top of page
صورة الكاتبAlaa B.H

فرانكو موريتي ودومينِك بيستري: لغة البنك -لغة تقارير البنك الدولي (1 من 2)

تاريخ التحديث: ٦ يوليو ٢٠٢٠



من المترجم:
تنشر لكم المُتَلَمِّس هذه الدراسة على جزأيْن، إذْ أتت بالأساس في قسمين يتناول أولهما الدلالات (Semantics)، فيما الثاني يتناول الأنماط النحوية. مع ذلك، فلئن أتاح لنا هذا التقسيم الثنائي نشرَها على جزأيْن، إلّا أنَّه من الواجب قراءتهما معًا لكي تكتمل الفكرة التي اشتغل عليها الباحثان. ومرد هذا التقسيم، لا يقع في ورود الدراسة في قسمَيْن، بل يقع في اعتباراتٍ تقنية وهذا أولًا، وثانيًا في أنَّ نص الدراسة طويل ومجهد قد يصرف القارئ عن متابعة قراءته، فبنشرها على جزأيْن ستكون أسهل وأيسر للمتابعة. 
هذه الدراسة تستقي عنوانها من تعبيرٍ صاغه جورج أورويل في روايته 1984 ألا وهو "اللغة الجديدة" "Newspeak"، حيث يجري تطويرها [أم أقول مسخها؟] لتُوصِل إلى متلقيها رسالةً يُريدُ واضع هذه اللغة [أي السلطة] إيصالها، وبما أنَّ اللغة وعاء الفكر فينتج بالمعية أنَّها تقولب فكر ووعي مستخدمها في شكلٍ اختِيرَ له سلفًا. على هذا الأساس وافتراقًا عن عالم الرواية، ولكن اختراقًا لعالم المؤسسات الدولية، يزيل الباحثان عن أعيننا غشاوةً، فعلًا وحقيقةً، إذْ كُنا غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْا عَنا غِطَاءَنا فَبَصَرُنا الْيَوْمَ حَدِيدٌ.
لا يسعني، أخيرًا، إلّا أنْ أؤكد مرةً أخرى على ضرورة قراءة الجزأيْن، وعدم الاكتفاء بأحدهما دون الآخر، فهذه الدراسة تستحق عناء المعافرة والنزول إلى النهر والتقاطها... 

نُشِرَت هذه الدراسة في موقع نيوليفت ريفيو، لقراءتها باللغة الإنكليزية اضغط هنا

__________________________

ماذا بوسع التحليل اللغوي الكمي أنْ يخبرنا عن عمليات ومنظور المؤسسات المالية الدولية؟ للوهلة الأولى، تُعطي الكلمات الأكثر استخدامًا في التقارير السنوية للبنك الدولي انطباعًا بالتواصل غير المنقطع[1]. حيث تتربع على القمة سبع كلمات: ثلاثة أسماء –

البنك؛ القرض/القروض؛ التنمية[2]– وأربع صفات: مالي[3]؛ اقتصادي؛ تمويلي[4]؛ خاص[5]. ينضم إلى هذه السباعية حفنة من الأسماء: البنك الدولي للإنشاء والتعمير (IBRD)؛ البلدان؛ استثمار/ات؛ الفائدة؛ برنامج/برامج؛ مشروع/مشاريع؛ دعم،[6] بالإضافة إلى –وإنْ بشكلٍ أقل تكرارًا– إقراض؛ نمو؛ كلفة؛ دَيْن؛ تجارة؛ أسعار[7]. ثمَّة أيضًا مجموعة أخرى وأكثر حيادية من الصفات –آخر؛ جديد؛ مثل؛ صافي؛ أول؛ أكثر؛ عام– إضافةً لـ زراعي، وقد استُبدِلَت جزئيًا منذ التسعينيات بـ ريفي([8])([9]). إذن، فالرسالة واضحة: يُقرِض البنك الدولي الأموال لغرض تحفيز التنمية، سيما في الريف الجنوبي، ولذا فإنَّه ينخرط في القروض والاستثمارات والديون. ويعمل البنك من خلال البرامج والمشاريع، ويَعتبِرُ التجارة المورد الرئيسي للنمو الاقتصادي. ويتعامل البنك، بالنظر لكونه يُعنَى بالتنمية، مع كافة أشكال المسائل الاقتصادية والتمويلية والمالية، وهو على اتصال بالأعمال التجارية الخاصة. يا لها من رسالة جد بسيطة ومباشرة.

بيد أنَّه وراء هذا الاتساق المزيف جرى تحولٌ كبير. إليكم كيف وصفَ تقريرُ البنكِ الدولي العالمَ في العام 1958:

"إنَّ منظومة النقل الحالية في الكونغو موجَّهة بالأساس للتجارة التصديرية، وتقوم على الملاحة النهرية والسكك الحديدية التي تصل بين الموانئ النهرية والمناطق المُنتِجة للمعادن والسلع الزراعية. تمتد أغلب هذه الطرق على مسافات قصيرة من المدن مؤمِّنة الاتصال بين المزارع والأسواق. وقد ازداد الازدحام المروري في السنوات الأخيرة بسرعة مع نمو السوق المحلي، وتحسين طرائق الزراعة."

وههنا تقرير آخر بعد مضي نصف قرن، في العام 2008:

"تحقيق المساواة بين الجميع في القضايا العالمية
تبرز بلدان هذه المنطقة كأطراف رئيسية بشأن قضايا هي محل الاهتمام العالمي. وتمثّل دور البنك في مساندة جهود تلك البلدان عن طريق تكوين شراكة من خلال مرتكزات مبتكرة للحوار المستنير والعمل على أرض الواقع. بالإضافة إلى مساندة التعاون فيما بين بلدان الجنوب[10]."

تكاد تكون لغةً مختلفة، على مستوى كل من الدلالات والنحو. وكما سنرى، فإنَّ الانقطاع الرئيسي يقع بين العقود الثلاثة الأولى والعقدَيْن الأخيرَيْن، من منعطف التسعينيات، حين غدا أسلوب التقارير أكثر ترميزًا وإحالةً لذاته ومفصولًا عن اللغة اليومية. على هذا، ستكون لغة البنك “BankSpeak” بطلَ الصفحات التالية من هذه الدراسة.


