top of page
صورة الكاتبAlaa B.H

الماركسي والمُخَلِّص

تيري إيغلتون

تر: علاء بريك هنيدي


نُشِرَت هذه المادة في المجلد الثالث والأربعين من مجلة لندن ريفيو أوف بوكس في العدد السابع عشر، يراجع فيها إيغلتون كتاب فريدرك جيمسون الصادر حديثًا (2020) تحت عنوان “The Benjamin Files”.

لقراءة المادة باللغة الإنكليزية بالرجاء الضغط هنا.


 

أشار فريدرك جيمسون في هذه الدراسة إلى أنَّ فالتر بنيامين لم يكتب كتابًا قط، أو ذاك النوع التقليدي منها. فقد كتب عمله عن مسرح الباروك الألماني، المُتَرجَم إلى الإنكليزية بعنوان أصل الدراما التراجيدية الألمانية[1]“The Origin of German Tragic Drama”، أوائل العقد الثاني من القرن الماضي في صورة أطروحة علمية، وإنْ نُشِرَ لاحقًا في صورة كتاب. وبالنظر إلى أنَّ اللجنة الفاحصة لم تفقه من هذا العمل الأصيل أية كلمة، فقد سحبه بنيامين ليطرح عنه كل أمل في الحصول على وظيفة جامعية. وبدلًا من هذا، عاشَ عيشة الكفاف في برلين بوصفه صحافيًّا ثقافيًّا، ليغادر في آخر المطاف موطنه الفاشي في العام 1933 قاصدًا باريس حيث مكث معظم الوقت إلى حين وفاته في العام 1940.


يفتقر كتاب التراجيديا إلى أي وحدةٍ فعلية، وينطبق الأمر نفسه على أعمال بنيامين الأخرى. فعمله شارع ذو اتجاه واحدOne-Way Street” مفككةٌ بنيتُه، أما دراسته العظيمة عن باريس في القرن التاسع عشر الموسومة بـمشروع الممرات المسقوفةThe Arcades Project” فيقول عنها جيمسون: إنَّها «مجموعة مقتطفات» غير مكتملة. كما أنَّه من الأفضل فهم عمله أطروحات بصدد فلسفة التاريخTheses on the Philosophy of History” على أنَّه جُذَاذاتُ شيوعيّ يهودي سيرتئي قريبًا ابتلاع جرعةٍ كبيرة من المورفين على الوقوع في أيدي النازيين. تعكس هذه البنية المُشظّاة للنص تاريخًا مدمَّرًا ولِدَت من رحمه.


يستحضر هذا في الأذهان مسيرة لاجئٍ آخر يتحدث الألمانية، لودفيغ فتغنشتاين، الهارب لا من النازية بل الثروة والجاه. كان شعاره في هذه الرحلة «من الأفضل أن تمضي حافيًا». لم ينشر فتغنشتاين سوى كتابٍ واحد، رسالة منطقية فلسفيةTractatus Logico-Philosophicus”، رأى أنَّه حلَّ فيه مشاكل الفلسفة كافة. الحال أنَّ هذا الكتاب أيضًا وُلِد على صورة أطروحة علمية، وشأنه شأن كتاب بنيامين فقد قوبِل بالحيرة. لكن كان لفتعنشتاين حظٌّ أفضل مع لجنته الفاحصة مقارنةً ببنيامين: من بين أعضائها الفيلسوف جورج إدوارد مور، الذي قال ممازِحًا بأنَّ الرسالة «صنعة عبقريّ، لكن ما زال عليها» الوفاء بمتطلبات درجة الدكتوراه. أما باقي أعمال فتغنشتاين فقد نُشِرَت بعد وفاته، حيث يتخلى الكثير منها عن اللغة الأكاديمية لصالح الأمثال والشذرات الحوارية والتأملات المُستَغلَقة والأسئلة النَغِشة والصور البسيطة الواضحة. بنيامين بدوره أستاذ الأمثال، مع أنَّ صوره تفتقر إلى طابع البساطة الريفية الحاضر عند فتغنشتاين.


