top of page
صورة الكاتبأحمد الشربيني

إيمانويل ڤالرشتاين البورجوازية: الواقع والمفهوم

تاريخ التحديث: ٦ أبريل ٢٠٢١



«تعريف البورجوازية؟ لن نتفق بشأنه أبدًا». — أرنست لابروس (١٩٥٥)



البورجوازي هو الشخصية المحورية في ميثولوجيا العالم الحديث، يعده بعض الناس بطلًا ويراه غيرهم تشخيصًا للشر، ويمثل لمعظم الناس إلهامًا أو غواية، فمن غيره القائم على صنع الحاضر وسحق الماضي؟ بالإنجليزية نفضل تعبير «الطبقة الوسطى» على تعبير «بورجوازي»، وطريفٌ أننا نفتقر إلى دالٍ مفرد على عضو هذه الطبقة، حتى مع الفردانية المزهوة للثقافة الأمريكية. يخبرنا اللغويون أن اللفظة ظهرت للمرة الأولى لاتينية: «burgensis» في العام ١٠٠٧، ثم عاودت الظهور عام ١١٠٠ في صورة الكلمة الفرنسية «burgeis»، ودلت في الأصل على سكان الحضر (bourg) الذين كانوا «أحرارًا»،[1] أي أحرار من الالتزامات التي شكلت المرتكز الاقتصادي والعصب الاجتماعي للنظام الإقطاعي آنذاك. فلم يكن البورجوازي فلاحًا أو قنًا، لكنه لم يكن نبيلًا كذلك.

يعني هذا أن المفهوم احتوى منذ البداية على شذوذ ولبس، أما الشذوذ فلأن البورجوازي لم يملك موقعًا طبيعيًا في البناء الهرمي والنظام القيمي للإقطاعية بمراتبها الكلاسيكية الثلاث، اللاتي تبلورن لحظة ميلاد مفهوم «البورجوازي» نفسه،[2] وأما اللبس فلأن «البورجوازي» كان وما زال لفظًا يفيد الشرف كما الازدراء، والمديح كما التبكيت. لذا قيل إن لويس الحادي عشر افتخر بتلقيبه «بورجوازي بيرن»،[3] لكن موليير سخر لاذعًا من «الجنتلمان البورجوازي»، وكتب فلوبير إن «البورجوازي هو كل من انحط تفكيره».


ولأن البورجوازي لم يكن نبيلًا ولا فلاحًا، فقد احتل ما كان يُظن أنه شريحة اجتماعية وسيطة، أي ما نسميه اليوم الطبقة المتوسطة، وهو ما أدى إلى لبس جديد: هل كل سكان الحضر بورجوازيون أم بعضهم فقط؟ وهل الحرفيون بورجوازيون أم بورجوازيون صغار أم غير بورجوازيين أصلًا؟ بدأ اللفظ يحيل في استخدامه إلى درجة بعينها من الرخاء المادي، تلك التي تفيد إمكانات الاستهلاك (نمط الحياة) وإمكانات الاستثمار (رأس المال).


تطور المفهوم على هذين المحورين للاستهلاك ورأس المال، فكان ممكنًا مقارنة نمط حياة البورجوازي بنمط حياة النبيل من جهة وبنمط حياة الفلاح والحِرفي من جهة مقابلة. بمواجهة الفلاح والحِرفي، يفترض مفهوم البورجوازي الحياة المريحة والانضباط والنظافة، أما بمواجهة النبيل، فيفيد غياب الرغد الحق وأناقة السلوك (وهذا مصدر تصورنا عن النوڤو ريش أو الأثرياء الجدد). ومع توسع الحياة الحضرية وزيادة تعقيدها، أصبح ممكنًا كذلك مقارنة نمط حياة البورجوازي بالمفكر أو الفنان، وعندئذ يمثل الأول النظام والعرف وبلادة التفكير، ويمثل الثاني كل ما هو تلقائي وحر وبهيج وذكي، أي يمثل السمات التي اجتمعت بعد ذلك تحت عنوان «الثقافة المضادة». وأخيرًا سمح التطور الرأسمالي لبعض عناصر البروليتاريا بتبني نمط حياة شبه بورجوازي من دون أن يكون صاحبها رأسماليًا حقًا، وهي الظاهرة التي أصبحنا نسميها «برجزة».


هكذا انشغل الخطاب الثقافي الحديث بالبورجوازي التافه والمحافظ، فيما انشغل الخطاب الاقتصادي السياسي الحديث بالبورجوازي الرأسمالي، الذي استثمر في وسائل الإنتاج واستأجر العمالة من أجل مبادلة السلع في السوق. وحيثما وُجد الربح في الفارق بين عائد البيع وكلفة الإنتاج، فثم مقصد البورجوازي ومنتهى أمله. احتفى بعض الناس بهذا الدور الاجتماعي إذ رأوا في البورجوازي رائدًا ومبدعًا، واستنكره آخرون لما رأوا فيه من استغلال وطُفيلية، لكن الجميع اتفق على أن هذا البورجوازي الرأسمالي هو المحرك المركزي للحياة الاقتصادية الحديثة منذ القرن التاسع عشر، أو منذ السادس عشر بحسب جمع أقل، أو حتى قبل ذلك في رأي فئة ضئيلة.


تعريفات القرن التاسع عشر


مثلما اتخذ مفهوم البورجوازي موضعًا وسطًا بين النبلاء/ ملاك الأراضي والفلاحين/ الحرفيين، اتخذت الحقبة البورجوازية تعريفًا مزدوجًا بحسب اتجاه النظر، فهي حقبة تجاوز الإقطاع إن نظرت للوراء، وحقبة يهددها وعد الاشتراكية أو وعيدها إن نظرت للأمام. ورثنا هذا التعريف المزدوج من القرن التاسع عشر، الذي رأينا فيه كما رأى في نفسه الانتصار المجيد للبورجوازية وقمة تطورها، في المفهوم وفي الواقع. فما الحضارة البورجوازية في وعينا الجمعي إن لم تكن بريطانيا الڤيكتورية: مصنع العالم وموطن عبء الرجل الأبيض، المسؤولة والعلمية والمتحضرة، والتي لم تغب عنها الشمس؟


نظن أننا نعرف جيدًا واقع البورجوازية الثقافي وواقعها الاقتصادي السياسي، لأن كلًا من المحافظين والليبراليين والماركسيين، ممثلي التيارات الإيديولوجية الكبيرة للقرن التاسع عشر، قدموا لنا أوصافًا متشابهة للحقبة البورجوازية. اتفق الجميع على وظيفة البورجوازي، فهو عادة تاجر في الأزمنة الأقدم ثم صاحب عمل مأجور ومالك لوسائل الإنتاج، خصوصًا إذا استأجر عمالًا لإنتاج البضائع. واتفق الجميع كذلك على دافعه الاقتصادي، فهو مدفوع بالرغبة في الربح ومراكمة رأس المال. واتفق الجميع على سماته الثقافية، فالبورجوازي عاقل وعقلاني وتابع لمصلحته. اتفق الجميع في القرن التاسع عشر حتى ليظن المرء أن المفهوم قد أصبح خلوًا من الإشكال فلن يثير نقاشًا، لكن لابروس يدعونا للنظر مجددًا عن قرب، والتوجه صوب الواقع الإمبريقي في شموله، إذ أن هذا الإجماع الظاهري يبطن الخلاف.