تحولاتٌ دلالية

تحتل الأسماء موقعًا محوريًا في تقارير البنك الدولي. ويمكن إجمال الأكثر تكرارًا منها خلال العقدَيْن الأولَيْن، 1950-1970، في مجموعتَيْن رئيسيتَيْن. تشمل أولهما، بطبيعة الحال، الأنشطة الاقتصادية للبنك: القرض/القروض؛ التنمية؛ الطاقة (بمعنى الكهرباء)؛ برنامج؛ مشاريع؛ استثمار؛ معدات؛ إنتاج؛ تشييد؛ مصنع[11]؛ يتلوها الشركات؛ تسهيلات؛ صناعة؛ آلات[12]؛ ثم تُتبَع بسلسلة من المصطلحات الملموسة على شاكلة ميناء؛ طريق؛ فولاذ؛ ري؛ كيلوواط/ساعة؛ نهر؛ طريق سريع؛ سكة حديد[13] –ومن ثمَّ الأخشاب؛ اللباب؛ الفحم؛ الحديد؛ البخار؛ الصلب؛ القاطرات؛ الديزل؛ الشحن؛ السدود؛ الجسور؛ الإسمنت؛ المواد الكيميائية؛ الآكرات؛ الهيكتارات؛ تصريف المياه؛ البذار؛ الماشية؛ الثروة الحيوانية[14]. كل هذا مناسب وملائم تمامًا لبنكٍ يقدم القروض والاستثمارات (المصطلح المالي الوحيد في هذه القائمة الطويلة) للتشجيع على مجموعة متنوعة من مشاريع تنمية وتطوير البنية التحتية[15].

أما المجموعة الثانية فهي أصغر بشكل ملحوظ (دزينة من الكلمات وحسب)، وتصف كيف يشتغل البنك فعليًا. يقوم خبراؤه، في مواجهة المطالبات القائمة، بتحليل الأرقام، وعمل الزيارات، وإجراء الاستطلاعات، والقيام بمهام على الأرض؛ وهذه هي العناصر الكلاسيكية للمقاربة العلمية لحالةٍ متشابكة/معقدة، والتي تتطلب حضورًا فاعلًا للخبراء بغية جمع البيانات ودراستها. وفي وقتٍ لاحق، يقوم البنك بـ تقديم المشورة واقتراح الحلول ودعم الحكومات المحلية وتخصيص قروضها. من الناحية البلاغية، تُحدَّد البرامج الاستثمارية من واقع حاجات الاقتصاد المحلي وفقًا للفكرة القائلة بأنَّ الاستثمار في البنية التحتية سيؤدي إلى التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي. ويحدد البنك في نهاية كل دورة ما أٌقرِضَ وأٌنفِقَ ودُفِعَ وبِيعَ، ويصف تلك المعدات –السدود والمصانع ومنظومات الري– التي وُضِعَت قيد التشغيل. تُقامُ صلة واضحة بين المعرفة الإمبريقية والتدفقات النقدية والإنشاءات الصناعية: هكذا ترتبط المعرفة مع الوجود المادي في المكان، ومع الحسابات التي تتم في المقرات الرئيسية للبنك؛ تنطوي التدفقات النقدية على التفاوض على القروض والاستثمارات مع الدول؛ والنتيجة النهائية لهذه العملية ككل هي تشييد الموانئ ومصانع الطاقة وما إلى ذلك. ثمَّة في هذا التتابع الزمني البارز إحساسٌ قوي بالسببية يربط الخبرة بالقروض بالاستثمارات بالإنجازات المادية.

فيما عدا البنك، يظهر في نصوص هذه الفترة ثلاثة أنماط من الفاعلين الاجتماعيين: الدول والحكومات؛ الشركات والبنوك والصناعة؛ المهندسين والفنيين والخبراء. تؤكد هذه الأنطولوجبا الاجتماعية الرواية المعيارية لإعادة الإعمار في فترة ما بعد الحرب بوصفها صناعية وفوردية وكينزية. وأبطال النمو الاقتصادي هم رجال الأعمال والمصرفيون، حيث يعملون مع الشركات الصناعية والاقتصاديين والمهندسين لتنفيذ المشاريع ضمن إطار وطني تديره الدولة. وما ينبغي إدارته هو الاقتصاد –أي "البنية المغلقة أو كلية من علاقات إنتاج وتوزيع واستهلاك البضائع والخدمات داخل فضاء جغرافي معين"[16] كما كتب تيموثي ميتشل– والذي تحسَّنت نتائجه بفضل "الجهاز الحديث للحساب والحكم"[17]. وبمساعدة البنك الدولي، تضبُط الحكومات الاستثمارات والمؤشرات المالية بغية تحديث البلدان: بمعنى، جعلها بلدانًا صناعية، انطلاقًا من البنية التحتية الأساسية. إنَّ هذا إرث والت وايتمان روستو “Walt Whitman Rostow”، مؤلف كتاب مراحل النمو الاقتصادي: بيانٌ غير شيوعي (1960) The Stages of Economic Growth: A Non-Communist Manifesto”، ومستشارٌ سياسي رئيسي للإدارات الأمريكية من إيزينهاور إلى جونسون. تسير التنمية عبر مراحل، وتأتي "انطلاقتها" عبر إنتاج المواد الخام وخلق البنية التحتية وقطاعٍ زراعي موجَّه للتصدير.