هناك تشابهات أخرى بين الرجلين. فقد كان فتغنشتاين صعلوكًا روحيًّا يجول من كوخٍ على خليجٍ نرويجي إلى كوخٍ على الساحل الغربي لإيرلندا. أما بنيامين فكان مأخوذًا بشخصية الفلانيور، الغندور الباريسي المتسكع في الشوارع بلا هدف. يحاول الصعلوك الهروب من الحياة العصرية، في حين يجد الفلانيور هناءه في خضمّها. غادر فتغنشتاين، نجل الصناعي الأغنى في مملكة هابسبورغ، مدينة كامبريدج ليصير مُدرِّسًا في قرية، وذات مرةٍ اشتغل في وظيفة بستاني في أحد الأديرة. مع ذلك، حظي بنيامين بملجأ أيضًا: الثورة. فبحسب رأيه، ليست الثورة قطارًا سريعًا بل سحبًا لمكبح الطوارئ. فالتاريخ يندفع خارجًا عن السيطرة، والثورة ضرورية إذا أردنا الحصول على ليلةٍ هانئة.


لم يكن بنيامين أكاديميًا، وكان فتغنشتاين شخصًا شديد العزوف. فقد ترك خلفه ثروة طائلة ليحيا حياةً بسيطة، في حين عاش بنيامين حياةً بسيطة لكونه عانى نقصًا مزمنًا في المال. فكَّرَ بنيامين في كتابة كتابٍ قوامه الاقتباسات؛ أما فتغنشتاين ففكر في كتابٍ قوامه النِكات. اتجه بنيامين إلى الماركسية بفعل صعود الفاشية؛ أما الشاب فتغنشتاين فقد رأته أوساط عديدة على أنَّه نصيرٌ للشيوعية. بيد أنَّ ما من أحدٍ أدهشه هذا التشابه. حضر بنيامين على الدوام في أعمال جيمسون منذ تحفته الأولى الماركسية والشكل “Marxism and Form”، في حين يحضر فتغنشتاين في بلاغة الصمت.


كان بنيامين مُنظِّرًا حداثيًا لا مجرد منظرٍ عن الحداثة. فكتاباته جزء من تلك التجربة الثقافية، لا مجرد تعليقٍ عليها. وكان شأنه شأن فتغنشتاين فيلسوفًا مناهضًا للفلسفة التقليدية استشعر الحاجة إلى كتابةٍ مختلفة لإيصال مقصده، ومن المفاهيم التي تضعُها الفلسفة المُناهضة موضعَ تساؤُل هو مفهومُ الكتاب؛ إذ ثمَّة شذرة ساخرة في كتاب شارع ذو اتجاه واحد موسومة بـ«كيف تكتب كتبًا سميكة». يُفتَرَضُ في الأعمال الأكاديمية أنْ تكون واضحة بقدرٍ معقول ويغلب على محتواها الطابع المفاهيمي ويكتبها المؤلف من وجهة نظر محددة. لكن على النقيض من هذا، يُفضّل جلُّ الفن الحداثي تعدُّدَ وجهات النظر والسرديات المبتورة. فقد يفضِّل الفنان اختيار الغموض على الوضوح، أو يحبّذ الصورة على المفهوم. يُفترضُ بالكتب أيضًا أن تكون موحدة، لكن فكرة الوحدة في نظر الطليعيين الحداثيين فقدت مصداقيتها.


لمن المدهش مدى أصالة هذه الخطوة. إذْ من أرسطو إلى إيفور ريتشاردز، كان يُتوَقَع من العمل الفني أن يشكل كلًّا متماسكًا. بيد أنَّ أحدًا لم يتحدّ هذه الإملاءات التعسفية إلى أنْ أتت الحركة المستقبلية والبنيوية والسوريالية وسواها. فمن الدادائيين إلى بريخت، ظهرت رغبةٌ في التفكيك بدلاً من التركيب، في الكشف عن الصراع بدلاً من حله. فالوحدة، حسبما يعيها روّاد [الحداثة –م]، مفهوم سياسي على الدوام عند مستوى من المستويات.