قدم لابروس نصيحته في العام ١٩٥٥، لكن لا يبدو مع ذلك أن أحدًا من الباحثين أعاره كثير اهتمام، فلماذا؟ دعنا ننظر هنا إلى خمسة سياقات يظهر المفهوم فيها، في أعمال المؤرخين وعلماء الاجتماع، فيثير قدرًا من الارتباك فيهم أو في قارئهم، وربما يأخذنا تحليل هذا الارتباك إلى مفاتيح أفضل لمواءمة الواقع والمفهوم.


١. يكثر المؤرخون من استخدام مفهوم يسمونه «التحول الأرستقراطي للبورجوازية». ادعى بعض الباحثين أن هذا التحول قد وقع مثلًا في هولندا القرن السابع عشر،[4] وأن نظام «نبلاء العباءة» الذي عرفته فرنسا قبل الثورة واعتُبر لاحقًا نتيجة لفساد القصر هو في واقع الأمر مأسسة لهذا المفهوم. التحول الأرستقراطي هو المسار الذي صوره توماس مان في روايته عن عائلة بودنبروك، حيث يتحول الوجود الاجتماعي لأسرة ثرية من مرحلة ريادة رأسمالية إلى إدارة محافظة ثم ينتهي برعاية الفنون، واليوم أصبح ينتهي بخلاعة منحلَّة أو صعلكة مُفلسَفة.


ما ينبغي أن نلحظه هنا هو أن البورجوازي، عند نقطة معينة من سيرته، يبدأ بنبذ أسلوبه الثقافي ودوره الاقتصادي السياسي لصالح دور «أرستقراطي»، وهو دور لم يعد مقتصرًا على النبلاء وحاملي الألقاب، وإنما تحول منذ القرن التاسع عشر ليدل فقط على الثراء القديم. أصبح تملك الأرض رمزًا رسميًا لهذه الظاهرة، أو وسمًا للنقلة التي ينجزها صاحب المصنع البورجوازي ساكن المدينة ليصير مالك الأرض النبيل ساكن الريف.


لكن لماذا ينجز البورجوازي هذه النقلة؟ الإجابة بديهية. فالمكانة الاجتماعية للأرستقراطي وموقعه في الخطاب الثقافي منذ القرن الحادي عشر لليوم، كانا دائمًا أعلى شأنًا من موقع البورجوازي ومكانته في الخطاب ذاته. هذا أمر لافت لأن الجميع ما فتئ يؤكد أن البورجوازي هو بطل العالم الحديث ومركز اقتصاده السياسي منذ القرن التاسع عشر أو السادس عشر أو قبل ذلك، فلماذا يترك إذن دور البطولة ليحتل الموقع الهامشي والأثري للأرستقراطية؟ أضف إلى هذا أن الرأسمالية قد رافقتها إيديولوجيا الاحتفاء بالبورجوازي، في مقابل إيديولوجيا الإقطاع التي بجَّلت النبلاء، وهذه الإيديولوجيا البورجوازية هيمنت زهاء مائة وخمسين أو مائتي سنة على مركز العالم الرأسمالي على الأقل، فلماذا تستمر ظاهرة بودنبروك؟ ولماذا تستمر ألقاب الشرف مصدرًا لأعلى صور الفخر في بريطانيا حتى اليوم؟


٢. يشيع مفهوم آخر مهم في الكتابات الماركسية المعاصرة وخارجها بدرجة أقل، هو مفهوم «خيانة البورجوازية» لدورها التاريخي، وهو مفهوم يستخدم مع البلدان الأقل «نموًا»، حيث انقلبت البورجوازية الوطنية على دورها الاقتصادي «الطبيعي» أو المتوقع، كي تتملك الأرض وتتعيَّش بالريع، أي كي تصبح أرستقراطية. ولا يتعلق الأمر هنا بالتحول الأرستقراطي الفردي لعدد من البورجوازيين، بل بتحول جمعي لطبقة في لحظة تاريخية وطنية. يفترض الباحث الذي يضمر نظرية خطية للتطور الاجتماعي أن البورجوازية تستولي على جهاز الدولة بعد أن يشتد عودها لتقيم دولة بورجوازية وتبدأ بالتصنيع الواسع ومراكمة رأس المال، متابعةً المسار التاريخي البريطاني. لا يهم بعد هذا إن تحول بعض البورجوازيين إلى أرستقراطيين، لكن قبل إنهاء هذه العملية فإن كل تحول أرستقراطي هو وعيد بالإخفاق الجمعي. كان هذا التحليل أساسًا للإستراتيجية السياسية في القرن العشرين، وتسويغًا لأحزاب الأممية الثالثة وما تلاها كي تنهض بعبء الثورة البورجوازية قبل أن يحين أوان الثورة البروليتارية، وفق ما سُمي «نظرية المرحلتين للثورة الوطنية»، والحجة أن المرحلة الأولى «ضرورة تاريخية» على البروليتاريا أن تنجزها ما دامت البورجوازية الوطنية قد خانت دورها الطبيعي.


هذا تصور عجيب من جهتين، الأولى أن طبقة اجتماعية ما، هي البروليتاريا، قادرة ومُلزَمة على إنجاز المهمة التاريخية (أيًا كان ما يعنيه هذا) لطبقة أخرى، هي البورجوازية. تذكر أن لينين هو من أطلق، أو بارك على الأقل، هذه الإستراتيجية أول مرة، على الرغم من أنها تنضح بالأخلاقوية التي ميزت الاشتراكيين الطوباويين في نقد ماركس وإنجلز. وإذا نظرنا لهذا التصور من الجهة الثانية، أي جهة البورجوازيين أنفسهم، وجدناه قد زاد عجبًا، فما الذي يدفع البورجوازية الوطنية لخيانة دورها التاريخي، الذي يُفترض بأدائه أن يهبها قياد كل شيء؟ يتفق الماركسيون والليبراليون والمحافظون على أن البورجوازي الرأسمالي تابع لمصلحته الخاصة، فكيف اتفق أن يغفل مصلحته في هذه اللحظة بالذات؟ يبدو الأمر تناقضًا لا مجرد لغز، ويزيد الفكرة غرابة أن عدد البورجوازيين «الخائنين» لدورهم التاريخي لا ينتهي عند أقلية، بل بالعكس، يشكل الأغلبية العظمى من أعضاء الطبقة.