لنتوقف قليلًا عند مقطعٍ محدد، من العام 1969، يرد في المقدمة العامة للتقرير السنوي، في قسمٍ خاص بالقروض الزراعية، ولغته بسيطة جدًا ويكاد يبدو رتيبًا:

"تحتاج العديد من الدول النامية إلى تغيير زراعتها...وتشجع مجموعة البنك الدولي هذا الاتجاه عبر إقراضها بغية تطوير الزراعة عامةً، وقد بلغ مجموع القروض 72.2 مليون دولار أمريكي في السنة المالية 1969. يوفر التنويع في الحبوب الجديدة موردًا للدخل النقدي، أو تحسّنًا في إنتاج الأصناف الحالية من الحبوب، وقد شُجِّعَ ذلك بالقروض أو الائتمان لدعم الإنتاج التقليدي للبن في بوروندي عند مستواه الطبيعي، ولتطوير زيت النخيل في الكاميرون وفي مملكة داهومي وساحل العاج وبابوا والتشجير في زامبيا، ولمكننة زراعة الذرة والسمسم والقطن في السودان...سيموُّل قرضٌ بـ13 مليون دولار للهند إنتاجَ بذور أصنافٍ جديدة مرتفعة الغلة من الحبوب الغذائية؛ وعند اكتماله سينتج المشروع ما يكفي من البذار لزراعة سبعة ملايين آكر بالأصناف الجديدة. إنَّه أول قرض يقدمه البنك لإنتاج البذار."

بصرف النظر عن الأمر الأولي الذي "تحتاج" الزراعة إلى تغييره، فإنَّ الملاحظة الرئيسية هي هذه الدقة الوقائعية في: المبالغ، البلدان، المواد، الأنشطة الإنتاجية، أهداف الاستثمارات. تتكرر الأسماء فيما تندُر الصفات: يجري تبيان الأمور، لا الإعلان الدعائي عنها. وتحدِّد الأفعالُ زمنَ الفعل: تشجع؛ يوفر؛ يحسّن؛ يدعم؛ ينوّع؛ ينتج؛ يموّل. يخبرنا الفعل المضارع عمّا يجري الآن (يشجع البنك)؛ وحين لا يكون المشروع قد بدأ بعد يتحوّل زمن الفعل إلى المستقبل (سيموُّل القرض إنتاج البذار)، فيما يمثّل الزمن الماضي ما قد أُنجِز (شُجِّعَ التنويع، بلغ مجموع القروض 72.2 مليون دولار أمريكي). من الواضح أنَّ التفريق بين المنجزات السابقة والأفعال الحالية والسياسات والمشاريع المستقبلية اللازمة –أي هذا الهيكل الزمني– يُعزِّز من الإحساس بواقعية التقارير المبكرة.

  • التمويل، الإدارة، الحوكمة

لننتقل الآن إلى العقود الأخيرة. تَسِمُ لغةَ البنك من مطلع التسعينيات وما بعد ثلاثُ مجموعات دلالية جديدة. ترتبط أولها –وأكثرها أهميةً– بالتمويل: نجد هنا إضافةً لبعض الصفات المتوقعة (تمويلي؛ مالي؛ اقتصادي) والأسماء (القروض؛ الاستثمار؛ النمو؛ الفائدة؛ الإقراض؛ الدَيْن)، حضورًا طاغيًا لـ القيمة العادلة؛ المحفظة “portfolio”؛ المشتقات؛ الاستحقاقات؛ الضمانات؛ الخسائر؛ المحاسبة؛ الأصول[18]؛ يتلوها في القائمة حقوق الملكية؛ التحوّط؛ السيولة؛ الالتزامات؛ الملاءة الائتمانية؛ التخلف عن السداد؛ المبادلات؛ العملاء؛ العجز؛ تجديد الموارد؛ إعادة الشراء؛ النقدية[19]. يمكن مقارنة هذه المجموعة، من زاوية التكرار والكثافة الدلالية، بمجموعة البنية التحتية للخمسينيات والستينيات؛ بيد أنَّ الهيمنة الطاغية للأنشطة المالية اليوم قد حلَّت محل العمل في الزراعة والصناعة. يعرض الشكل رقم (1) مثالًا عن الأولويات الجديدة للبنك.


 بالرغم من أنَّ كلمة محفظة تظهر في نصوص التقارير منذ البداية، لكنها شهدت ارتفاعًا مهولًا –من خمسة إلى عشرة أضعاف– أواسط التسعينيات، وهي الفترة التي غدت فيها باقي الكلمات تتكرر باطراد.
بالرغم من أنَّ كلمة محفظة تظهر في نصوص التقارير منذ البداية، لكنها شهدت ارتفاعًا مهولًا –من خمسة إلى عشرة أضعاف– أواسط التسعينيات، وهي الفترة التي غدت فيها باقي الكلمات تتكرر باطراد.

ترتبط المجموعة الثانية بـ الإدارة –الاسم الثاني الأكثر تكرارًا، بصورة مطلقة، في العقد الأخير (أقل من قروض ولكن أكثر من مخاطر واستثمار!). في عالم "الإدارة"، يكون للناس أهداف وأجندة؛ وتواجههم فرصٌ وتحديات ومواقف حرجة فيصوغون إزاءها الاستراتيجيات. ولفهم هذا الأمر المستجد دعنا نتذكر أنَّه في الخمسينيات والستينيات كان الخبراء يدرسون القضايا بإجراء الاستطلاعات ويقومون بمهامٍ وينشرون التقارير ويساندون ويقدمون المشورة ويقترحون البرامج. مع مقدم الإدارة، يتحول مركز الثقل ناحية التركيز والتعزيز والتنفيذ؛ وينبغي على المرء الرقابة والتحكم والتدقيق والتقييم (الشكل رقم (2))؛ ليضمن أنَّ كل شيء يُنجَز بشكلٍ ملائم ويساعد في نفس الوقت الناسَ على التعلم من أخطائهم. فيما الأدوات العديدة تحت تصرف المدير (المؤشرات؛ التجهيزات؛ المعرفة؛ الخبرة العملية؛ الأبحاث) تُعزِّز من الفعالية والكفاءة والأداء والتنافسية –ومن نافل القول طبعًا– تشجّع الابتكار.