في الفن الحداثي، يمكن أنْ يكون الغموض استراتيجيةً واعية. إنَّه إحدى وسائل تجنيب العمل الفني أنْ يُستهلك بمنتهى السهولة. فالأشعار تحتاج إلى تغليظ قوامها وتخليط مبناها إذا لم تشأ لمكانتها الانحدار سريعًا، شأن مصير السلعة. إذ لم تَعُدِ اللغة اليومية وسيطةَ الحقيقة. لقد انتهت صلاحيتها وصارت مبتذلة، ولا يمكنك إلا بالعنف أنْ تدفعها إلى إعطاء شيءٍ ذي قَيمة. هكذا، تُرسِل الحداثة الأدبية اللغة على عواهنها، لا لشيء إلا لكونها مرتابةً منها ولا تثق بها. في جعبة جيمسون بعض التعليقات هنا على فكرة بنيامين عن “ur-language”، لغة أصلية تنطق بها الأشياء بمسمياتها. ثم أتى السقوط، حيث انقطعت الرابطة بين الكلمة والشيء. أضحت الكلمات دالّات اعتباطية عن الأشياء واستحالت اللغة إلى بابل اللغات.


لئن لم تعد اللغة محل ثقة، فبإمكانك الاستعاضة عنها بالصورة. ومن هنا شغف بنيامين بالسوريالية، حيث يكمن الوحي عندها في الصدام بين صورةٍ وأخرى. يمكنك استيعاب صورة ما في نظرةٍ واحدة، أما سردية فلا. يحل المكان محل الزمان، والمتزامن محل المتتابع. من بين أمور أخرى، فالحداثة أزمة سرد حيث يكف العالم عن اتخاذ شكل القصة. فما عاد التاريخ يسترشد بالحبكة المسماة فيما مضى بالتقدم. فالتقدم والاستمرارية من خيالات الطبقة الحاكمة، ومن أوهام أولئك الاشتراكيين المؤمنين بأنَّ الرأسمالية مصيرها الانهيار، وأنَّ الفاشية سكراتِ موتها.


تتكشّفُ اللغة اليومية بطريقة خطية، والرأي السائد مفاده أنَّ التاريخ يتكشَّف بالطريقة ذاتها. نفكر في الماضي على أنَّه منتهٍ والحاضر لم ينته بعد، لكن لبنيامين رأيًا آخرَ. في عمله أطروحات بصدد فلسفة التاريخ يكون الماضي غير منتهٍ، وفي يد الحاضر مفتاح جعله مثمرًا. ما يحدث، يحدث، وذلك دونما رجعة؛ غير أنَّ معنى هذه الأحداث ومغزاها في أيدي الأحياء، لذا فالأمر متروك لنا لنقرر مثلًا ما إذا انتمى ابن العصر الحجري الحديث إلى جنسٍ انتهى به الأمر إلى تدمير نفسه. وبيدنا أيضًا ألَّا تذهب سدىً تضحياتُ مَن هُزِموا في الماضي في معركتهم لأجل الحرية والصداقة –وعلى لسان بنيامين، سوف تُذكَر أسماء هؤلاء الرجال والنساء المجهولين في يوم القيامة. وإذْ لا يمكن تعويض الموتى عن معاناتهم، إلَّا أنَّه يمكن استثمار هذه المعاناة بدلالةٍ جديدة عن طريق أفعالنا في الحاضر. عندئذٍ يظل معنى الماضي ومغزاه في اللحظة الراهنة متدفقًا وينبغي لحكمنا عليه أنْ يظل معلَّقًا.