المُلكية والإدارة


٣. ظهر مفهوم «التحول الأرستقراطي للبورجوازية» عادة في الحديث عن التاريخ الأوروبي منذ القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر، فيما ظهر مفهوم «خيانة البورجوازية» في الحديث عن المناطق غير الأوروبية في القرن العشرين. وإضافة لهذين، ظهر مفهوم ثالث للحديث حصرًا عن أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، هو الذي كتب عنه بيرل ومينز في ١٩٣٢ نصهما الشهير الذي أشارا فيه إلى ميل متزايد في بنية المشاريع التجارية الحديثة لفصل الملكية عن الإدارة.[5] قصد بيرل ومينز بهذا التعبير تحولًا من وضع يدير فيه المالك الشرعي مؤسسته، إلى وضع الشركات الحديثة، حيث يتوزع الملاك بين عدد كبير من المستثمرين لرأس المال النقدي، أما المديرون وأصحاب القرار الفعلي فليسوا مساهمين بالضرورة، وإنما موظفون. وغني عن البيان أن هذا الواقع الحديث بعيد عن الدور الاقتصادي المعروف للبورجوازية، سواء عند الليبراليين أو الماركسيين.


لم يقتصر أثر هذا الشكل الجديد للشركات على حث بعض التحولات الهيكلية في عالم الأعمال، وإنما أدى انتشاره إلى ابتداع شريحة اجتماعية كاملة. ارتأى ماركس في القرن التاسع عشر أن تمركز رأس المال سيؤدي تدريجيًا إلى استقطاب طبقي حاد، مقابلة نهائية بين بورجوازية ضئيلة وبروليتاريا هائلة. كان مقصد ماركس أن جماعتين كبيرتين على وشك الاندثار، هما صغار المنتجين الزراعيين وصغار الحِرفيين، نتيجة السيرورة المزدوجة لرأس المال: سيلجأ قسم قليل إلى الاستثمار الواسع فيصير بورجوازيًا، وسيلجأ القسم الأعظم إلى العمل المأجور فينضم للبروليتاريا. وعلى الرغم من عزوف الليبراليين عن أي تنبؤ مماثل، فلم يكن بنبوءة ماركس في شقها الوصفي غير السياسي ما يناقض ركائزهم النظرية، أما المحافظون مثل كارلايل فارتعبوا أمام الفكرة لاعتقادهم بصحتها.


وقد كان ماركس محقًا، لأن هاتين الجماعتين اضمحلتا بالفعل في المائة وخمسين سنة الفائتة في العالم كله، لكن علماء الاجتماع لاحظوا مع ذلك أن هذا الاضمحلال قد جاء مصحوبًا بنشوء شرائح جديدة. بدأنا نسمع أن «الطبقة الوسطى القديمة» تندثر، وأن «طبقة وسطى جديدة» تزدهر،[6] وتكونت هذه الطبقة الوسطى الجديدة من الموظفين المهنيين الذين أهلهم التدريب الجامعي لاحتلال مواقع إدارية أو شبه إدارية في الشركات الحديثة، وكان جلهم في البداية مهندسين، لكن سرعان ما تبعهم خبراء القانون والصحة والتسويق والحوسبة وغير هؤلاء.


هنا تجب إشارتان، تتعلق أولاهما بالإبهام اللغوي الذي أدى لاعتبار هذه «الطبقات الوسطى الجديدة» شريحة «وسيطة» مثلما كان الحال في القرن الحادي عشر، لكنها تقع هذه المرة بين الطبقة البورجوازية أو الرأسمالية أو الإدارية العليا وبين البروليتاريا أو العمال. كانت بورجوازية القرن الحادي عشر بالفعل شريحة وسيطة، لكن لفظة البورجوازية في سياقات القرن العشرين تشير إلى أعلى الشرائح الاجتماعية، حتى إن ميز الباحث بين ثلاث شرائح كالشائع. أُضيف إلى هذا الإبهام لبس جديد في الستينيات مع محاولة تدشين هذه الطبقة الوسطى الجديدة طبقةً عاملة جديدة واختزال الشرائح الثلاث إلى اثنتين.[7] بدأ هذا التحول مدفوعًا باعتبارات سياسية، لكن عضدته كذلك واقعة مهمة، هي أن الفوارق بين أنماط الحياة ومستويات الدخل للعمال المهرة وبينها لهؤلاء الموظفين الإداريين كانت تتضاءل.


أما الإشارة الثانية فهي أن هذه الطبقات الوسطى الجديدة عصية على الفهم باستخدام العدة النظرية للقرن التاسع عشر، فهي بورجوازية من جهة رخائها المادي ومراكمتها فائضًا شحيحًا يمكن استثماره في أسهم أو سندات، وهي بالتأكيد بورجوازية من جهة أنها تتبع مصالحها الخاصة في السياسة والاقتصاد، لكنها في الوقت ذاته بروليتارية من جهة اعتمادها على الراتب بدل العائد. ومن جهة ثالثة، يتناقض نمط الحياة المتحرر لهذه الطبقة مع المزاج البيوريتاني المفترض للثقافة البورجوازية، ما يجعلها من هذه الناحية أقرب للأرستقراطية.


٤. ثمة معادل في العالم الثالث للطبقات الوسطى الجديدة، فعقب أن نالت دولة تلو أخرى استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ المحللون يلحظون ازديادًا كبيرًا في شريحة جديدة تتكون من الكوادر المتعلمة الموظفة في الجهاز الحكومي، والتي كان دخلها يضمن لها قدرًا من الرخاء النسبي. وهكذا، اخترع المحللون لفظة جديدة، هي «البورجوازية الحكومية»، للإشارة إلى هذه الشريحة في إفريقيا، حيث عاشت تلكم الكوادر في رغد نسبي دونًا عن الجميع. كانت البورجوازية الحكومية بورجوازية تقليدية من جهة نمط الحياة والقيم الاجتماعية، وشكلت الحاضن الاجتماعي لمعظم الأنظمة إلى الحد الذي دفع فرانز فانون ليُسمِّي دول الحزب الواحد الإفريقية «ديكتاتوريات البورجوازية»، وكان مقصده البورجوازية الحكومية تحديدًا.[8] لكن أحدًا لم يعتبر موظفي الدولة هؤلاء بورجوازية بالمعنى التقليدي الذي يفيد أداء مهمة اقتصادية تشمل الريادة الرأسمالية أو تشغيل الأجراء أو الإبداع والمغامرة في السوق أو تعظيم هامش الربح، ومع أنهم كثيرًا ما لعبوا هذه الأدوار في الواقع فلم يقابلهم أي احتفاء، وإنما قوبلوا باتهامات «الفساد».

٥. أما الميدان الأخير الذي احتلت فيه البورجوازية أو الطبقات الوسطى موقعًا مركزيًا ومربكًا في الوقت نفسه فكان تحليلات بنى الدولة الحديثة. وسواء ولى المرء وجهه صوب المذاهب المحافظة أو الليبرالية أو الماركسية، فسيجد أن التطور الرأسمالي يقترن وثيقًا بتطور السلطة السياسية لأجهزة الدولة. اعتقد الماركسيون أن الاقتصاد الرأسمالي يؤول إلى دولة بورجوازية، وهي العقيدة التي عبر عنها القول الشهير إن «الدولة هي اللجنة التنفيذية للطبقة الحاكمة»،[9] أما لب التفسير الليبرالي للتاريخ فهو أن نزوعًا للحرية الإنسانية قد تطور بالتوازي في الحقلين الاقتصادي والسياسي، لذا انطوى مبدأ الحرية الاقتصادية بالضرورة على قرينه السياسي، وهو الديمقراطية التمثيلية أو الحكم البرلماني. أوليس هذا بذاته ما قض مضاجع المحافظين؟ إن النقلة من تجريد علاقات العمل نحو اضمحلال المؤسسات التقليدية، وأولها مؤسسات الدولة، هي التي دفعتهم للضجيج بشأن «الاسترداد»، وليس ما أرادوا استرداده غير سلطة القصر وامتيازات النبلاء.