بالرغم من عدم غيابها عن مفردات البنك، إلّا أنَّ الإدارة شرعت بالصعود مع أواخر السبعينيات، حين غدت مسألة الديون مسألةً محورية، وارتبطت لاحقًا بسياسات "التكييف الهيكلي" القاسية للحملة النيوليبرالية. لكن لم يزدهر خطاب الإدارة إلا مع العقد الأخير من القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، مُلمِّحًا –أقله بطريقة مبطَّنة– إلى أنَّ أنشطة البنك يجري تقييمها والمصادقة عليها دومًا من قِبَل أفضل الخبراء والأدوات المتقدمة، وكنتيجة، فإنَّ استثماراته تُعدُّ ثمرة تفكيرٍ رصين وجاد، وأنَّ نتائجه هي أفضل ما يمكن.

لنفهم بشكلٍ أكبر هذا "الخطاب الإداري"، كما أسماه بولتانسكي “Boltansky” وتشابيلو “Chiapello” في كتابهما الروح الجديد للرأسمالية “The New Spirit of Capitalism”، قررنا القيام بتجربة صغيرة. لذا أخذنا تعبيرَيْن مترابطين –"الفقر" و"الحد من الفقر"– وتتبعنا ظهوراتهما منذ 1990 وحتى 2010، مقارنين "مصاحِبَاتهما" المقابلة: أي، الكلمات التي ترد إلى جوارها مباشرةً. إلى جوار الفقر كانت الملاحظة الرئيسية واقعية اقتصادية لا لبس فيها: فكانت كلمة البنك الكلمة الأكثر تكرارًا؛ ثانيًا كلمة مليون؛ ثم مجموع؛ كلفة؛ سكان؛ مداخيل؛ خدمات؛ مشاكل؛ عمل؛ إنتاج؛ توظيف؛ موارد؛ غذاء؛ صحة؛ زراعة. وهذا يبدو منطقيًا تمامًا، لأنَّ هذه الكلمات بحق تحدد مؤشرات الفقر. على المقلب الآخر، ما ليس منطقيًا، أنَّ على أربع منها فقط –خدمات؛ عمل؛ موارد؛ صحة– أنْ تظهر ثانيةً إلى جوار الحد من الفقر. فالفقر هو المشكلة، والحد من الفقر هو السياسة التي ستعالجه؛ ينبغي أنْ يمتلكا الكثير من المصطلحات الرئيسية المشتركة. وعوضًا عن ذلك، فأكثر مصاحبات الحد من الفقر ليست الكلفة؛ السكان؛ الدخل –دع عنك الإنتاج أو التوظيف– بل الاستراتيجيات؛ البرامج؛ السياسات؛ التركيز؛ الرئيسي؛ الإدارة؛ تقرير؛ الأهداف؛ المنهاج؛ المشاريع؛ الإطار؛ الأولويات؛ الأوراق. إنَّه "الخطاب الإداري" بكامل مجده. انسى التوظيف والدخل: فالتركيز؛ الرئيسي؛ المنهاج؛ الإطار –مصطلحاتٌ شديدة الأهمية للحد من الفقر. انقلبت السياسة إلى أعمال ورقية بأهداف وأولويات وأوراق تشق طريقها ببطء عبر القسم المعروف –بلغة التقرير المهووسة بالأسماء المختصرة– بقسم (ح.ف.إ.ا “PREM”): الحد من الفقر والإدارة الاقتصادية.

تتألف المجموعة الدلالية الثالثة للعقدَيْن الأخيرَيْن من الحوكمة والسلوك الأخلاقي[20]. بدايةً، الحوكمة: ظهرت هذه الكلمة-المفتاح “Shibboleth”[21] في عبارةٍ مزدحمة من تقرير العام 1990 –"إنَّ قوة المؤسسات الإدارية وهيئات موظفيها ونوعية التنظيم الحكومي [الحوكمة –م[22]] تقرر هي الأخرى مدى حسن تنفيذ سياسات الإصلاح"[23]– ثم ازداد حضورها إلى حد أنَّها ترد اليوم بوتيرةٍ متكررة كما كلمة "غذاء"، وترد أكثر بعشر مرات من كلمة "قانون" ومائة مرة أكثر من كلمة "سياسة" (انظر الشكل رقم (3))[24].


كانت "الحوكمة" في صعودها الثابت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بكلماتٍ ذات طبيعة إيجابية بل ومُبهِجة: جيد؛ إصلاحات؛ مساندة؛ نمو؛ جهود؛ طاقة؛ شفافية؛ تعليم؛ فعالـ/ـية؛ تقدم؛ استقرار؛ حماية؛ صحة؛ وصول؛ تنفيذ؛ إنساني؛ جديد؛ معقول؛ مستدام؛ قوي؛ أفضل؛ أكثر؛ الأشد. يجري توصيل نفس الرسالة بالأفعال، والتي تظهر في الغالب بالزمن المستمر، وكأنَّهم يماثلون بين مفهوم الحوكمة والنشاط الدؤوب المستمر: يـُ/ـحسّن/يظل يحسِّن[25]؛ يظل/يُعزز؛ يظل/يدعم؛ يشمل؛ يبني؛ يشجِّع؛ يظل/يساعد؛ يعيد هيكلة. والكلمة الوحيد النشاز في هذه القائمة المبهجة هي –الفساد. (حين سألنا موظفًا في البنك الدولي عن معنى الحوكمة، أتانا الجواب: "إنَّها نقيض الفساد"). على العكس من كلمة حكومة –والتي يمكن أنْ تكون جيدة أو سيئة أو حتى سيئة جدًا– فإنَّ الحوكمة لا يمكن أنْ تكون إلا جيدة. ومن الصعب العثور على مصطلحٍ سياسي مشابه له هذا الميل ذي البعد الواحد.

لقد رافق التقدم الثابت للحوكمة ثلاث صفات: العالمي؛ البيئي؛ المدني، ويكمِّلها الحوار؛ أصحاب المصالح؛ التعاون؛ الشراكة؛ المجتمعات؛ السكان الأصليون؛ المساءلة –إضافةً إلى المناخ؛ الطبيعة؛ الطبيعي؛ الغابات؛ التلوث. بل حتى الصحة والتعليم انتهى بهما الأمر في فلك الحوكمة (انظر الشكلين (4) و(5)).