يرى بنيامين بأنَّ المُخَلِّص لن يأتي باعتباره إتمامًا للتاريخ، بل كشفًا عن كوكبةِ لحظاتٍ متداخلة في الأزمنة التاريخية، عن فترات الطوارئ السياسية حيث كان ثمّة فرصة للحصول على العدالة لمن أمَّلَت القوى الحاكمة مسحَ ذكراهم من سجل التاريخ. يجسد مونتاج اللحظات هذا تاريخَ المضطَهَدين، المماثل في تبعثره وانقطاعاته للعمل الفني الحداثي. يتعذر سرد هذا التاريخ كسرديةٍ متماسكة ما لم يأتِ المُخلِّص، فبمجيئه سيميط اللثام عن الصلات الخفية بين أفعال المقاومة. ليتحول ما بدا قبضَ ريح وبلا معنى في وقت من الأوقات إلى شيء مفهوم وواضح، كأنّهُ نصٌ مُشفَّرٌ استطعنا أخيرًا فكَّ تشفيره.


تمثل الحقبة السياسية الحالكة التي عاش فيها بنيامين لحظة من لحظات الخطر على وجه الدقة، لحظة تقطَّعَت فيها استمرارية التاريخ بصورةٍ غاشمة، ما فتح بابًا يمكن لصور نضالات الماضي في سبيل التحرر أنْ تَلِجَ منه. ثمّة مفاضلة بين الماضي والحاضر: يمكن للحاضر أن ينقذ الماضي من النسيان والاندثار، في حين يمكن استحضار الأموات لمساعدة الأحياء. هكذا، يمكن أن يلتف الزمان على نفسه، كما في رائعة مارسيل بروست، ليكشف عن تضامن المحرومين عبر القرون. إنَّها أكبر السرديات الكبرى، مع أنَّها تُفرِّغ ما تشتهر به أغلب الحكايات من حلم التقدّم الحتمي. لا ريب أنَّ المُخَلِّصَ آتٍ، بيد أنَّه لن يأتي مثل نغمةٍ أخيرة في لحنٍ من ألحان النصر. بل على العكس، إنَّه صديق أولئك المقهورين والمهزومين بفعل زهوة النصر هذه، ووصوله إلى السلطة سيكون أيضًا نصرَ هؤلاء المهزومين.


يمكن أنْ تكون الذاكرة، عند بنيامين كما عند فرويد، قوة انعتاق، إذ على الراغبين في المضي إلى الأمام القيام بذلك عبر الالتفات إلى الخلف. بين يدي هذا الماركسي المتفرِّد، يمكن حتى للنوستالجيا أنْ تتحول إلى مفهومٍ ثوري. فإلغاء التقاليد ليس عملًا تخريبيًا، بل التقاليد نفسها. ما يلهم النساء والرجال بالثورة، يُعلِّق بنيامين، ليس الحلم بأحفادٍ يعيشون الحرية بل ذكريات أجدادنا المضطهَدين. ومَلاكُ التاريخ عنده يدير ظهره للمستقبل، ومعه لجميع الطوباويات الزائفة، لينظر بذعرٍ إلى جبل الأنقاض المتراكم المسمى الماضي. ولا يريد الملاك إنهاء التاريخ لأنَّه معدوم القيمة؛ بل لأنّ قسمًا كبيرًا من قيمته يأتي من الاستغلال، وثِقَل هذا الثاني يفوق الأول. من هنا جاء تعليق بنيامين المقتبس بكثرة بأنَّ كل شاهد على الحضارة يمثل في الآن ذاته شاهدًا على البربرية.


يعجز الملاك عن الحركة لأنَّ جناحيه متشابكان في العاصفة، ويبدو جيمسون غير متأكدٍ مما تمثله هذه العاصفة. في الواقع فبنيامين يخبرنا: إنَّها أسطورة التقدم الأبدي. فما يعوق الملاكَ عن إفاقة الأموات في هذه اللحظة، عن إنهاء التاريخ والإيذان بالإفتداء، هو التأكيد بأنَّ التاريخ لا يحتاج إلى مثل هذه التحولات، حيث سيصل بنا من تلقاء ذاته إلى مستقبلٍ مجيد. هكذا، ما يخون الحاجة إلى التغيير ليس إلا الرضا/التسليم المعروف بالحتمية التاريخية.