لكن بعض الأصوات شككت في هذه الوشيجة بين البورجوازية والدولة، فحتى في معقل النصر البورجوازي في بريطانيا الڤيكتورية، كتب والتر باجوت عن الدور الجوهري المستمر الذي يلعبه القصر في صيانة الشروط المؤسسة للدولة الحديثة والنظام الرأسمالي، والتي تسمح لهما بالازدهار.[10] كذا أصر ماكس ڤيبر على أن التحول البيروقراطي للعالم الحديث، وهي العملية التي رأى فيها ركن الحضارة الرأسمالية وعمادها، ليست ممكنة عند قمة الهرم السياسي،[11] أما جوزف شومبيتر فأصر على أن البورجوازية عاجزة عن استيعاب تحذيرات باجوت، وسيؤدي بها الحرص على مقاليد السلطة إلى هلاك محتوم.[12] اعتقد الثلاثة أن معادلة الاقتصاد البورجوازي والدولة البورجوازية لم تكن قط بالبساطة الظاهرة.


ظلت نظرية الدولة وأساسها الطبقي عثرة مستمرة للماركسيين في الثلاثين سنة الأخيرة، بدا خصوصًا في السجال بين نيكوس بولانتزاس ورالف ميليباند،[13] قبل أن يصبح «الاستقلال النسبي للدولة» مقولة مكرورة تلقى قبولًا صوريًا من أغلب المفكرين. لكن ما الاستقلال النسبي للدولة إن لم يكن اعترافًا بالتعدد داخل البورجوازية نفسها بصورة تحول دون اختزال جهاز الحكم إلى «لجنة تنفيذية» لأي من أقسام الطبقة وفق التعبير الماركسي؟ كذلك لا يبدو أن أقسام البورجوازية تؤول في المحصلة إلى طبقة أو جماعة واحدة متجانسة.


نظرة جديدة للمفهوم


يبدو أن مفهوم البورجوازية الشائع قد أصبح صعب الاستخدام من دون لبس في أي تحليل للقرن العشرين. هذا المفهوم الذي ورثناه من العصور الوسطى بعد أن مر عبر ممثليه الأوروبيين في بواكير الحداثة لينتهي عند رجال التصنيع الكبار في القرن التاسع عشر لا يمكن استخدامه مفتاحًا لفهم التطور التاريخي في العالم الحديث، ومع ذلك لا يبدي أحد استعدادًا للاستغناء عنه، ولست أعرف أي قراءة تاريخية للحداثة تتجنب الإشارة إلى البورجوازية أو الطبقات المتوسطة، وهو أمر مفهوم، فلا يمكن للمرء أن يحكي قصة من دون ذكر بطلها الرئيس. لكن إنْ استمر المفهوم يقاوم الانطباق على واقعه، حتى في تجلياته النظرية المتنافسة، فلا بد من أن يخضع للمراجعة والتمحيص من أجل استكناه خصائصه الجوهرية.


لنشر أولًا إلى واحدة من طرائف التاريخ النظري. يعرف الجميع أن البروليتاريا، أو طبقة الأجراء إن كنت تفضل هذا التعبير، لم توجد في التاريخ هكذا من دون مقدمات، وإنما جرى خلقها عبر فترة طويلة. في قديم الزمان كانت عمالة العالم تتكون من مزارعين اتخذ دخلهم صورًا عديدة، لكن نادرًا ما تلقوا أجورًا، أما اليوم فقسم عظيم ومتعاظم من قوة العمل يوجد في المدن ويتلقى دخله على هيئة أجر، وهو ما يُدعى «تحولًا بروليتاريًا» في عرف بعض الناس و«اختراع الطبقة العاملة» في عرف آخرين،[14] وفي الحالتين كانت العملية محلًا لنظر كثير ودراسة مستفيضة.


نعرف كذلك أن نسبة الأشخاص الذين يمكن أن نسميهم بورجوازيين، وفق تعريف أو آخر، قد زادت كثيرًا عن ذي قبل، حتى لو كانت هذه الزيادة أقل وضوحًا. ربما كانت هذه النسبة في ارتفاع منذ القرن الحادي عشر، وهي بالتأكيد في ارتفاع منذ القرن السادس عشر، لكن مع ذلك لا يتكلم أحد عن «تحول بورجوازي» مواز للتحول البروليتاري، ولا يصنف الباحثون الكتب عن خلق البورجوازية، وإنما يكتبون بدل ذلك عن «الفتح البورجوازي».[15] تبدأ البورجوازية الحاضرة سلفًا والمنبتة عن أي أصل في ممارسة فاعليتها على الآخرين، أرستقراطيين ودولة وعمالًا، كأنها انبثقت مكتملة من رأس زيوس.


كيف لا نعجب من هذا التفكير الفج بالخوارق؟ هذا تفكير بالخوارق لأنه يطرح أسطورة خلق للعالم الحديث بطلها البورجوازية والطبقة المتوسطة. تبدأ هذه الأسطورة في سالف الزمان، لمّا كان الإقطاع، أو نظام اقتصادي غير تجاري بلا[AE1] قطاعات مستقلة، وفي هذا الزمان وُجد نبلاء وفلاحون، لكن كذلك (بالصدفة؟) بعض مواطني المدن الذين امتهنوا التجارة والإنتاج للأسواق. بدأت هذه الطبقة المتوسطة بالنمو، ووسعت مجال التبادلات النقدية، فانفتح العالم على عجائب الحداثة. وفي نسخة مختلفة قليلًا من الأسطورة نفسها، لم يكتف البورجوازيون بالنهوض في ميدان الاقتصاد، وإنما أتبعوه بنهوض سياسي للإطاحة بالهيمنة الأرستقراطية، وفي هذه الأسطورة لا بد أن تكون البورجوازية سابقة الوجود لأن تحليلًا لتشكلها التاريخي قد يهدد ميثولوجيا الحداثة وينزع عنها الاتساق والمعنى، ولهذا لم يتم هذا التحليل، أو لم يُجرَ [AB2] إلا على استحياء.