لقد ارتبطت كلمة المدني مع أسماء عدة على مر السنين، لكن صعودها في الثمانينيات يرتبط مع تعبير المجتمع المدني ومنظمات المجتمع المدني. فيما تزايدت كلمة الحوار –بشكل رئيسي مع منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية– من أواسط السبعينيات حتى أواسط التسعينيات؛ تظهر كلمة شريك/شراكة لاحقًا، بعد أواسط التسعينيات، حين غدت المشاريع مع المنظمات العالمية الأخرى (مثل منظمة التجارة وصندق النقد والأمم المتحدة...) أكثر تكرارًا. تشير كل هذه الموجات تحولاتٍ دقيقة في المعنى المؤسسي لكلمة حوكمة. وتظهر كلمة البيئة لأول مرة في السبعينيات، وتشهد ارتفاعًا صاروخيًا في الثمانينيات. فيما يظهر تعبير التنمية المستدامة بعد ذلك بعقد (في إثر نشر تقرير برانتلاند في 1987)، وموازنته الدلالية –إذْ يهدف لنسخ التناقض الصارخ بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة– تجعله بأهمية البيئة بعد العام 1995. بينما يغدو المناخ (بمعنى التغير المناخي) ذا دلالة في الألفينات –ممتصًا الإحالات إلى البيئة– على الرغم من أنَّ أغلبية ظهوراته ترتبط فعليًا بمناخ الأعمال (البزنس).

تتضمن المجموعة الدلالية للحوكمة، أخيرًا، سلسلةً من المصطلحات المُعبِّرة عن معاني التراحم والكرم والاستقامة/النزاهة والتعاطف مع مشاكل العالم. ظهرت هذه الإدعاءات الأخلاقية، شبه الغائبة في العقود السابقة، في منتصف الثمانينيات، وغدت طبيعةً ثانية مع مطلع التسعينيات، حين ظهرت فجأة وفي كل مكان كلمات: مسؤول؛ المسؤولية؛ الجهود؛ الالتزام؛ المشاركة؛ التشارك؛ الرعاية[26]. ليس البنك بأعمى عن الهش والضعيف من الناس، وعن الفقر (أحياه في العام 1995 المدير الجديد جيمس وولفنسون “James Wolfensohn”)، وعن كل ما هو إنساني (انظر الشكل رقم (6)). تحوي هذه المجموعة أيضًا الحقوق؛ القانون؛ العدالة؛ (محاربة) الفساد. فيما تكون سلوكيات الناس ونتائجهم باهرة؛ هامة؛ ذات صلة؛ متسقة؛ قوية؛ جيدة؛ أفضل. كما تعزّز وتشجع ما هو مناسب ومنصف ومعقول: هذه عقيدةُ البنك. ويتمثل الأثر الكلي بالتفاني والالتزام؛ إنَّ إحساس البنك بالمسؤولية مثيرٌ للإعجاب بقدر كفاءته.



لننظر مجددًا إلى مقطعٍ بعينه لتوضيح تحليلنا أكثر. إليك افتتاحية تقرير العام 2012:

"البنك الدولي ملتزم بتحقيق النتائج والإبلاغ عنها.
في إطار التزامه المستمر بالعمل على القضاء على الفقر والعمل على إتاحة الفرص أمام الناس في البلدان النامية يشهد البنك الدولي إحراز تقدم على الصعيدين الداخلي والميداني ويواصل جهوده لتحسين طريقة خدمة عملائه[27]."

مكانٌ مليءٌ بـ"الفرص" يمكن للفقراء أنْ يحوزوها بغية تغيير أوضاعهم: هكذا يرى البنكُ الدولي العالم. في إطار هذا السناريو، يتألف نشاط البنك من إقامة الإطار القانوني والثقافي اللازم لازدهار مختلف المبادرات؛ وما زال يستثمر في البنية التحتية إلى حدٍ ما، باستثناء أنَّها لم تعد اليوم من الفولاذ والحجر. إنَّ البنك ملتزم ومتفانٍ بالاستثمار المدروس في عالمٍ أفضل. وتتمحور تطلعاته وتفانيه المتواصل، بشكلٍ مستمر حول تحسين وخدمة البلدان الفقيرة التي تعد...عملاءه.

عملاء؟ للوهلة الأولى، فهذه الكلمة مزعجة وصادمة: إذا كان التفاني يوحي بعدالةٍ أخلاقية كونية، فإنَّ العملاء تحيلُ إلى الأعمال التجارية، المصالح العقلانية، وعلاقات القوة. وبجمعه هاتين الكلمتين، عمديًا، في جملة واحدة فإنَّ البنك يقول بأنَّهما لم تعودا متعارضتَيْن: حاليًا، تهتم الأعمال التجارية بأصحاب المصالح كاهتمامها بحملة الأسهم؛ ومثلها مثل المجتمع المدني والبنك الدولي نفسه، فإنَّها مسؤولة بيئيًا واجتماعيًا وتمارس حوكمة دائمة تتشكَّل من عدة شراكات. تقع الأخلاق في صلب عالم الأعمال وعلاقاته التعاقدية.