يكتب بودلير عن الحديث باعتباره زائلًا وعرَضيًا من جهة، وأبديًا ودائمًا من جهة أخرى. تنشغل الحداثة بالعشوائي والمؤقت، لكنها تصاب بالحنين إلى الوطن لبعض الوقت حينما (كما تقول الشائعات) يوجَد المطلق واللانهائي. ثمَّة غياب في صميم العمل الفني الحداثي، إذ ليس بوسعك سوى إلقاء نظرة خاطفة على الحقيقة والواقع، وعلى الأسس الثابتة والهويات المستقرة، أو على كل ما يُزعَم أنَّ العصر الحديث قد جرفه. في المقابل، ما بعد الحداثة ما زالت يافعة ونَزِقَة على مثل هذه النوستالجيا. فما من غيابٍ مؤرِّق في العالم، ما تراه هو ما تحصل عليه. فالحقيقة والواقع خيالات مريحة، والهوية تُختَرَع بحسب الحالة والموقف. على الحداثة أنْ تتخلى عن لوعاتها الميتافيزيقية، كما كان الفيلسوف ما بعد الحداثي ريتشارد رورتي مغرمًا بملاحظة مؤداها: لا تهرش حيث لا حكة[2].


في كتابات بنيامين، يتقارب العرضي والأبدي طوال الوقت. فهو، من جهة أولى، مأخوذ بأشياء الحياة اليومية: القفازات والمدن والمقامرة ومعارض الطعام والدمى والمشتغلين بالجنس والعنف والحكايات والصراع الطبقي والغرف والتصوير والطفولة. وكما يجد وليام بليك الخلود في حبة الرمل، تجد نظرة بنيامين السوريالية معانيَ بالغةَ الأهمية في التافه والمهمَل. وبالطريقة ذاتها، يؤمنُ بأنَّ كل لحظة، حتى أتفهها، تمثل بابًا ضيقًا قد يلج منه المُخلِّص. بالإضافة لكونه أول منظِّرٍي الثقافة الشعبية، كان أيضًا متعمِّقَا في التنجيم والصوفية والقبالة[3]، هذا ولم نأتِ على ذكر الحشيش. هو ماركسي ينتظر المُخلِّص، تتجاذبه مادية رفيقه بريخت الصارمة ويهودية صديقه غِرشوم شولِم الباطنية.


بالكاد يعلم جيمسون أي شيء عن اللاهوت، ولا يعرِف إلا القليل عن الأخلاقيات، التي يراها تضادًا تبسيطيًا بين الخير والشر، وهذه رؤية بيوريتانية أمريكية، سيجري استنساخها لاحقًا في أفلام الكاوبوي. كما يقصر عن استيعاب الفرق بين الأخلاق والنزعة الأخلاقية. مع ذلك، فهو أفضل ناقد ثقافي في العالم بلا أيّ من مخاوف بنيامين بشأن كتابة الكتب. فاليوم في أواخر عقده الثامن، أنتج منها حوالي خمسة وعشرين، وثمَّة واحدًا آخر على الأقل في طور الإعداد. ويبدو أنه لم يترك شيئًا إلا وقرأه، ربما باستثناء الدليل غير العادي لتربية الخنازير، أما ثراء المعرفة الثقافية المنظومة في هذا العمل الأخير فأمرٌ مذهل. يجمع جيمسون بين الحساسية الأوروبية والطاقة الأمريكية العجيبة. كما أنَّه صاحب أعظم أسلوب بين المنظرين الأدبيين، ممن تنساب عنده موجات الجمل المترقرقة بشكلٍ سلس بحيث يجب على القارئ أخذ أنفاسٍ عميقة، محتَرِسًا من الغرق قبل الوصول إلى نقطة التوقف التالية.