مع تشييء الفاعل البورجوازي وتدشينه بطلًا لمسرحية الحداثة، انطلقت الضلالات بشأن التكوين النفسي والإيديولوجي لتاجر العصور الوسطى الذي سينمو لاحتلال العالم، فالبورجوازي «فرداني» في الأعراف الماركسية والمحافظة والليبرالية على السواء. شددت كل هذه المذاهب على الاختلاف الجوهري للحداثة عن كل ما سبقها (وكذلك عما يليها بالنسبة للماركسيين)، بسبب اشتمالها على فاعل اجتماعي مركزي، هو الرأسمالي الباحث عن مصلحته وحدها. لا يشعر البورجوازي بأي التزام اجتماعي، ويعرف القليل من الضوابط الاجتماعية أو لا يعرفها مطلقًا، ويمضي في حياته وفق حساب نفعي للذة والألم، وكل هذا مثَّلَ لليبراليي القرن التاسع عشر الممارسة الحقة للحرية، التي رأوا أن تعميمها سيؤدي بطريق غامض إلى تعميم الخير على الجميع، فنربح كلنا ولا يخسر أحد. واجه الماركسيون والمحافظون الحجج الليبرالية بمزيج من الشك والاشمئزاز الأخلاقي، فما كان ممارسة للحرية ومصدرًا للتقدم الإنساني عند الليبراليين، كان للمعسكر المضاد طريقًا نحو الفوضى والتفسخ الاجتماعي على المدى البعيد.


لست بصدد إنكار المكون «الفرداني» للثقافة الحديثة، والتي بلغت أوج سطوتها في القرن التاسع عشر، ولا إنكار أن هذا المكون تجلى في أنماط السلوك الاجتماعي لفاعلين اجتماعيين لهم شأنهم في العالم الحديث، سواء كان هذا التجلي للفردانية سببًا أو نتيجة للسلوك المقصود. لكن مقصدي التحذير من القفزة المنطقية بين الفردانية باعتبارها واقعة اجتماعية مهمة وبين اعتبارها الواقعة الاجتماعية الأهم للعالم الحديث والحضارة البورجوازية والاقتصاد الرأسمالي، لأنها لم تكن كذلك قط.


تبدأ المشكلة من فهمنا لطرائق عمل الرأسمالية. فلأن الرأسمالية تشترط حرية الحركة لعوامل الإنتاج من عمل ورأس مال وبضائع، فإننا نسارع بافتراض أنها تشترط حرية مطلقة لهذه الحركة، وأن هذا ما يريده الرأسماليون، مع أن ما يريده الرأسماليون في الواقع هو حرية حركة جزئية لهذه العوامل. ولأن الرأسمالية تعمل وفق آلية السوق وقانون العرض والطلب، نسارع بافتراض أنها نظام يدفع نحو أسواق تنافسية، وأن هذا ما يريده الرأسماليون، مع أن ما يريده الرأسماليون فعلًا هو أسواق تعمل بكفاءة مع هامش للمناورة، أو اقتصاد يسمح بالتنافس والاحتكار جنبًا إلى جنب في مزيج مضبوط. ولأن الرأسمالية نظام يكافئ السلوك الفرداني، فإننا نسارع بافتراض أنها نظام يدفع الجميع نحو السلوك الفرداني، وأن هذا ما يريده الرأسماليون، مع أن ما يريده الرأسماليون فعلًا هو أن يبدي الجميع، بورجوازيين وبروليتاريين، درجة غير هينة من الميل الإيثاري في رؤيتهم للعالم. ولأن الرأسمالية نظام مبني على حقوق الملكية، نسارع بافتراض أنها تتطلب تقديس الملكية الخاصة وإقحامها في مزيد من مجالات الاجتماع، على أن تاريخ الرأسمالية ليس في الواقع أكثر من انحسار بطيء لحقوق الملكية. ولأن الرأسمالية نظام يطلب إقامة القرار السياسي على أسس اقتصادية، نسارع بافتراض أنه يقاوم التدخل السياسي، على أن الرأسماليين لم يتوقفوا يومًا عن توظيف أجهزة الدولة والسعي وراء السلطة السياسية.


التراكم غير المحدود


يمكن القول باختصار إن مصدر فهمنا الخاطئ للبورجوازية هو قراءتنا المعكوسة والشاذة للواقع التاريخي للرأسمالية. الرأسمالية نظام قائم على التراكم غير المحدود لرأس المال، وهذا التراكم غير المحدود هو ما يُحتفى به روحًا وقلبًا للرأسمالية،[16] وهو ما يقرنه دوركايم بمفهوم اللامعيارية،[17] وما دعانا إريش فروم للبحث عن مهرب منه.[18]


لمّا عمل ماكس ڤيبر على دراسة الرابطة بين الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، اعتنى بشرح التبعات الاجتماعية لمفهوم القدر في اللاهوت الكالڤني [نسبةً إلى القس جون كالڤن – م].[19] فلو كان الله كلي القدرة، والخلاص مقتصر على فئة قليلة، لن يمكن للبشر أن يضمنوا اندراجهم في الفئة الناجية لأن هذا يضع قيدًا على إرادة الله وينفي كلية قدرته. أبان ڤيبر أن هذه الفكرة ممكنة منطقيًا ومستحيلة سيكولوجيًا، لأنها قد تؤدي إلى اعتقاد بأن كل شيء مباح ما دام كل شيء مقدر، أو قد تؤدي إلى يأس يغلل الإرادة بما أن كل الأفعال بلا أثر في الخطة الإلهية الموضوعة سلفًا لخلاص المؤمنين. أكد ڤيبر أن المنطق الهدام سيكولوجيًا عاجز عن الاستمرار ولا بد من مراوغته، ولهذا أضاف الكالڤنيين إلى مفهوم القدر احتمال العلم المُسبق، أو العلم المُسبق السلبي على الأقل، فمع عجزنا عن التدخل في القدر تجيء قدرتنا على استقراء ذنوبنا لنرى فيها علامة لغياب النعمة. هكذا تصبح الحياة ممكنة مجددًا، فعلينا أن نسلك سلوكًا قويمًا لأن السلوك الضال قد يكون مؤشرًا على غضب الله ولعنته.


لنجرب الآن إجراء تحليل يوازي هذا التحليل للتمييز بين الرأسمالية منطقًا وسيكولوجيا. لو كانت غاية الرأسمالية مراكمة غير محدودة لرأس المال، لأصبح الدأب بلا نهاية وإنكار الذات قيمًا عليا منطقية، لأن المعادلات الاقتصادية للربح والأجور لا تعبأ بالراحة، والقرش الذي تنفقه على رفاهك هو قرش غير مُستثمَر، ومن ثمَّ لا يؤدي دوره في المزيد من التراكم. لكن هذه المعادلات الاقتصادية الصحيحة منطقيًا مستحيلة سيكولوجيًا، فما الفائدة من كون المرء رأسماليًا وبورجوازيًا ورائد أعمال لو انتفى ثوابه الشخصي؟ لا فائدة. لكن هذا ما يطلبه النظام منطقيًا، ومن ثمَّ تجب مناورة هذا المنطق بقدر طفيف وإلا توقف النظام عن العمل، وهو ما لم يحدث حتى الآن.