  • التشابك والأزمة

بعد تبياننا للبرادَيمَيْن[28] المتباينَيْن لخطاب البنك، لنحدد الآن بإيجاز السيرورة التي قادت من الأول إلى الثاني. بصرف النظر عن بضع تعديلاتٍ، فقد ظل الإطار الفكري المحدِّد لعمليات البنك في الخمسينيات والستينيات قائمًا بشكلٍ أساسي حتى أواخر السبعينيات: يستمر الري والمدخلات الكيماوية والثورة الخضراء وتآزر البنية التحتية والصناعية في كونهم العناصر الرئيسية للانطلاقة الاقتصادية. بيد أنَّ أي مقاربةٍ خطية تفقد قوتها: فمع أفول الستينيات، بدأ يتضح أنَّه إذا كان بناء البنية التحتية سهلًا نسبيًا، إلّا أنَّ تشغيلها غبر مضمون على المدى الطويل: إذْ تتطلب متخصصين وعمالًا مؤهلين وتزويدًا منتظمًا بالمنتوجات الرئيسية كالكهرباء –ولا يمكن اعتبار أي منها أمرًا مسلمًا به في بلدان الجنوب. ولزيادة الطين بلة، يبدو أنَّ التبادل الدولي لا يحترم آمال البنك، ولا نظريات روستو في التنمية. فأسعار المواد الخام الزراعية –وهي شديدة الأهمية بالنسبة لاقتصاديات الجنوب– غير مستقرة إلى حد كبير وتشهد انخفاضات كبيرة، بحيث يصعب التعافي منها. يمكن لعواقب عدم الاستقرار هذا أنْ تكون دراماتيكية: مع هبوط الأسعار لا يعود بوسع الدول النامية المضي على المسار الحميد الذي تموِّل فيه صادراتُ الخامات نموَ البنية التحتية...وتسديد القروض الخارجية. وآخذًا بعين الاعتبار استثماراته، فإنَّ البنك يستشعر القلق.

تكيفت لغة التقارير مع البيئة المتغيرة؛ فكلمات مثل سلع أو تحسينات ترفع التحليل إلى مستوىً أعلى من التجريد مقارنة بكلمات كالمصانع الكهرومائية والإسمنت مثلًا. وبعدما تبيّن أنَّ قيادة العالم بالاعتماد فقط على البنية التحتية لم تعد كافية، جرى أخذ بعض "العوامل" بالحسبان: السوق، طبعًا، ولكن بشكل خاص "العامل الإنساني". وحين صار روبرت مكنمارا “Robert McNamara” رئيسًا للبنك في العام 1967 وضعَ "حرب ليندون جونسون على الفقر" في صميم استراتيجيته. إنَّه زمن المَزارِع الصغيرة والتعاونيات (أصداء باهتة لتصفية الاستعمار والقلاقل الاجتماعية)؛ والمزارعين (كانوا مهمَّشين في سياسة البنك سابقًا)؛ والعائلات (وقريبًا النساء). يُرى التعليم على أنَّه جزء لا يتجزأ من الحفاظ على التقدم، إلى جانب المدرسة والتعليم الإعدادي والثانوي والتعليمي والتدريبي. إنَّه زمن انفجار القرى (والعشوائيات)؛ والهجرة من الريف؛ وتدهور نمط الحياة الحضري (صفة حاضرة في كل مكان)؛ ومن هنا قائمة طويلة من المشاكل الجديدة –الإسكان والصرف الصحي والمجاري.

أدخَلَت أزمة النفط، في النصف الثاني من السبعينيات، عناصرَ خارجية جديدة. غدت كلمات مثل الدَيْن والاقتراض والإقراض أكثر تكرارًا، إلى جانب تلك الكلمات التي تشير إلى موثوقية البلد (أو عدمها): كلفة/تكاليف؛ صادرات؛ التمويل المشترك. وبدأ خطاب الإصلاح –المنذور لنجاح لا يمكن تصوره– في اتخاذ هيئةٍ. وبالنظر إلى أنَّ الديون ترتبط بتغيُّر الأسعار، فقد غدت هذه أيضًا مرئيةً أكثر في التقارير (في الواقع، من المدهش كيف كانت غير مرئية سابقًا). كشفت الأزمة عن البنك الدولي على أنَّه بالفعل بنك –بنكٌ يجد صعوبة في استرداد قروضه: حقيقةٌ قد تبدو واضحة، لكن حتى ذلك الحين جرى التكتم عليها بشكلٍ كبير.

استجابةً لكل هذا، فقد استطالت السلسلة السببية التي تربط القروض والتنمية والاستثمارات والتقدم الاقتصادي لتشمل العائلات والتعليم والمزارعين الصغار والمجاري. يكاد هذا التعديل أنْ يكون غير مجدٍ، بل حتى أنَّ المنطق وراء الديون ما زال يبدو بسيطًا إلى حدٍ معقول: ثمَّة قروضًا وتعثرًا في الصادرات فإشكالًا في التسديد –إنَّ الترابط الداخلي واضح ومفهوم. بيد أنَّ العالم يغدو عبر تقارير البنك أقل خطية مما كانه في السابق؛ من الصعب فصل الديناميكيات الاقتصادية والاجتماعية، وثمَّة دهشة باهتة إزاء الأحداث التي لا تتبع المسار المتوقع. تبدو هذه الدهشة في بعض الأحيان أصلية؛ فإذا كان الأمر كذلك (لكن هل يمكن ذلك؟) لكتبت مجلدات حول أوهام التنمية في فترة ما بعد الحرب. مع غدو سياسة النمو على أساس البنية التحتية متذبذبة جزئيًا، ينبثق إحساسٌ بالتردد بل وحتى الانفتاح –في تناقضٍ حاد مع العقود السابقة، حين كان كل شيء واضحًا بذاته وأتوماتيكيًا إلى حدٍ كبير. بيد أنَّ الانفتاح لن يستمر؛ ففي نهاية السبعينيات سيُعاد تحديد البوصلة لكن هذه المرة باتجاه "التكييف الهيكلي".