يميل جيمسون بالعادة إلى بثَّ أفكاره على مساحة كبيرة من الورق، لذا من المفاجئ أن تجده يضع [فصول –م] كتابه “The Benjamin Files” في صورة مجموعة التقاطات: «الكون» - «الطبيعة تنتحب» - «الحيّز والمدينة» - «التاريخ والخلاصية» وسواها. ولعله تساءل هو نفسه آخر اليوم ما إذا كانت الكتب ممكنة في الواقع. ثمَّة إشارات على أنَّه يتساهل قليلًا، إذْ ترد العديد من علامات التعجب، ما يرفع درجة الحرارة العاطفية.


كان جيمسون على الدوام شاعرًا بلا شِعر –أو ناقِدًا «مشاركًا في التأليف»، حسبما يدعو هذه الحالة، يمثِّل تلذذه باللغة الحياة السرية لكل جملة من الجمل. ولا ريب أنَّ هذا مما يجعله يجد بنيامين جذابًا للغاية. حين يلاحظ بأنَّ أحد المقاطع يتميَّز «بمثل هذه الحيوية والسرور بالمشاركة في التأليف من واقع طاقاته بما يناقض موضوعه الظاهري»، فما من شك أنّه يتحدث عنه. ينطبق الأمر ذاته على نظريته القائلة بأنَّ «المفكر والكاتب في بنيامين يتداخل أحدهما بالآخر على الدوام، لينتجا تقلبًا غير مستقر بين الكلمات والمفاهيم بحيث ينبغي على القارئ المضي بينها كمن يمشي على الحبل». جيمسون بدوره ينوس بين المفهوم والصورة، بين الناقد والكاتب الإبداعي.


لقد لجَمَت أدبيّات التَّصرُّف (الإتيكيت) الأكاديميّة، حتى هذه اللحظة، انطلاقة خياله الواسع. بيد أنَّه يميل هنا إلى منحه حرية أكبر، ليس أقلها حين يأتي الأمر إلى التعداد[4]: قد يعني الفعل الألماني “Aufblitzen” «flash up, flare up, sparkle, coruscate, glint, gleam, glimmer, streak, twinkle, and so on». أو خذ مثلًا جردة موضوعات بودلير: «العاهرات والسحاقية، تقرحات السفلس والقمامة في الشوارع، الشحاذين، العميان، عواجيز مصابات بالتهاب المفاصل، ترانيم الثورة، الجثث». يكتب جيمسون في موضعٍ آخر بأنَّ في شعر بودلير «تقطع الكلمة الصائبة مثل ضربة السكين، مثل الاستيلاء على ترسانة، مثل محطة راديو ومركز بريد في حالةِ تمرد».


ليس لزامًا على المنظرين الأدبيين أن يقرؤوا بهذا القدر من القرب. بل كانت الشكوى المعتادة أنهم يقفون بعيدًا جدًا عن النص. في الواقع، لا يوجد مُنظِّر معروف ينطبق عليه هذا الوصف، من الشكلانيين الروس إلى ما بعد البنيويين. فرومان جاكوبسون، ورولان بارت، وجوليا كريستيفا، وجوزيف هيليس ميللر، وهيلين سيكسو، وجاك دريدا: جميعهم قراء عن قرب بشكل مثير للإعجاب. في حين يُعتَبَرُ النقاد الماركسيون مثل جيمسون من بين أبرز الأهداف لهذا الجزء من الكسل الفكري، وهذا ما جعله يلاحظ ذات مرة أنَّ لديهم مسؤولية خاصة للتصالح مع شكل الجُمل. ولم يتبع أحد هذه النصيحة بدقة أكثر مما اتبعها هو.


 

[1] - بالألمانية أصل مسرح الرثاء الألماني. (م) [2] - يقابلها بالعربية: ليجي الصبي؛ نصلي ع النبي. (م) [3] - القبالة: من الطرق الباطنية لتفسير وتأويل النص الديني عند اليهود. (م) [4] - العبارة التالية مقتبسة من كتاب فريدريك جيمسون. (م)

Comments


bottom of page