وهكذا، مثلما دخل التعديل على المُركَّب المنطقي للقدرة الكلية والقدر عن طريق مفهوم العلم المُسبق، الذي يؤدي في النهاية إلى نقض المُركَّب المذكور، حدث الأمر نفسه مع مُركَّب المراكمة والادخار الذي يؤسس منطق الرأسمالية، لكن بإدخال مفهوم الريع. لم يكن الريع بالنسبة إلى الاقتصاديين الكلاسيكيين، وماركس بينهم، أكثر من وجه نقيض للتربح، وهي فكرة مغلوطة لأن الريع منتهى أمل التربح ومبتغاه. يمثل اعتقاد الاقتصاديين الكلاسيكيين بأن الحركة التاريخية قد تمت من الريع نحو التربح حجرًا للزاوية في الأسطورة التاريخية القائلة إن البورجوازية أطاحت بالأرستقراطية، وهذه فكرة أخرى مغلوطة من جهتين، أولاهما أن هذه النقلة صحيحة فقط في المدى القصير لا الطويل، وثانيهما أنها تسير بالعكس، لأن الهدف النهائي لكل رأسمالي هو تحويل الربح إلى ريع. يعني هذا أن الهدف النهائي لكل بورجوازي أن يصير أرستقراطيًا، على أن تُفهم هذه المقولة في نطاق المدد القصيرة لا الحقب التاريخية.

الريع بالتعبير الاقتصادي دخل يتأتى من سلطة المرء على موضوع عيني، لا هو من خلق صاحبه ولا كان منتَجًا لعمله، حتى باعتباره رأسماليًا ورائد أعمال. لو اجتمعت حظوظ المرء فأصبح مالكًا لقطعة أرض تجاور نقطة ضحلة من نهر، ثم فرض إتاوة للمرور لمن يود عبور النهر، فهذا ريع، ولو سمح المرء للآخرين بالعمل في أرضه أو بالعيش في مِلكه مقابل مبلغ من المال فهذا ريع. لهذا عرَّفت الوثائق القانونية في فرنسا القرن الثامن عشر أصحاب الريع بأنهم «بورجوازيون يعيشون بنبل على أملاكهم»، وبعبارة أخرى، بورجوازيون يتجنبون العمل والحياة المهنية.[20]


وبالطبع لم يكن المرء ليحصل على الريع في كل هذه الحالات لو لم «يعمل» مطلقًا، فلا شك أنه امتلك حدسًا أو حظًا أهله لحيازة المِلكية التي جعلته مستحقًا للريع. لكن العمل الذي أنجزه الريعي يميزه سِمتان، أولاهما أنه قد تم في الماضي (وعادةً في الماضي السحيق على يد سلف بعيد)، وثانيهما أنه في حاجة إلى سلطة سياسية تضمنه لأن غيابها يعني انقطاع الريع. ولهذا فالريع = الماضي، والريع = السلطة السياسية.


يخدم الريع صاحب المِلكية الحالي فقط، لا الباحث الجديد عن المِلكية من طريق عمله، ولهذا فالريع دائمًا مُزاحَمٌ عليه. ولأن السلطة السياسية تحميه، فهو دائمًا مُزاحمٌ عليه في فلك السياسة، لكن صاحب الغلبة في هذه المزاحمة سيحوز مِلكية بدوره، وسيبدأ في السعي نحو تحصينها ضد أي مزاحمة لاحقة تهدد شرعية ريعه.


والريع أخيرًا آلية لرفع معدل الربح عن المعدل الذي يضمنه سوق تنافسي. لفهم هذا دعنا نتناول عبور النهر ثانيًا، ولنبدأ بافتراض أن هذا النهر ليس به إلا نقطة واحدة ضحلة بما يكفي لبناء جسر، ثم ننظر في الاحتمالات المتاحة. أولًا، قد تقرر الدولة كل الأرض مِلكًا خاصًا، فيصبح مالك قطعتي الأرض الموازيتين لمخاض النهر قادرًا على بناء جسر وتحصيل إتاوة من العابرين، ولأن النهر به نقطة واحدة للعبور، يصبح مالك الجسر محتكِرًا، ويميل إلى فرض إتاوة باهظة لتحصيل قدر معتبر من فائض القيمة الذي تنتجه كل سلاسل الإنتاج المتقاطعة مع النهر. أما البديل الثاني فأن تعلن الدولة الأراضي الموازية لمخاض النهر مِلكًا عامًا، وعليه نصبح أمام احتمالين نموذجيين، الأول أن تبني الدولة جسرًا بتمويل أهلي ولا تحصل رسمًا للعبور، أو تحصل رسمًا بسيطًا لتسوية الكلفة، وفي الحالتين يظل فائض القيمة لسلاسل الإنتاج المتقاطعة مع النهر بلا مساس، أما الاحتمال الثاني فأن تشجع الدولة صغار أصحاب المراكب على التنافس في نقل البضائع عبر النهر، وهو ما يؤدي إلى هبوط أسعارهم وهوامش ربحهم إلى أقل حد ممكن، ومن ثمَّ يتضاءل القدر المحصَّل من فوائض القيمة لسلاسل الإنتاج المتقاطعة بدوره إلى أقل حد ممكن.


الريع والاحتكار


فلتلحظ في المثال السابق كيف يتطابق الريع مع الاحتكار. الاحتكار وضع يؤهل صاحبه لتحصيل ربح كبير بسبب غياب المنافسة، أو يؤهله لاقتطاع نسبة ضخمة من فائض القيمة المنتَج في مجمل سلاسل الإنتاج التي يشكل الجزء المُحتكَر حلقةً فيها. من البداهة أن الربح يتناسب طرديًا مع قدرة مشروع ما على احتكار موضوع عيني أو نوع بعينه من المعاملات، ويتناسب عكسيًا مع تنافسية السوق، وهذه العلاقة بين التنافس وانخفاض هامش الربح كانت من الأعمدة الإيديولوجية لتسويغ حرية الاقتصاد. مع ذلك، لم تعرف الرأسمالية الحرية الشاملة للاقتصاد قط، لأن الرأسماليين يسعون وراء تعظيم الربح لمراكمة رأس المال بأكبر قدر، ولهذا لا يعوزهم الدافع للسعي في طلب الاحتكار، بل هم مدفوعون نحوه بحكم البنية، التي تسوقهم نحو استقطاع أكبر ربح ممكن عن طريق الهيئة الوحيدة المخوَّلة بضمان هذا الربح وتأبيده، أي الدولة.


إن العالم الذي أقدمه في هذا التحليل يقف على رأسه، فالرأسماليون لا يسعون فيه للتنافس بل للاحتكار، ويريدون مراكمة رأس المال لا بالتربح بل بالريع، ولا يطمحون لأن يكونوا بورجوازيين بل أرستقراطيين. ولأن العالم قد زاد تشبعًا بالمنطق الرأسمالي منذ القرن السادس عشر إلى اليوم، فإننا الآن نجد مزيدًا من الاحتكار لا أقل، ومزيدًا من الريع لا التربح، ومزيدًا من الأرستقراطية لا البورجوازية.


لعلك تعترض بأن هذه لا تبدو صورة مألوفة للعالم الذي نعرفه، وليست تأويلًا مقبولًا للتاريخ الذي درسناه، وأنت في ذلك محق، لأنني لم أحكِ لك إلا نصف القصة فقط. ليست الرأسمالية «وضعًا»، إنها عملية ونظام تاريخي يحمل في جوفه منطقًا وتناقضًا محركان، وبعبارة أخرى، تحتوي الرأسمالية على نزعات تاريخية كما تحتوي على دورات إيقاعية، ونحتاج أن ننظر إليهما بالتوازي. النزوع التاريخي للرأسمالية من جهة موضوع بحثنا الحالي، أي البورجوازية، هو النزوع التاريخي الممثل في العملية التي سميناها «تحولًا بورجوازيًا»، وهي تعمل في اعتقادي على النحو التالي.


