمار إلى حالة الهبوط المفاجئ وإلى الخروج من هذه الحالة، لا العكس.


يقتبس أليكس "يستشهد كينز بكتاب حكاية النحل [لبرنار ماندِفل –م] في كتابه النظرية العامة. وباختصار، تروي الحكاية قصة مجتمعٍ يحظر المنتجات الفاخرة، ليجد نفسه أفقر لدرجة أنَّ كل مَن اعتاد العمل في إنتاج السلع الفاخرة صار بلا عمل". لدينا هنا الحجة السخيفة المُقدَّمة من كينز والقسيس الرجعي توماس مالثوس من قبله، ومفادها أنَّه بدون إنفاق الأغنياء؛ سيكون هناك "نقص في الطلب" وسيدخل الاقتصاد مرحلة هبوطٍ مفاجئ. هذه كلماتٌ تطربُ لها آذان المليارديرات أصحاب شركات التكنولوجيا العملاقة، (بصرف النظر عن كونها إمبريقيًا غير صائبة، حيث تُظهِر عديد الدراسات أنّ الأغنياء يميلون للإدخار أكثر من الفقراء، كما فعلوا في الركود الكورونِي).


بحسب أليكس، ما هو خاطئ عند نظريات الأزمة البديلة هو افتراضها أنَّ الاستثمار ينبغي أن يأتي من المدخرات، مما يحتِّم معه تقليص الاستهلاك بغية إفساح المجال أمام الاستثمار. "في القصة الريكاردية، والتي ما تزال مستخدمةً اليوم عند المدرستان الماركسية والنمسوية، تُشكِّل المدخرات الرصيد الرئيسي للاستثمار. ويقول الافتراض، إنَّ للاقتصاد قدرة قصوى يعمل بها عادةً، وأنَّ ما لا يُستهلَك في فترةٍ معينة يجري إدخاره. ولكي نستثمر، لا بد للمدخرات أن تأتي أولًا، وعليه يكون من الطبيعي تقليص الاستهلاك بغية زيادة الاستثمار".


يعتقد أليكس بأنَّ كينز قد حطَّم هذه الرؤية بفكرته عن مفارقة التوفير “Paradox of Thrift”. "إذا حاول الجميع زيادة معدل إدخارهم، فهذا يعني أنَّهم يقتطعون من معدل استهلاكهم. وفي حال انخفض معدل استهلاكهم، ستنخفض مداخيل مَن يبيعون أشياءَ للاستهلاك. ومع بقاء الاستثمار ثابتًا وانخفاض الاستهلاك، سينخفض الناتج الإجمالي. يرتفع معدل الإدخار، ولكن فقط لأنَّ الجميع الآن يدخرون المقدار نفسه بالدولار من دخلٍ أقل بالدولار".


كما يقول أليكس، فإنَّ الاقتصادي الما بعد كينزي ميكل كاليكي "ينظر إلى الفكرة ذاتها من زاوية الشركة، لا زاوية الأسرة. ففي حال قلَّص أرباب العمل التكاليف بتقليصهم مجمل الأجور، سينتهي بهم الأمر إلى تفتيت قاعدة الاستهلاك للاقتصاد ككل، مما يقلل الأرباح. الآن، إذا فعلت العكس وتركت الأجور ترتفع، سيرتفع معها بالمعية معدل الأرباح".


ثمَّة أمران هنا. لعلَّها وجهة نظر المدرسة النمسوية بأنَّ المدخرات ضرورية للاستثمار، لكنها لسيت وجهة نظر المدرسة الماركسية. فليست «المدخرات» ما يلزم للاستثمار، بل الأرباح أو المدخرات الرأسمالية. وليست المدخرات المنزلية لازمةً لبدء عملية التراكم الرأسمالي. وما يعقب هذا هو أنَّ الأرباح عندئذٍ تقود الاستثمار الذي يقود بدوره إلى التوظيف والدخل وأخيرًا الاستهلاك –وجهة النظر الما بعد كينزية معاكسة. أيهما صائب؟ لقد أجبت على هذا السؤال سلفًا وأوردت الأدلة بالفعل.


في الواقع، لا يتعلق الأمر بـ«مفارقة الإدخار» على النمط الكينزي، بل بـ«مفارقة الربحية»، بمعنى حين يسعى الرأسماليون جاهدين لزيادة ربحيتهم الفردية عبر الاستثمار في وسائل الإنتاج والتخلي عن العمالة، فإنَّهم في واقع الأمر يقللون من الربحية الإجمالية للاقتصاد الرأسمالي ويثيرون في آخر المطاف أزمةً.