  • الديون وإعادة الهيكلة

تهيمن على تقارير الثمانينيات ديون الجنوب والتكييف الهيكلي، وهي الكلمات المفتاحية لهذا العقد. فيما تحضر دلالات الأزمة في كل مكان –التدهور؛ العجز؛ التراجع؛ المديونية؛ المشاكل؛ الصعب– وتحدِّد المعايير الواجب الوفاء بها قبل منح دولةٍ ما قرضًا جديدًا: ميزان المدفوعات؛ الحساب الجاري؛ خدمة الدَيْن. من جانبه، خَفَتَ حديث الأمل بالتعافي [تعافي الاقتصاد العالمي –م]. إنَّها "فلسفة التنمية" الخاصة بهذا العصر: حيث ستكفل الوصفات الليبرالية الأمر الوحيد الهام ألا وهو العودة إلى النمو. وهذا يعني التوسع في التجارة؛ التوسع في القطاع الخاص؛ رفع القدرة التنافسية؛ وينبغي إعادة تعريف قوانين النشاط الاقتصادي (أي جعلها أكثر حرية)، وتقليص دور الدولة. إنَّها لحظة لَبْرَلة القطاع العام. على الناس تعلم أنْ يكونوا فعّالين وذوي مردود فعّال وأنْ يهتموا بالأداء ويضعوا الحوافز. يحدّد البنك الحلول ويطالب بتنفيذها، تاركًا مجالًا ضيقًا للتفاوض. فيما السبيل الوحيد لطمأنة الدائنين هو إعادة الهيكلة والجدولة.

لننظر الآن إلى بعض التفاصيل الكرونولوجية. في الأعوام 1982-1989، كانت المجموعة الدلالية الرئيسية مجموعةً ميلانخولية: تباطؤ؛ ركود؛ اهتلاك؛ انخفاض القيمة؛ يهبط/هبوط؛ تفاقم؛ حاد. في التسعينيات، ثمَّة تحول نحو القطاع الخاص؛ الخصخصة؛ خصخصَ؛ القطاع المالي؛ الملاءة الائتمانية؛ إلى جانب الأنشطة الموجَّهة نحو السوق وبناء المؤسسات، وهي كلمة مرمّزة لكلمة لَبرلَة/خصخصة المؤسسات العامة. ولم يكن قد ظهر بعد قاموس التمويل العالمي، وإنْ كان القاموس الخاص بالطبيعة والبيئة والمجتمع المدني قد بدأ بالانتشار. في الوقت عينه، تركت الإدارة بصمتها على سلسلة من الأفعال التي تعبّر عن السياسات المؤلمة التي حددها البنك: كي يعالج؛ يستهدف؛ يسرّع/يعجِّل؛ يدعم؛ يعيد هيكلة؛ ينفذ؛ يحسّن؛ يعزّز؛ يهدف؛ يبلغ...

وبصرف النظر عن الكلمات الفردية، فما يتغيّر هو طبيعة لغة البنك: غدت أكثر تجريدًا، وأبعد عن الحياة الاجتماعية الملموسة؛ غدت ترميزًا تقنيًا، مفصولةً عن التواصل اليومي ومقتصرةً على العوامل الاقتصادية الهامة لسداد الديون. وتفارقت الحلول عن أي خصوصية: فهي واحدة لأيٍ كان، أنّى كان. وإزاء احتمال التبعات المدمرة لتعثر السداد، لم يعد الهدف الرئيسي للبنك هو التنمية، بل صار، ببساطة، إنقاذ الدائنين الخاصين (هاربَجون: آهٍ صندوقي! صندوقي![29]). ينبغي إنقاذ المصرفي قبل إنقاذ العميل: انجلت الشكوك، واتضَحَت عقيدة البنك جليًا: ينبغي تعزيز الاقتصاد بجعله أصغر حجمًا؛ وكذا إعادة هيكلة القطاع العام لخلق ظروف مواتية للأعمال التجارية الخاصة والسوق؛ وينبغي تحجيم الدولة وأنْ تصبح أكثر فعالية وكفاءة. تفوق هذه "الحلول" احتياجات الاستجابة لأزمة الديون: إنَّها تهدف للتحول الاجتماعي عبر الركون إلى لبيراليةٍ متطرفة.


  • هوامش الجزء الأول [1] - غالبًا، لا يحظى باحثان يعملان في مجالَيْن مختلفَيْن بفرصة للوقوف على أبحاث أحدهما الآخر، ولا بالحرية الفكرية لتصور مشروعٍ مشترك طويل الأجل. لكن هذا ما حدث لنا بالضبط، في كلية الدراسات العليا-جامعة برلين “Wissenschaftskolleg” ربيع العام 2013؛ عقب ذلك، ساعدَنا باحثون من مختبر ستانفورد الأدبي “Stanford Literary Lab” على تحويل فكرةٍ مبهمة إلى سلسلة من النتائج الموثوقة. فلكل أولئك اللذين ساعدونا على جعل هذه الدراسة ممكنة، شكرنا العميق. [2] - بالإنكليزية (Bank, Loan/s, Development) على الترتيب. (م) [3] - fiscal: المقصود هنا المالية العامة، إضافةً إلى الجانب المالي بشكل عام. (م) [4] - financial: وتأتي بمعنى مالي أيضًا، ولكن تُرجِمَت إلى تمويلي منعًا للبس مع الكلمة في الهامش السابق. (م) [5] - بالإنكليزية (fiscal, economic, financial, private) على الترتيب. (م) [6] - بالإنكليزية (IBRD, countries, investment/s, interest, programme/s, project/s, assistance) على الترتيب. (م) [7] - بالإنكليزية (lending, growth, cost, debt, trade, prices) على الترتيب. (م) [8] - تتألف مدوناتنا من النص الكامل للتقارير السنوية للبنك الدولي، من 1946-2012، مستبعدين كافة الجداول المالية والميزانيات. تشير كلمة بنك الواردة في التقارير إلى البنك الدولي. كان البنك الدولي للإنشاء والتعمير (IBRD) النسخة الأصلية من مؤسسة البنك الدولي، تأسس في العام 1944 في بريتون وودز؛ وهو ينطوي اليوم ضمن مجموعة البنك الدولي، والتي تشمل على وكالةٍ لضمان الاستثمار، ومؤسسةٍ للتمويل الدولي، ومركزًا دوليًا لتسوية منازعات الاستثمار، ومؤسسةً دولية للتنمية، تأسست في العام 1960 لتقديم قروضٍ ميسرة للبلدان الأشد فقرًا. لقراءة مقدمةٍ مكتوبة من داخل البنك الدولي حول تاريخه انظر:

Devesh Kapur, John Lewis and Richard Webb, eds, The World Bank: Its First Half Century, 2 vols, Washington, DC 1997.