يطلب منطق الرأسمالية نوعًا من البيوريتانية المقتصدة ويكافئ البخلاء وكارهي المباهج، لكن سيكولوجيا الرأسمالية تشجع بالعكس على الرخاء والوفرة المعدودَين علامة على النبل أكثر حتى من كونهما علامة على السلطة، وهي من هذه الجهة تشجع على التصريح بالثروة والاستهلاك. يحل النظام هذا التناقض ببسط مكوناته المتعارضة على هيئة تتابع جيلي، وهي الظاهرة التي تمثلها عائلة بودنبروك، ويعني هذا أن أي تركز للرأسماليين الناجحين ينطوي بالضرورة على بذور التفسخ البودنبروكي، مثلما كان الحال مع التحول الأرستقراطي للبورجوازية الهولندية في القرن السابع عشر. وعندما تتكرر هذه العملية التراجيدية مجددًا كمهزلة، نسميها خيانة البورجوازية دورها التاريخي، مثلما كان الحال في القرن العشرين في مصر.


لا ينبغي الخلط بين هذا النزوع للتحول الأرستقراطي وبين مسألة البورجوازي كمستهلك، إذ أن نزوع البورجوازية للمزاج الأرستقراطي كان ضامرًا منذ البداية في موقعه الريادي والاستثماري. انبنى المشروع الرأسمالي حتى القرن التاسع عشر، ومع استثناءات قليلة تمتد إلى اليوم، على علاقات عمل تضع المالك في موقع الأب والوصي، فهو مهموم بموظفيه، يوفر لهم سكنًا ونظامًا ما للضمان الاجتماعي، ولا ينشغل بعملهم وحده وإنما بسلوكهم في مجمله. لكن مع مرور الوقت ازداد تمركز رأس المال نتيجة السعي وراء الاحتكارات وإبعاد المنافسين، وهي عملية بطيئة الوقع بسبب المزاحمة الدائمة التي تنجح باستمرار في الانقلاب على أنصاف الاحتكارات، فاستمرت هياكل المؤسسات التجارية في التضخم، وبدأ فصل الملكية عن الإدارة، فانحسرت هذه الوصاية «النبيلة» في علاقات العمل ونشأت الشركة الحديثة، وانبثقت معها الطبقات الوسطى الجديدة إلى الوجود. وفي الأنظمة الأضعف للمناطق الطرفية وشبه الطرفية حيث تكون الشركات مملوكة للدولة، تأخذ الطبقات الوسطى الجديدة الهيئة التي سميناها بورجوازية حكومية، وفي جميع الحالات تؤول هذه العملية نحو إضعاف الدور المباشر للمالك الشرعي وقد تؤدي لإلغائه.


كيف لنا أن نفهم هذه الطبقات الوسطى الجديدة، أو «البورجوازية المأجورة»؟ هي بالتأكيد بورجوازية من جهة أنماط الحياة والاستهلاك، وربما من جهة تحصيلها قسمًا من فائض القيمة، ولكنها ليست بورجوازية، أو هي أقل بورجوازية، من جهة حيازتها رأس المال وحقوق المِلكية. هذه البورجوازية أقل قدرة بكثير من البورجوازية الكلاسيكية على إبدال الريع بالربح، أو على التحول الأرستقراطي، وهي لا تقتات بامتيازات موروثة، وإنما بامتيازات تحصل عليها في الحاضر. تعجز هذه البورجوازية عن تحويل الدخل الحاضر، أي الربح، إلى دخل مستقبلي، أي ريع، ولا تقدر على تمثيل ماضٍ يرثه خلَفها، بل يجب عليها كما يجب على أبنائها وأبناء أبنائها العيش جميعًا في الحاضر. التحول البورجوازي هو هذه العملية التاريخية بالضبط، هو انقطاع القدرة على التطور إلى أرستقراطية، ومعه نهاية حلم كل بورجوازي من أصحاب المِلكية. التحول البورجوازي هو نهاية إمكان بناء المستقبل على الماضي، وحكم تاريخي بالعيش في الحاضر.


لتتأمل في التشابه اللافت بين هذه العملية وبين العملية التي تُعرف في تراثنا النظري باسم «التحول البروليتاري»، وهو تشابه لا تطابق. البروليتاري في العرف الشائع عامل لم يعد فلاحًا (أي مدير صغير للأرض) ولا حِرفيًا (أي مدير صغير للورشة)، وإنما شخص لا يملك غير قوة عمله يبيعها في السوق، فليس له موارد (أي ماضٍ) للارتكاز عليه، فقط حاضر يتعيَّش به. أما البورجوازي الذي وصفناه فلا يملك السلطة أيضًا على رأس المال (ومن ثمَّ فليس له ماضٍ)، وهو يتعيَّش بدخله الحاضر، لكن مع ذلك ثمة فارق بارز بين البورجوازي والبروليتاري، هو أن الأول أكرم عيشًا بكثير. وعلى الرغم من أن هذا الفارق لا يتعلق في ظاهره بالسلطة على وسائل الإنتاج، يستمر الموظف الذي أنتجته عملية التحول البورجوازي هذه في اقتطاع قسم من فائض القيمة الذي ينتجه العامل، حاصل عملية التحول البروليتاري. فإن لم يكن هذا نتيجة السلطة على وسائل الإنتاج، فلا بد أن البورجوازي يملك شيئًا آخر لا نعرفه، فيما يفتقر البروليتاري إليه.


رأس المال البشري


هنا تحين الإشارة لمفهوم شبه نظري آخر هو «رأس المال البشري»، وهو رأس المال الذي يملكه البورجوازيون الجدد وفيرًا، ويعوزه البروليتاريون. فمن أين يحصل البورجوازيون على رأس المال البشري هذا؟ الإجابة معروفة، في أنظمة التعليم التي تهدف أساسًا وبوعي إلى تدريب الناس لإلحاقهم بالطبقات الوسطى الجديدة، أي كي يصبحوا مهنيين وتقنيين ومديري شركات خاصة وعامة تشكل أحجار البناء لنظامنا الاقتصادي.


لكن هل تقوم أنظمة التعليم في العالم بالفعل على خلق رأس المال البشري، أي تمرين الأشخاص على مجموعة معقدة من المهارات المستحقة للمكافأة؟ لا يصعب الحِجاج بأن أعلى قمة هذه الأنظمة ينجز جزئيًا مهمة كهذه، لكن الأغلب الأعم من أنظمة التعليم إنما يخدم غاية مختلفة، هي التنشئة الاجتماعية المعيارية والغربلة، أي القيام على رعاية وانتخاب الأفراد الذين سيخرجون لاحتلال مواقعهم داخل الطبقة المتوسطة الجديدة. فكيف تجري هذه الغربلة؟ أولًا وفق نظام للجدارة، فتضمن أنظمة التعليم ألا يحصل معتوه على شهادة دكتوراه (يُقال إن هذا نادر على الأقل)، لكن لأن الكثير والكثير من البشر، لا القليل منهم، لديه الجدارة (الكافية على الأقل لعضوية الطبقات الوسطى الجديدة)، فإن هذا الانتخاب مضطر لأن يكون في التحليل الأخير اعتباطيًا بقدر.