أما الأمر الثاني فهو أنَّ نظرية كاليكي تفضي إلى رؤيةِ انتقائية للأزمات. فبعض الأحيان تكون «مدفوعة بالأجور»، أي أنَّ الأجور والاستهلاك أقل من أن يحافظا على النمو، وفي أحيان أخرى تكون «مدفوعة بالأرباح»، أي أنَّ الأجور جد مرتفعة والأرباح جد منخفضة للحفاظ على النمو. لكن السببان لا يجتمعان معًا. بذا، ما من نظرية متماسكة عن مسببات الأزمات الدورية والتي تقع كل 8-10 سنوات؛ فمراتٍ ترجع إلى سببٍ ما، ومرات أخرى إلى سببٍ آخر مختلف.


يقودني هذا إلى الخلاصات السياسية عند ما بعد الكينزية كما أعرب عنها أليكس. فهو لا يرى ضرورة إنهاء نظام السوق في الإنتاج والاستثمار. بدلًا من هذا، تقع مهمة تنظيم ومواجهة إخفاقات الاقتصاد الرأسمالي وتفاوتاته على كاهل الدولة. وكما يقول أليكس "هذا توسيعٌ لموقف جون كينيث غالبرايث ومفاده: يُفترَضُ بالدولة أن تكون "قوةً مقابلة أو موازنة" لقوة الشركات في السوق. ففي حال لم يعجبها التأثير الاجتماعي لطريقة إدارة الأسواق من قبل جهات القطاع الخاص الفاعلة، فإنها تقدر بشكلٍ أو آخر على التدخل وتغيير الأمور. ويستحيل القول بأنَّ هذا غير شرعي، لأن الدولة جهة فاعلة من بين عدة جهات في السوق، ولكن ليس من الراديكالية أيضًا القول بأنَّها شرعية". أجل، ليست راديكالية البتة.


كما ترى، بالنسبة لأليكس وما بعد الكينزيين "ليس السوق سوى تقنية إدارية تمدُّ الفاعلين بمكانٍ للتنسيق. وليس مؤشر السعر إلا مؤشرًا من بين عدة مؤشرات نحصل عليها من سوقٍ يعمل على نحوٍ جيد". حقَا، سوقٌ «يعمل على نحوٍ جيد»؟ بالكاد يُفترَضُ لوجهة النظر هذه أن تكون وجهة نظر الما بعد كينزيين، صحيح؟ أو لعلها كذلك.


يتابع أليكس ليهاجِم النظرية الطبقية للرأسمالية الحديثة: "إنّ الفكرة القائلة بوجود منطقٍ عالمي يشمل كافة هياكل حوكمة السوق المحتملة، والتي جرى التوصل إليها عبر العمليات أعلاه، تنتهي إلى الحكم على معظم التحليلات السائدة بالفشل، وكذلك معظم التحليلات الماركسية أيضًا. فما من «منطقٍ» موحدٍ كامن في الرأسمالية، بل مجرد عددٍ من هياكل الحوكمة التكرارية والمتنافسة. وما من سلوكٍ فردي أو جماعي يوازي السلوك الهيكلي المنظومي".


يبغي أليكس رفض الفكرة الماركسية القائلة بوجود بنى اجتماعية محددة تقوم على أنماط مختلفة من الإنتاج وطبقاتٍ تقوم على هذه الأنماط والبُنى. وبالنسبة إليه، ليس الاقتصاد اقتصادًا سياسيًا، بل اقتصاد يتمحور حول إقامة «تقينةٍ إدارية» لجعل الرأسمالية تعمل لصالح الجميع.


لذا، حين نصل إلى نهاية التحليل النظري ينتهي بنا الأمر أيضًا مع وجهة نظرٍ هي ذاتها تقريبًا وجهة النظر المؤيدة للرأسمالية، من شاكلة «الكينزية المبتذلة» أو حتى الاقتصاد النيوكلاسيكي السائد. ويتمثل هدف السياسي الناتج عن ما بعد الكينزية في تنظيم النظام الرأسمالي واستخدام الدولة لـ«مواجهة» إخفاقاته بغية إنتاج «سوقٍ يعمل على نحوٍ أفضل». لكن حتى أليكس عليه الإقرار في نهاية شرحِه «مبادئَ» ما بعد الكينزية بأنَّ "ما من نظامٍ تنظيمي نهائي على الإطلاق، ولن تصل الرأسمالية إلى أي حل، أما الهدف الوحيد فهو مواصلة الانتقال نحو التالي." صدقت.

Comments


bottom of page