بين العديد ممن تناولوا التاريخ النقدي للبنك انظر:

Michael Goldman, Imperial Nature: The World Bank and Struggles for Social Justice in the Age of Globalization, New Haven, CT 2005.

[9] - بالإنكليزية (other, new, such, net, first, more, general, agricultural, rural) على الترتيب. (م) [10] - مقتبس من "التقرير السنوي للبنك الدولي 2008: استعراض لأهم أحداث العام" ص48. في حالة عدم وجود ترجمة معتمدة يُحال إليها على موقع البنك الدولي فإنَّ النصوص المقتبسة من ترجمة المترجم (م). [11] - بالإنكليزية (loan/s, development, power, programme, projects, investment, equipment, production, construction, plant) على الترتيب. (م) [12] - بالإنكليزية (companies, facilities, industry, machineries) على الترتيب. (م) [13] - بالإنكليزية (port, road, steel, irrigation, kWh, river, highway, railway) على الترتيب. (م) [14] - بالإنكليزية (timber, pulp, coal, iron, steam, steel, locomotives, diesel, freight, dams, bridges, cement, chemical, acres, hectares, drainage, crop, cattle, livestock) على الترتيب. (م) [15] - تندر الصفات في العالم "المادي" للعقود الأولى للبنك: بخلاف مالي واقتصادي وتمويلي، تحظى صفة كهربائي وكهرمائي بحضور معتبر، ينضم إليهما لاحقًا مشتقات الحليب، مما يدلل على وجود قلقٍ بشأن الصحة والزراعة والحياة العائلية. [16] - ميتشل، تيموثي؛ ت.بشير السباعي، شريف يونس. ديمقراطية الكربون: السلطة السياسية في عصر النفط. (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2014، ط1). ص199. (م)

Timothy Mitchell, Carbon Democracy: Political Power in the Age of Oil, London and New York 2011, pp. 125, 123.

[17] - المصدر السابق. ص197. [18] - بالإنكليزية (fair value, portfolio, derivative, accrual, guarantees, losses, accounting, assets) على الترتيب. (م) [19] - بالإنكليزية (equity, hedging, liquidity, liabilities, creditworthiness, default, swaps, clients, deficit, replenishment, repurchase, cash) على الترتيب. (م)

[20] - Dominique Pestre, ed., Le gouvernement des technosciences: Gouverner le progrès et ses dégâts depuis 1945, Paris 2014.

[21] - شبولث: كلمة عبرية تعني السنبلة أو النهر أو غصن الزيتون، لكنها اصطلاحًا تُشير إلى حدث تاريخي تستقي منه دلالتها هنا مفادها أنَّه حين وقعت معركة بين الجلعاديين والأفرام وانهزم فيها الإفراميون، فرض الجلعاديون على عابري الحدود نطق هذه الكلمة إذْ أنَّ الإفراميين يعجزون عن نطق حرف الشين فينطقون الكلمة "سبولث" بدلًا من "شبولث" وبذا فقد ألقى الجلعاديون القبض على كل إفرامي حاول الانسحاب. (م) [22]- يترجم البنك الدولي الكلمة هنا إلى "التنظيم الحكومي" لكنه مع مطلع القرن اعتمد كلمة "الحوكمة" كمقابل عربي للكلمة الإنكليزية. (م) [23] - مقتبس من "التقرير السنوي للبنك الدولي 1990" ص58. (م) [24] - حين يغدو تكرار كلمةٍ مفرطًا، تتضاعف استخداماتها خارجةً عن السيطرة، ولا تمضي فترة طويلة حتى لا يعود أحد يعلم ما تعنيه بعد الآن. وها هو كبير المعلقين الاقتصاديين في النيويورك تايمز، مارتن وولف “Martin Wolf”، يكتب عن الانتخابات الهندية في 21 مايو/أيار 2014: "لقد استأثر شعار [مودي] –"حكومة أقل وحوكمة أكثر"– بالمزاج العام. بيد أنّه من غير الواضح ما سيعنيه هذا في الممارسة". كذلك روبرت زوليك، وهو نفسه الرئيس السابق للبنك الدولي، يكتب في ذات الصحيفة عن السياسة الصينية: "ستركز الإصلاحات على الحوكمة الاقتصادية والتحديث. قد تبدو هذه المصطلحات غامضة للأوروبيين..." (13 يونيو/حزيران 2014). في لَيٍّ فَكِه للغة، إذْ كان البنك الدولي قد أشهرَ هذه المصطلحات لتأديب الاقتصاديات النامية لكنها باتت الآن تُستخدَم من هذه الاقتصاديات عينها كخدعةٍ دفاعية في وجه المراقبة الغربية. [25] - استخدمنا هنا صيغة "يظل + الفعل المضارع" للدلالة على زمن الحاضر المستمر، وفيه أنّ الفعل يمتد في الحاضر إلى المستقبل. في الفعل الأول تتكون الصيغ من (مضارع/ماضٍ/حاضر مستمر) أما الفعل الثاني من (حاضر مستمر/مضارع) أما ما يظهر من الأفعال بصيغة واحدة فالمقصود هنا صيغة الحاضر المستمر (م) [26] - في هذا الصدد، يعد تعبير "القيمة العادلة" –حيث تخفِّف الصفة المُلحقة أخلاقيًا من الواقعية الجدية للاسم– مثيرًا للاهتمام على وجه الخصوص. [27] - clients: ترد في الترجمة العربية "البلدان المتعاملة معه" لكنها تعني بدقة عملائه أو زبائنه وبهذا المعنى يقاربها الكاتبان. راجع "التقرير السنوي 2012" الصفحة الافتتاحية. (م) [28] - Paradigm: تترجم أيضًا إلى النموذج الإرشادي. (م) [29] - الإشارة هنا لمسرحية موليير "البخيل" وهاربَجون يمثّل فيها شخصية البخيل والصندوق هو كنز هاربجون المسروق. (م)

Commentaires


bottom of page