لكن أحدًا لا يعجبه الاعتباط وحكم الصدفة، لذا يبذل معظم الناس جهدهم لتجنبه، فيستخدمون ما يملكون من نفوذ هزيل لضمان الفوز، أي ضمان الامتياز، ومن يملك الامتياز يضمن بدوره مزيدًا من النفوذ. إن الشيء الوحيد الذي تستطيع الطبقة الوسطى الجديدة توفيره لسلالتها هو التعليم «الأفضل»، بعد أن أصبح توفير الماضي مستعصيًا أو مستحيلًا.


وليس من الغريب أن قواعد النظام التعليمي وبنائه، بأوسع معاني هذه المفاهيم، هي اليوم واحدة من بؤر التنازع السياسي، وهو ما يعود بنا مجددًا إلى أحضان الدولة. فمع أن الدولة تزداد مع الوقت عجزًا عن وهب الماضي وتأبيد الامتياز وشرعنة الريع، بسبب أن أهمية المِلكية تتضاءل في السيرورة التاريخية للرأسمالية، فإن هذا لا يعني خروجها من المشهد، بل بالعكس، أصبحت الدولة الآن واهبة الحاضر لصاحب الجدارة بعد أن كانت واهبة الماضي لصاحب الشرف. نقع بالطبع داخل هذه البورجوازية المهنية المأجورة بلا أملاك على مسارات للترقي تتاح لأصحاب المواهب، لكن المواهب وفيرة، ولذا ينبغي لشخص ما أن يقرر في النهاية من الأكثر موهبة ومن الأقل، وهذا القرار إذ يُؤخذ على أساس من اختلافات طفيفة فهو في جوهره قرار سياسي.


لنوجز الصورة التي رسمناها إذن. تطورت طبقة بورجوازية في السياق الرأسمالي، لا شك في ذلك، لكن البورجوازية المعاصرة لا تشبه تجار العصور الوسطى الذين وهبوها اسمها إلا بأقل قدر، ولا تشبه، إلا بأقل قدر كذلك، رجال الصناعة الرأسماليين للقرن التاسع عشر الذين صيغ في قالبهم مفهوم البورجوازية المُستخدم في العلوم الاجتماعية التاريخية حتى اليوم. لقد وقعنا في إسار السمات العارضة للمفهوم وارتبكنا بإزاء الجهد الإيديولوجي للتشويش على معناه. يبقى البورجوازي مع ذلك بطلًا مركزيًا لدراما الرأسمالية بتحصيله فائض القيمة من المنتجين، ويبقى بطلًا مركزيًا في حقل السياسة لا الاقتصاد وحده، على الرغم من الادعاء القائل إن الرأسمالية ظاهرة تاريخية فريدة في فسخها العِقد بين الاقتصادي والسياسي، وهذه مقولة تعمل لتشويه الواقع وصونه في آن.

أما قضيتي الأخيرة فتتعلق بالقرن الحادي والعشرين، وتحديدًا بمشكلة نظام الامتياز البورجوازي القائم على الجدارة. تكمن المشكلة في كون هذا النظام هشًّا يصعب الدفاع عنه لضعف أساسه، فربما يقبل المضطهدون حكم واستغلال النبالة التي حازت امتيازها بحكم المولد، أما أن يقبل المرء استغلاله من قبل شخص آخر لدعواه المشكوك فيها إنه أذكى، فهذا كثير على الاحتمال. يصبح الظلم عندئذ أجلى للعيان، وفي غياب القيصر ورجل الصناعة الأبوي الذي يستوعب غضب العمال، يصير هؤلاء أقدر على استبصار التفسيرات الساذجة لبؤسهم وفهم قصورها. هذا ما تحدث عنه باجوت وشومبيتر، فوضع باجوت أمله على الملكة ڤيكتوريا، لكن شومبيتر، الذي جاء لاحقًا من ڤيينا بدل لندن، ثم درس في هارڤرد فكان أفضل إلمامًا بالصورة، بدا متشائمًا. عرف شومبيتر أن لا شيء من هذا سيبقى، ما دام تحول البورجوازي المنشود نحو الأرستقراطية قد أصبح مستحيلًا.

 

الهوامش: [1] G. Matoré, Le Vocabulaire et la société médiévale, Paris 1985, p. 292. [2] G. Duby, Les Trois Ordres ou l’imaginaire du féodalisme, Paris 1978. [3] M. Canard, “Essai de sémantique: Le mot ‘bourgeois,’” Revue de philosophie française et de litterature, XXVII, p. 33. [4] D. J. Roorda, ‘The Ruling Classes in Holland in the Seventeenth Century,’ in J. S. Bromley and E. H. Kossman, eds, Britain and the Netherlands, II, Grönigen 1964, p. 119; and idem, ‘Party and Faction,’ Acta Historiae Nederlandica, II, 1967, pp. 196–7. [5] A. Berle and G. Means, The Modern Corporation and Private Property, New York 1932. [6] See, for a notable example, C. Wright Mills, White Collar, New York 1951. [7] See, for example, A. Gorz, Stratégie ouvrière et néocapitalisme, Paris 1964. [8] F. Fanon, The Wretched of the Earth, New York, 1964, pp. 121–63. [9] K. Marx, F Engels, The Communist Manifesto [1848], New York 1948. [10] W. Bagehot, The English Constitution [1867], London 1964. [11] M. Weber, Economy and Society [1922], III, New York 1968, e.g. pp. 1403–5. [12] J. Schumpeter, Capitalism, Socialism and Democracy, New York 1942, Ch. 12. [13] R. Miliband, The State in Capitalist Society, London 1969; N. Poulantzas, Political Power and Social Classes [1968], NLB, London 1973; and see the debate in New Left Review 58, 59, 82 and 95. [14] E. P. Thopson, The Making of the English Working Class, revised edn, London 1968. [15] C. Morazé, Les Bourgeois Conquérants, Paris 1957. [16] D. Landes, Prometheus Unbound, Cambridge 1969. [17] E. Durkheim, Suicide [1897], Glencoe 1951. [18] E. Fromm, Escape from Freedom, New York 1941. [19] M. Weber, The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism [1904–05], London 1930. [20] G. V. Taylor, ‘The Paris Bourse on the Eve of the Revolution,’ American Historical Review, LXVII, 4, July 1961, p. 954. See also M. Vovelle and D. Roche, ‘Bourgeois, Rentiers and Property Owners: Elements for Defining a Social Category at the End of the Eighteenth Century,’ in J. Kaplow, ed., New Perspectives and the French Revolution: Readings in Historical Sociology, New York 1965; and R. Forster, ‘The Middle Class in Western Europe: An Essay,’ in J. Schneider, ed., Wirtschaftskräften und Wirtschaftswege: Beitrage zur Wirtschaftsgeschichte, 1978.

[AE1]Non-specialized economy

Comments


bottom of page